اكتبوا بلغتكم المقدسة
من قلم غالب أحمد الغول
تشرين1/2010
@@@@@@@@@@@

كم عدد المبدعين والمفكرين الذين هم في بيوتهم يريدون الكتابة للتعبير عما في نفوسهم ؟ ولكن مشكلة جهلهم بالمفردات اللغوية الفصيحة الرصينة والممهورة بالنحو والصرف , جعلتهم يكتمون كل ما في صدورهم خجلاً من الظهور أمام مطرقة هيئة النحويين خاصة , وبهذا يخسر المجتمع شريحة من أبنائها لديهم طاقة التفكير والإبداع لا يستطيعون الجهر بما لديهم , لأن جيلنا هذا لا يزال يردح تحت أحكام طبقتين متخاصمتين من التيارات , وهما تيار اللغة الفصيحة , وتيار العامية , طبقة تريد التعبير عن هواجسها وأحاسيسها بالعامية شعراً ونثراً وخطابة , وطبقة تقف ضدها ومعها هراوات التسلط ضد من لم يستعمل اللغة الفصيحة , فلا يُسمح لهم ولو بصرف ما لا ينصرف , علماً أن اللغة الفصيحة تعتبر شقيقة اللهجة العامية منذ أن بدأت اللغة وإلى يومنا هذا , ولقد مرّ على العرب لهجات يمنية قديمة لا تزال شعوب العالم العربي تتعامل معها ليومنا هذا مثل ( الكشكشة والكسكسة والاستنطاء والعجرفية والعجعجة والثلثة والشنشنة والغمغمة والفحفحة والطمطمانية وغيرها ) ولا نريد العودة إلى الوراء لاستخدام هذه اللهجات التي لو صلحت لما تقلصت ومات أكثرها, ولو استعملناها لأصبح لدينا عشرات اللغات , بعد أن وحدها الإسلام بلغة واحدة إلا وهي لغة قريش , لأن اللغة العامية ــ التي لا تغني عن الفصحى شيئاً ــ محدودة المساحة الجغرافية ولا تتعدى حدود القطر أو العشيرة العربية التي تتكلم بهذه اللهجات , وهذا يختلف عن المساحة الجغرافية الواسعة التي تنتشر فيها اللغة العربية الفصيحة , في الوقت الذي كانت فيه اللغة العربية قبل ظهور الاسلام , لغة قوم أبدعوا في علم التنجيم الأنساب والفراسة والشعر والأدب , فلم يكن يحكمهم صرف ولا نحو , بل كانت اللغة على طبيعتها من غير تكلف , إلى أن جاء هذا الجيل الذي يريد أن يعبر عن احساسه بلغة يفهمها الناس فوراً من غير صعوبة في اللفظ أو التقيد في الأحكام اللغوية التي لم يألفها ولم يتقنها معظمهم , فالتجأ إلى العامية , على غير هدى , وألفوا المسرحيات بالعامية والفصحى معاً , ليظهروا منها الفن الإبداعي والجمالي على المستويين الفصيح والعامي .
ومن هذا المنطلق نستطيع القول :
فليصنع الكاتب ما يشاء، وبأي لغةٍ تيسرها مواهبه، ولو كانت غير عربيّة! دون أن نخشى على لغتنا الفصيحة من الضياع , لأنها ستظل أعم وأشمل استعمالاً من اللهجات المتفرقة , والمحصورة بضعفها أمام اللغة الفصيحة .

ولا نطلب من الكاتب أن يكتب شعره كما كتبه الجاهليون , من جزيل اللفظ وغريب المفردات , بل يستطيع كل كاتب أن يستعمل المفردات السهلة والمعبرة بمفردات عصره وما تيسره من معنى يقترب إلى الأذهان لتحليله الفوري بالانفعال العاطفي السريع . ليقترب الكاتب إلى التعبير الفني والإبداعي, وليس ليقترب إلى النحو والصرف بتعقيد الكلمات المعجمية , بل لتكون اللغة العامية واللغة الفصحى أداة للتعبير الفني والإبداعي والإنتاجي , وليس فقط للبناء النحوي والصرفي .

فنحن نكتب لنقوم بواجب إنساني , لكي نحاكي موروثنا وحاضرنا , ونكتب لنربح شيئاً عجزنا عن القيام به ,أو لنكسب لذة إبداع للنهوض به وكشفه , أو لنكشف حقيقة غامضة ,أو للتواصل الذي فيه المودة والرحمة بين الأهل والأقارب ,أو لنزيل عن أنفسنا كربة حلت بنفوسنا, ليزول بعض همنا . ثم إننا نكتب لنجعل الآخر يكتب مثلنا , ونبدع لأجل أن يبدع غيرنا .

وما دمنا نفكر بالعامية فلن نفلح بالكتابة بالفصحى , ولكي نفلح بالفصحى فاليكن تفكيرنا بها دائماً .

نعم لقد كان للمستشرقين اليد الطولا في خلق مشكلة تشجيع انتشار العامية على حساب الفصحى , وعلى رأسهم (ولهلم سبيتا ) الألماني الذي حاول وضع قواعد للعامية المصرية , ثم جاء المستشرق الحاقد ((وليم ويلكوكس)) 1883 الذي كان أكثر حماساً لانتشار العامية وتعميدها لتحل محل الفصيحة , علماً أن اليهود نبشوا قبورهم القديمة ليكتشفوا مفردات لغتهم ليعدوا إليها الحياة من جديد .

وعلينا أن نثق بقدرة لغتنا ولا نتهمها بالقصور , فالأمم هي التي تبيد لغتها أو ترفع من شأنها . وأما الذين يفكرون بالحداثة وتطور مفهومها , فما هم إلا أتباع لغيرهم من الغربيين , لأن أبسط مفهوم للحداثة لا يبتعد عن كونها شر واستغلال وعوامل سيئة هابطة مضرة للبشرية , فسلطوا ألسنتهم ضد لغتنا الفصيحة ونسوا غيرها , وكأن لغتنا العربية عاجزة عن تحقيق ما نصبوا إليه من تطور حضاري أو بناء مستقبل .

ولقد حاول مارون النقاش كتابة مسرحيته ( البخيل ) المترجمة عن ( موليير ) بلغة حوارية استعمل فيها الفصيحة والعامية , ثم تبعه آخرون لينتهجوا النهج نفسه , لكنهم شعروا بخطورة هذا العمل المسرحي , وأصروا على لزوم لغة حوار مسرحي موحدة , يفهمها كافة الناس , ولغة أخرى بالفصيحة لكتابة القصص والأعمال الأدبية الأخرى , لكنهم ظلوا في حيرة من التوافق بين العامية والفصيحة , وبخاصة عندما دخل لغتنا العربية آلاف المفردات الأجنبية التي يتداولها الناس في لغة الحوار , وحين اكتسبت لغتنا مئات المفردات من لغات الشعوب الأخرى والتي لا نترك مجالاً لتركها .

وليتنا نتناول في حديثنا لغة واحدة موحدة لينضح الناس ما عندهم من ابتكار ومعرفة , لغة موحدة تضم نحونا وصرفنا وتضم مفرداتنا المستحدثة ضمن نطاق اللغة العربية الواحدة , والتي يتحدث بها أكثر من 450 مليون عربي وأجنبي , لأنها لغة مقدسة , فهي لغة القرآن ((("إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون))) (الزخرف: 3) وهي لغة الكتب السماوية في بعض الكنائس , إلى أن أصبحت اللغة العربية هويتنا, وهوية ديننا الحنيف , وهي الوعاء الذي به يتم تفاهمنا به , ويتم حوارنا بموجبه .

لقد دخلت اللغة العربية أنظمة الكمبيوتر بفصيح الكلام , وهذا للمحافظة على جوهر لغتنا من التشتت والضياع .
والمبهج حقاً أن المتحدثين باللغة الفصيحة من غير العرب كالصينيين وغيرهم يتقنون التحدث بلغتنا بمهارة تكاد تفوق مهارتنا , وهذا مؤشر واضح على بقاء لغتنا نقية صالحة من الشوائب .

نحن نستطيع التحدث بالعربية الفصيحة فيما بيننا , كلغة تخاطب وتفاهم ولغة حوار نافع , ولكن ستلحقنا سخرية الآخرين من العرب أنفسهم , وكأن المتحدث بالفصحى أمر عجيب , أوكأن لغتنا تولد الرعب والخوف والرهبة , خشية من وقوع الأخطاء اللغوية أمام فلاسفة اللغة بنحوهم وصرفهم , فلا يجرؤ أحد التحدث معهم أو أمامهم .

ولذلك فإنني أنصح الكتاب أن يكتبوا ويكتبوا حتى وإن سخر منهم الآخرون حين يقعون في خطأ نحوي أو إملائي , المهم الممارسة على الكتابة , ليعبر الشخص عن مكنون إبداعه , وعليه أن لا يخشى من أحد , بل عليه بالصمود والثبات والاستمرار في الكتابة بلغة فصيحة بقدر استطاعته , فالذي يسير ميلاً يستطيع أن يصل في النهاية بعد أن يقطع ألف ميل . وأثناء كتابتك لا تفكر في الأخطاء النحوية أو الصرفية , لأنك لو كنت تخشى ذلك فلن تكتب موضوعاً واحداً قط , بل اكتب ثم اكتب ثم اكتب , وبعد الكتابة اقرأ ثم اقرأ ثم اقرأ , وبعدها سيستقيم لسانك وتتحسن كتابتك , واستكثر من كتابتك , وكلما كتبت أكثر كلما زادت أخطاؤك أكثر , ولكن زيادة الأخطاء ليست أهم من الإنتاج المعرفي والإبداعي لبلوغ هدفك وأمنية نفسك , فلا تجعل كلماتك عاجزة عن كشف حقيقتك حتى ولو كانت بالعامية ( وضعها بين قوسين ).واسخر من الآخرين قبل أن يسخروا منك .