المخذّلون...
منذ يومين اتصل بي أخ لي وحكى أمراً وقع له وترك في نفسه جرحاً غائراً، إذ كان وراء الموقف من حسبهم زماناً "أصدقاء" بالمفهوم القرءاني للكلمة، ولأنهم عنده كذلك تحمّل منهم الكثير سابقاً، إلا أن الموقف الأخير كان حقاً قاسياً... ذكرني كلامه بمواقف مشابهة مرت بي، وربما مر بعضنا بمثلها أو قريب منها، فأثار ذلك هذا السؤال:

هل يستحق أمثال هؤلاء المخذّلين منا التسامح؟!!!

وتذكرت بيت المتنبي:
ووضعُ الندى في موضع السيفِ بالعلا ** مضرٌّ كوضع السيفِ في موضع الندى



فكتبت تلك السطور وضمنتها عبارات أعجبتني -لكنها ليست لي-، وأحببت أن أشاركها معكم وأسمع رأيكم إن سمح وقتكم دام فضلكم.


لا يختلف اثنان على أن التسامح قيمة راقية في حياة البشر أيا كانت مذاهبهم أو مشاربهم...

لكن ثمة فرقا دقيقا بين معاني قد تبدوا متداخلة، كالفرق بين الثقه بالنفس وبين الغرور، بين التواضع وبين الذل، بين الاحترام وبين الخوف، بين المسالمة وبين الاستسلام، بين الصراحة وبين الوقاحة، بين الغبطة والحسد، بين الحياء وضعف الشخصية، بين الفراسة وسوء الظن، بين القصد والبخل، بين النصيحة والفضيحة، بين عزة النفس والكبر... إلخ.

وربما خلط الناس بين القدرة على التسامح وبين الضعف والاستكانة.. وخاصة من لا يجيد تلك اللغة منهم أو من كان إداركه لهذه القيم السامية دون المستوى...

لا أخال أولائك الذين يتعمدون الإساءة بل ويستمرؤنها في كثير من الأحايين - يقدّرون كظم الغيظ حين الإساءة ثم العفو بعدها حقه، ولعلهم عدوه -مخطئين- ضعفاً واستكانة!!!

وربما خلفت إساءاتهم فينا جراحا داميات لا يرى دمها ظاهرا لكنها تنزف في الأعماق...

وصدق الإمام على رضى الله عنه إذ قال: إذا وضعت أحدا فوق قدره فتوقع منه أن يضعك دون قدرك... وهذا حق مع من لا يعون معني القوة فيمن يملك نفسه عند الغضب.


أمثال هؤلاء عندما يخذلون إحساسك الجميل، ويكسرون أحلامك بقسوة، ثم يرحلون عنك كأيام العمر، تاركين في قلبك جرحا يكبر باتساع الفراغ خلفهم، ثم تأتى بهم الأيام إليك من جديد،

ماذا تقول لهم؟

وكيف تستقبل عودتهم؟


وهل يستحق هؤلاء التسامح؟!!!

قل لهم.. أن لكل إحساس زمان، لكل حلم أو حكاية زمان،
قل لهم.. لكل حزن أو فرح زمان، لكل فارس ميدان وزمان، وأن زمنهم انتهى بك منذ زمان.

قل لهم .. أنك بكيت خلفهم كثيرا حتى اقتنعت بموتهم.
قل لهم .. أنك لفظت آخر أحلامك بهم حين لفظتك قلوبهم.
قل لهم .. أنك لا تملك قدرة إعادتهم إلى الحياة فى قلبك مرة أخرى بعد أن اختاروا الموت فيه.
قل لهم .. أن صلاحيتهم انتهت وأن النبض فى قلبك لا يستشعرهم.. وأن ذاكرتك لا مكان فيها لهم.


قل لهم .. أنك أعدت ولادتك من جديد.
قل لهم .. لم يتبق لهم فيك سوي ذكرى أمس بكل ألم وأسي.
قل لهم .. أنك حرصت على تنقية المساحات الملوثة بهم منك.
قل لهم .. أنك أعدت طلاء نفسك بعدهم وأزلت بصماتهم من جدران أعماقك، واقتلعت كل خناجرهم من صدرك...

قل لهم .. أنك نسيتهم وأدرت لهم ظهر قلبك..

قل لهم .. أنك ذات يوما خلفتهم ورائك كما خلفوك فى الوراء، والعمر لا يعود الى الوراء أبدا، والايام لا تتكرر والمراحل لا تعود..
قل لهم .. أنك نزفتهم فى لحظات ألمك مع الدماء التي أسالتها جراحهم، وأنك أطلقت سراحهم منك كالطيور وأغلقت دونهم الأبواب وعاهدت نفسك ألا تفتحها إلا لمن يستحقون.

قل لهم .. أنك نسيت معنى الانتظار فلم تعد تقف على محطات عودتهم تترقب القادمين بشوق وتدقق فى وجوههم باحثا فى زحام المسافرين عن ظلالهم عل صدفه تأت بهم إليك.
قل لهم .. أن رحليهم جعلك تعيد اكتشاف نفسك والأشياء من حولك فأدركت أنهم ليسوا آخر المشوار ولا آخر الأحساسيس والأحلام وأن هناك دونهم ما يستحق أن تستمر الحياة.

قل لهم ..

لا تقل لهم شئ...
بل استقبلهم بصمت... فللصمت أحيانا قدرة فائقة على التعبير عما تعجز الكلمات عن توضيحه.
والصمت أبلغ في جراح الحادثات من الفم...
ثم امض فى طريقك، فلعلك تجد فى الجهة المقابلة من يستحقك أكثر منهم.

ولكن فوق كل ما سمعت ما نطق به القلم تذكر قوله تعالى ( فمن عفى واصلح فأجره على الله ) صدق الله العظيم --

قاتل الله الأنا - قالها ابليس فطرد من رحمة الله