السفر برلك الماضي. لجنة من الجيش العثماني كانت مهمتها جلب الشبان العرب
ما يحدث في سوريا يذكرني بالحرب العالمية الاولى التي شاركت بها سوريا وربما ما يحدث اخطر ففي اعوام 1914 الى 1918 تم قطع ملايين الاشجار لبناء خطوط سكك حديدية ...وحدثت مجاعات ...والجنود سرقو ونهبو ....واخير حاول الاهالي بشتى الوسائل تهريب ابناءهم من الذهاب للجيش او ما يعرف السفر برلك وغالبا كان سفر بلا رجعة ولهيك سموه السفر برلك
2خضعت سوريا حتى نهاية الحرب العالمية الأولى / 1918 / لنفوذ السيطرة العثمانية، وعندمــا دخلت تركيا الحرب إلى جانب ألمانيا ضد الحلفاء كانت تحتاج إلى عدد كبير من العسكر كوقود بشرية لأتون حربها ، وكانت تعتمد بذلك على أبناء المستعمرات الخاضعة لها 0 ولم يكن التــحاق الشباب بخدمة العسكر التركي عملية منظمة ، إذ حتى تاريخــه لم يكن هناك إحصــــــاء للنفوس وكانت السلطات العصملية تعتمد على المشايخ والمخاتير أسياد الريف السوري في ذلك العصـر0 وحيث ينتهي إلى يدهم أمر الحل والربــط ، يرســلون من يشاؤون من الفلاحين وأبنائهم إلـــــى الخدمة في الجيش التركي ، وكانت هذه الميزة من أشــد الأدوات الضاغطة التي اســــــــتخدمها أصحاب الشــأن لإخضاع الفلاحيــن وابتزاز ذهبهم وأتعابهم 0 والالتحاق بخــــــــــــــــدمة الجيــــــش التركي عملية منوطــة بموقف الوجهاء وأصحاب الشأن من هذا الفلاح أو ذاك 0
وكانت العادة أن يأتي موظفو الدائرة العســكرية من حماة إلى الســـقيلبية ليحلوا ضيــــــــــوفاً مُعَزَزين مُكَرَميــن على المتنفذين ويرجعون بعد أيام ومعهم من أموال الفلاحين ما لا يعلمــــــه إلا اللــه 0 يرجعون وهم يقتادون معهم بعض الفلاحين الذين لم ينالوا حظوة عند
( أصحــــــاب الشأن ) لعــدم استطاعتهم دفع الذهب ( البخشيش ) 0 يســوقونهم إلى مراكز المـــدن ليتجهوا مع إخــوان لهم من مختلف أنحاء الريف والمدن السورية إلى جبهات القتال يعملون بالســــــــــخرة
( الخدمة المجانية بدون مقابل ) أو الحرب دون ســابق تدريب ، وكانت الأســرة التي يؤخـــــذ أحد رجالها تنعي وتنوح باكية على مصيــر ه لأنه مفقـــود 0000مفقـــــــــود 0
حدثني عدد من أجدادنا قبل وفاتهم ( رحمهم الله ) عن الســفر برلك ، أذكــــــر من بينهم السيد
ســليم ديبو نعمة والسيد طنوس رحَّــال ، إذ كانوا من ضمن مجموعة ســلمهم أصحاب الشــأن إلى العســكر العصمــلي 0
قال لي المرحوم طنوس رحَّال :
(( كنت ضمن مجموعة يزيد عدد أفرادها على العشــرة من أبناء الســـقيلبية وكان جــــــــــدك
ســــابا قندراق معنا ، قادنا العسكر العصملي حُفاة من الســـقيلبية إلى معرة النعمان ، وكان أهلنا يسيرون وراءنا يبكون ويَّولولــون وهم يودعوننا ، وأذكر أن أهالينا لحقــــــــوا بنا حتى قلعــة المضيــق وذابت عيونهم من كثرة البكاء ، ثم عـــــــــــــادوا أدراجهم وهم يعلمون أنهم ودعونا وداعـــاً لا رجاء لهم بعودة لنا من َبعــده 0لم نعرف طعماً للماء ولا شــكلاً للطعــام لعــــــدة أيام وبقينا نســير حتى أُدميت أقــدامنا ، وما كان أمامنا إلا أن نمــوت عطشـــاً أو نَشــرب مـــن بولنا ، وقد احتفــظ كل منا بقســم من بوله بعلبة معدنية كنا نســتخدمها كحافظة للتتن ( الدخــان ) لنأخــذ منها عنــد اللــزوم ،
عجــزتُ عن متابعة المســير وقد أنهكني التعب وهَدَ مني الحيل لنحافة جســدي وصغـــــــــــر حجمــي ،ركلني العسكر التركي بأقدامهم وأكلت أخماص بنادقهم من لحمي فأغمـــــــــــــي علي وسقطت فاقدا الوعي ، فتركوني طريح الثرى لاعتقادهم أني ميتٌ بعد حين ، لكن رحمة اللـــه جل اســمه أنقذتني من مخالب الموت وعاودني الوعي ، وعندما نظرت حولي ولم أر أحــــــداً يممت وجهي نحو الجنوب ورحت أركض تارة وأتخفى كلما لمحت من يرتدي زياً عسكريا إلى أن وصلت إلى أهلي بعد عناء وجوع وعطش ،وبقيت متخفياً عن الأنظار زمناً طويلاً)) 0
أما المرحوم سليم ديبو نعمة فتحدث عن جلافة العسكر التركي وقسوة قلوبهم وســوء معــاملتهم قال لي ( كان الجنود الأتراك يحرقون من يسعُـل وهو حي لاعتقادهم بأنه مصاب بداء الســـــل خوفاً من تفشي الوباء بين صفوف الجيش ، كانوا يلجأ ون إلى الحرق ، نعم حرق العســــــــــكر التركي بعض رفاقي وهم أحياء ، وأخذوا من بقي منا بعربات قطار، ونزلنا في أرض لا نعــرف أســـمها وأعطونا سلاحاً وعلمونا كيف نستخدمه لنطلق النار على كل من يتحرك أمامنا 0 ويتذكر الجـــد المرحوم سليم ديبو نعمة ويستدرك قائلاً : وضعونا فوق أرض تــــــــدعى أرض البلغار( بلغاريا ) ، التي خضنـا فوقها معركة لا نعرف حتى الساعة ضد من وتابع يقـــول كان الجوع ألد عدو معروف نواجهه ، وحدث أن حضر إلى مقربة منا عسكرغير العسكر التركي ، شباب بيض الوجوه شـــــعورهم صفـــراء وبيضاء وعيونهم زرقاء وهندامهم أنيق ، ويضع كـــل منهم شـــارة الصليب على صدره وذراعه وعلمنا – لاحقاً – أنهم من الجيـــــــــــــوش الألمانية المتحالفة مع تركيا في الحرب 0
قلت في نفسي : أنهم مسيحيون مثلي فرسمت شارة الصليب على وجهي لأتقرب منهم ، ونجحت محاولتي فقدموا لنا الطعام اللذيذ من معلبات وفواكه وبسكويت وأنواع أخرى من الأطعمــــــــــة التي لا أعرف تسمية لها 000
وعن ظلم الجيش التركي ، قال لي بعد أن أغمض عينيه وفرك كفيه – حســرةً – وراح يــــــردد كلمات : يا حسرتي عَلي ماتوا بدون ذنب ، وبدون هدف أو غاية ، كان الضباط الأتراك – لعن الله ذكرهم – يأمروننا بحمل الجرحــى المصابين كي نُلقي بهم في بئر مُعَد لهذه الغايــــــــة ولا أنسى حتى أموت كيف حملت مع شخص آخر شاباً كان ينزف دماً نتيجة إصابة لحقــت به ، حملناه وهو ما يزال حياً إلى فوهة البئر ، وكان عسكري تركي يرافقنا ببندقيته ينحرنا بفوهتها كلما توقفنا – وعندما وصلنا إلى مقربة البئر – الجحيم – انبعثت من قاعه أصــــوات أنين تتقطع لهولها القلوب وتَشيب لها هامات الأطفال ، وعندما هممنا برفع الجريح لنلقي به صاح بصـــوت يقطع شــرايين القلب : ( دخيلكم لا ترموني ) فترددنا للحظة ، وضـــــــعناه جانب البئر إذ لا حول لنا ولا قوة ورحنا نبكي معه ، نبكي عليه اليوم ونبكي علـــــــى المصير المخَبأ لنا في الغد ، وما هي إلا لحظات وإذ بضابط تركي يهرول باتجاهنا شاهراً ســلاحه في وجهنا خاطب العسكري التركي بحدة – ظننا أنه يوبخه على فعلته – لكن الظن لم يكن في مكــــــانه إذ أمرنا أن نُسرع بإلقاء الجريح إلى أعماق البئر أو نُقتَل ويُلقى بنا جميعاً إلى البئر 0 نفذنا أمـــر ذلك اللعين الظالم وقلنا للجريح ونحن نهوي به إلى قاع الجحيم : ( روح اللـــــــــه أرحم لك والموت أفضل من هيك عيشي ) وبعدها جثوتُ أرضاً ورفعت زراعيّ نحو الســماء أستـــغفر الله على جريمة لا إرادة لنا فيها – وعلى الرغم من مرور زمن طويل على تلك الحادثة إلا أن قوة تأثيرها وهول وقعها دفعت بجدنا سليم ديبو إلى البكاء وكأن الأمر يُنَفذ أمامه الآن
ومن الأمور الطريفة على مبدأ ، ( شر البلية ما يُضحك ) ، أن الزوجات كنَّ يهـــــــددنَّ أزواجهنَّ بإعلام السلطات العصملية عن وجود أزواجهنَّ الفارين من الخدمة والمتخفين عن الأنظار 0 وكان الأمر لا ينتهي عند مُجَرد التهديد بل كانت بعض النسوة اللاتي ينزعجنَّ من أزواجهن إذا ما خالفوا إرادتهنَّ أو تقاعسوا عن مساعدتهنّ يطورنّ التهديد إلى تنفيذ 0
روى لي المرحوم عمي فهد حكاية باســمة مفادها : أن جَدي لأبي كان هادئ الطبع وغير مُحب للعمل بعكس جدتي – زوجته – التي كانت تدأب على العمل منذ الساعات الأولى من الفجر وحتى وقت متأخر من الليل ، ولم تكن جدتي قادرة على إقناع جدي لتقديم أية مساعدة لها بحجة أنه لا يستطيع الظهور ، لأنه مطلوب للخدمة في صفوف العسكر التركي وهـــــو فراري ، ولم تَعد جدتي تطيق صبراً ولكثرة غيظها وانزعاجها صعدت إلى سطوح البيت وراحت تصيح بأعلى صوتها : فراري يا عســكر عندي بالبيت فراري ، وكررت نداءها فسـمعها الشيخ المرحوم بطرس دويب وكان يجاورهم في سكنه 0 أدرك بوعيه وحرصه
خطورة الموقف فخرج إلى جدتي يوبخها على فعلتها ويذكرها بما حدث لشقيق زوجهــــا المرحوم ســابا قندراق ، الذي ذهب في السفر برلك ولم يرجع ، فندمت جدتي وشــعرت بخطورة تهديدها ومنذ ذلك الحين وجدي مُسَــلطن لا يأت بأي عمل بل يكتفي بإملاء أوامره على جدتي التي عليها أن تطيع وتنفذ دون معارضة 00 ودون عودة إلى التهــــديد
لأن جَدي فــراري .