جريدة اليوم تفضح مستغلي العاطفة الانسانية
(لكنها بصراحة غدت ظاهرة عامة في الوطن العربي)


فنون المتسولين "تدوخ" عقول الباحثين عن مجتمع نظيف

ينبوع الظاهرة يتدفق خلال مواسم الحج والعمرة - العباءات السوداء تستر خلفها "بلاوي"!

الرياض - منصور العمري
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

عباءة تخفي وراءها الكثير

يأتي كثير من محترفي مهنة التسول ممسكين بضرع البقرة الحلوب رغم ماتشنه حملات المكافحة من ملاحقات ضعيفة مستمرة لتخفيف ينابيع الظاهرة الاجتماعية التي شغلت ولاتزال بال الباحثين الاجتماعيين وجهات الاختصاص بادارة مكافحة التسول التابعة لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية واضحت الظاهرة هما حقيقيا جديرا بالمتابعة والمعالجة لاسيما وانها تسيء الى سمعة بلد كالمملكة العربية السعودية وتعطى انطباعا مخالفا لما تبذله حكومة خادم الحرمين الشريفين من رعاية كريمة للمواطن وذلك بايجاد الحلول المثلى لمساعدته بتوطين الوظائف للقادرين على العمل والدعم المباشر لاولئك العاجزين عن طريق مكاتب الضمان الاجتماعي والجمعيات الخيرية التي لاتألو جهدا في تقديم العون لهؤلاء المحتاجين ووجد اغلب المتسولين الاجانب في المملكة مرتعا خصبا لممارسة هوايتهم المحببة التي تدر عليهم اموالا طائلة دونما عناء ومشقة وجهد يبذل بل قليل من دموع التماسيح يذرفها المتسول امام المواطن السعودي صاحب القلب الابيض والمقدام لاعمال الخير فيجود عليه بحفنة من الريالات وهكذا دواليك بين مواطن وآخر حتى تصل حصيلته في اليوم الواحد مبلغا خرافيا يغريه بمزيد من الملاحقة ومطاردة عباد الله الصالحين اما المتسولون السعوديون فنجد كثيرا منهم اصحاب حاجات حقيقية لم تتم معالجة اوضاعهم او قلد بعضهم بعضا في ايجاد وسيلة كسب العيش الرخيص وهؤلاء من الاحرى ان يتم توفيق اوضاعهم حسبما تنص عليه اللوائح والقوانين بادارة مكافحة التسول.
ولما حبا الله المملكة العربية السعودية واختصها دون غيرها بالحرمين الشريفين اصبحت قبلة يرتادها المسلمون من كل جهة لاداء المناسك من حج وعمرة وزيارة وهذا مما سهل من مهمة المتسولين الوافدين الذين يأتون تبعا لافواج الحجيج منتهزين فرصة عدم الحجر على احد لزيارة البلد الحرام ومن هنا يبدأ ركض المتسولين بعاهاتهم المميزة استدرارا للعطف واغداق الاموال عليهم في مناطق مكة المكرمة والمدينة المنورة ومساجد المملكة عامة واماكن التجمعات وفي الاسواق واشارات المرور بل حدا الامر ببعضهم الى طرق ابواب المنازل دونما وجل او خوف من احد وتميزت مواسم الحج والعمرة بزيادة ملحوظة اضحت هاجسا يؤرق مضاجع القائمين على امر مكافحة الظاهرة المزعجة.
ولمعرفة المزيد من الاسرار الكامنة وراء ستار المتسولين فقد توغلت (اليوم) في دهاليز اصحاب المهنة المميزة واستنطقت عددا منهم ثم حملت القضية برمتها لاصحاب الاختصاص بادارة المكافحة للحصول على الجهود الداعمة لايقاف الظاهرة واجتثاث شأفتها حتى نرى مجتمعا معافى من الدمامل والخدوش.
احتلال المساجد
بجوار احد المساجد في مدينة الرياض وقفت عيناي على ثلاث نسوة استترن خلف عباءات سوداء واحتلت كل واحدة منهن بابا من ابواب المسجد الذي يؤمه جمع غفير من المصلين اقتربت من احداهن وسألتها عن جنسيتها فادعت انها سعودية لكن لكنتها توحي بغير ماتقول ويبدو انها من جنوب آسيا سألتها كذلك عن دواعي مجيئها الى هذا المكان وامتهانها التسول بدلا من البقاء في منزلها فقالت انها تعول اطفالا صغارا توفي والدهم قبل سنوات ولا يجدون من ينفق عليهم ومضت تقول: لم اجد مكانا احصل منه على فلوس اشتري بها الخبز لابنائي افضل من المسجد والمصلون يعطونني مابين عشرين الى ثلاثين ريالا تكفيني لشراء الوجبات البسيطة لاطفالي.
قلت لها لماذا لا تذهبين للجهات الخيرية بدلا من المجيئ الى هذه المساجد وتتعرضين للاحتقار ونظرة الازدراء وربما تتعرضين لحملة مكافحة التسول التي تؤدي بك الى الحبس والمساءلة فكيف المخرج من هذا المأزق فقالت هناك جمعيات تعطيني شيئا قليلا لايكفي لسد رمق اطفالي الامر الذي اضطر معه الى الذهاب الى المساجد والاسواق لزيادة الدخل ولو وجدت من يتكفل باعاشتهم لما تكبدت مشاق التجوال وخالطت وزاحمت الرجال في امكانهم لكنها الظروف يا ابني ماذا افعل ارجوكم ان تحلوا مشكلتي او تذهبوا الى حالكم وتتركوا الناس في احوالها هذا الاجابة الدامغة وضعت امام مخيلتي عددا من علامات الاستفهام الحائرة والتي تجعل المرء عاجزا عن ايجاد حلول وقتية وسريعة وآنية لها وفعلا تركتها تحسب وتلملم ما رماه عليها المصلون من ريالات في وسط العباءة السوداء الفضفاضة.
مرور دوري
ومن اجل البحث عن الرزق باي وسيلة كان فان المتسولين يعرضون حاجاتهم حسب مقتضيات الزمان والمكان ولهم قدرة فائقة على سكب الدموع في حينها وهذا مارصدته مرارا ومن خلال تجربة متسول واحد التزم مرورا دوريا على المساجد وهذا لايذهب وحده كالمرأة التي تحدثنا اليها آنفا لكنه يتأبط صغيرا معاقا لايدري ان كان ذكرا ام انثى وعندما يفرغ امام المسجد من اداء الفريضة فانه يقفز بطفله مستقبلا المصلين ويسرد عليهم حكاية طويلة من المعاناة مع صغيره الذي اقعده المرض منذ ولادته وعدم حصوله على المال الذي يمكنه من مواصلة علاجه وربما يشفع هذه الحجة بعدة روشتات ووصفات طبية لايدري المصلون ان كانت صحيحة ام ضمن اساليب التحايل المشروع للمتسولين وفجأة تنهمر العيون بالدموع الساخنة ويطغى عويل الطفل الذي ربما يمسه ابوه بقرصة ساخنة في احد اماكن الجسد الحساسة. وقفت بجانب الرجل الى حين انقضاء المهمة التي جاء من اجلها وتحصل على مبلغ لا بأس به من المصلين لكن المبلغ بكل تأكيد لايساوي تكاليف فاتورة واحدة من حزمة مقدرة من الاوراق سألته عن مكان اقامته وعن نوع المرض الذي تعرض اليه طفله فقال انه جاء من خارج مدينة الرياض ويبدو انه من الهجر الطرفية ولهجته تؤكد ذلك وواصل حديثه عن الطفل وقال ان ابنه هو باكورة انتاجه وجاء مشلولا منذ ولادته وظروفي المادية ووضعي المعيشي لا يسمحان لي بادخاله المستشفيات في ذلك الوقت حتى تفاقمت المشكلة وعجز عن الحركة تماما قلت له بما انك سعودي فان علاج ابنك مجانا وفي ارقى المستشفيات بالمملكة لكن يبدو انك لم تذهب بابنك للمستشفى لعلاجه لانك ربما وجدت في علته ومرضه والتجوال به على المساجد مصدر رزق يومي في هذه الاثناء اكفهر وجهه وظهرت عليه علامات عدم الرضا ووجد مني غير ما كان يتوقع من دعم مادي وقال بلفظ خشن (ايش فيك انت اذا لم تبغ تساعدني فاقلب وجهك عني) وبالطبع فقط غادرته لا الوي على شئ.
اجراءات وحلول
اكتفيت في هذه الجولة بهذين النموذجين المختلفين لظاهرة التسول ثم حملت اوراقي واتجهت صوب وزارة العمل والشؤون الاجتماعية التي تتبع لها ادارة مكافحة التسول وطرحت على منضدة ادارة المكافحة اسئلة بدأتها بكيفية الحلول والخدمات التي توفرها مكاتب المكافحة للمتسول السعودي حتى لايعود للتسول مرة اخرى فاوضح مصدر مسئول بان وزارة العمل والشؤون الاجتماعية ممثلة في مكاتب المكافحة تسعى وفي ظل ماتوليه حكومة خادم الحرمين الشريفين من رعاية كريمة للمواطن الى ايجاد حلول لمساعدته ولضمان عدم عودته للتسول مرة اخرى وعند القاء القبض عليه يتم بحث حالته اجتماعيا واقتصاديا فاذا ثبت انه من ذوي الحاجة فتتم احالته الى مكاتب الضمان الاجتماعي او الجمعيات الخيرية او مكاتب العمل لتقديم العون والمساعدة له.
سألتهم كذلك عن الاجراءات التي تتخذ اذا كانت حالة المتسول السعودي حسنة او محتالا فاجاب المكتب إن دورهم في هذه الحالة احالة المتسول المحتال الى الشرطة لايقاع العقوبة عليه.
اما المتسول الاجنبي فبحسب الاجراءات فان السلطات تحرر له محضرا بعد القبض عليه وعلى المضبوطات التي بحوزته ويتم تسليمه للشرطة للتحقيق معه ومدى مشروعية اقامته في البلاد ثم يتم ترحيله وفق التعليمات الصادرة بهذا الشأن.
دور الباحثين
سألت عن دور الباحثين الاجتماعيين المنتشرين في مكاتب المكافحة فكانت الاجابة بانه عندما يتم القاء القبض على المتسولين تتم احالتهم الى الباحثين لدراسة ومعرفة الاسباب وراء الدافع الحقيقي لممارسة التسول ويتم فتح ملف من قبل الباحث الاجتماعي وبناء على ذلك يتم رسم الخطط العلاجية المناسبة للحالات لضمان عدم العودة للتسول مرة اخرى.
تطور التسول
وفي ردهم على اسئلة (اليوم) حول الجهات المناط بها مكافحة التسول غير وزارة العمل اوضح مسئول المكتب ان الظاهرة اصبحت تسيء الى سمعة البلد فاضافة الى انها ظاهرة اجتماعية فهي ظاهرة امنية كذلك حيث اصبحت الان تأخذ الشكل المنظم وليست وزارة العمل والشؤون الاجتماعية الجهة الوحيدة المسئولة عن مكافحة هذه الظاهرة بل هناك جهات ذات علاقة كالدوريات الامنية والجوازات وهيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
معالجة بالتوعية
وعن الجهود المبذولة للحد من الظاهرة الغريبة اوضح المكتب ان وزارة العمل والشؤون الاجتماعية قامت بانشاء احد عشر مكتبا للمكافحة وتم تجهيزها بمراقبين وسيارات واختصاصيين اجتماعيين وتسيير حملات يومية الى اماكن تواجد المتسولين في الاسواق وحول المساجد لمتابعتهم والقاء القبض عليهم ومعالجة اوضاع المواطنين وترحيل الوافدين اضافة الى تنظيم حملات توعوية تتضمن ارشاد المواطنين والمقيمين بعدم ممارسة التسول وابلاغ جهات الاختصاص عن اماكن تواجد ممارس هذه المهنة المرفوضة دينيا واجتماعيا ولكن امكانيات هذه المكاتب مع الاسف محدودة.
مواسم ومعالجة
سألنا ادارة المكافحة عن الاوقات التي تتزايد فيها حالات التسول فجاءتنا الاجابة متوافقة مع مايشاهده الناس فمواسم الحج والعمرة والاعياد تشهد زيادات ملحوظة في اعداد المتسولين الوافدين ونشاط حركة المتسولين السعوديين والحملات الميدانية المتتابعة دائما ما تؤتي ثمارها في الحين الامر الذي يساعد على الحد من الانتشار وكشف مكتب المكافحة بأنه القى القبض على 3087 متسولا سعوديا في نهاية العام 1422هـ وتم بحث حالات ومعالجة اوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية كل حسب حالته ضمانا لعدم عودته للتسول مرة اخرى وهذه الاساليب بحسب تقدير القائمين على امر ادارة مكافحة التسول كفيلة بوضع الحلول الجذرية لاستئصال الظاهرة وخلق مجتمع معافى ونقي من الشوائب.