وترجّـل فـارس العـربية
في حفل تأبين عبد الكريم الأشتركان أمراً طبيعياً أن يتحوّل حفل تأبين الراحل الكبير د.عبد الكريم الأشتر الذي أقامه مؤخراً مجمع اللغة العربية بدمشق إلى مناسبة لاجتماع عدد كبير من الشخصيات الرسمية واللغوية والأدبية والأكاديمية والثقافية وفي مقدمتهم د.نجاح العطار نائب رئيس الجمهورية راعية الحفل الذي ألقيت فيه مجموعة من الكلمات الغنية والتي لم تكن إلا غيض من فيض رحلة طويلة أمضاها الراحل في الحياة إبداعاً وعملاً .
بعد نضالي
أولى الكلمات كانت لـ د.مروان المحاسني رئيس مجمع اللغة العربية الذي أشار إلى أن الحفل كان المناسبة الثانية التي تملأ فيها أصداء اسم د.عبد الكريم الأشتر أرجاء مجمع اللغة العربية اعترافاً بفضله وتأكيداً لمكانته العلمية الرفيعة، والأولى كانت حين أجمع مجلس مجمع اللغة العربية على انتخابه أول عضو شرف فيه وهو الرجل الذي وهب حياته للعلم وجعل من خدمة اللغة العربية وآدابها منارة يهتدي بها وتتحكم بكل نشاطاته لإيمانه العميق بلغة أتاحت له فهم العالم، وبيّن المحاسني أن الراحل حين أراد النفاذ إلى قلب اللغة متوخياً التناغم مع روحها انغمس في نصوصها التراثية لتتكوّن لديه ملَكة الأسس التي يمكن له أن يبني عليها مشروعه، وحين قام الراحل بمراجعة النقد العربي القديم كانت الغاية أن نحسن الإفادة من قيمه وأحكامه في دراساتنا النقدية، وقد كان اختياره هذا للنصوص القديمة تميّزاً لها عمّا صدر من نصوص في عصور الانحطاط التي تلت ذلك الانفجار المعرفي العظيم، ولأن التعمّق في دراسة التراث لا يحول دون الانفتاح المتوازن على الحداثة كانت دراسات الراحل –كما أشار د.المحاسني- تهدف إلى استخراج الدروس من تراثنا في مواجهة التنميط الثقافي الغالب، ورأى أن دراسات الراحل في الشأن اللغوي كان لها بعد نضالي على الرغم من أنه نأى بنفسه عن كل موقف انفعالي أو حماسي واكتفى بإبراز منزلة اللغة العربية تاريخياً مع الإصرار على إبداعاتها البلاغية، وأكد أن دراسات الراحل دراسات ثقافية أصيلة تدخل في المخططات اللغوية تصوراً وتنفيذاً ومتابعة وهي تشكل مستنداً في التصدي لمصادر الضعف والإحباط في مواجهة الثقافات المتقدمة، إضافة إلى أعماله التي أبرزته باحثاً دقيقاً تناول العديد من الأنواع الأدبية بفطنة ورصانة ودقة .
موسوعي متنور
في حين أكد د.عامر مارديني رئيس جامعة دمشق أن الجامعة فقدت برحيل د.الأشتر أحد أبرز أعلامها، فهو اسم لامع برز في مجال الدراسات الأدبية واللغوية والنقد الأدبي، وهو قامة علمية أسهمت في التعليم الجامعي وفي تطوير البحث الأدبي وكتب وألّف مجموعة من القضايا التي تتعلق بالأدب العربيّ، قديمه وحديثه وفنونه المختلفة من شعر دعبل الخزاعي ونصوص من الأدب العباسي وكتاب الاعتبار إلى الأدب الحديث معرّفاً بالنثر العربي الحديث وأدب النكبة وفنون النثر المهجري مع ألوان ومسارات نقدية وكثير مما أسهم في إغناء المكتبة العربية علماً وأدباً ونقداً، وأشار مارديني إلى أن الأشتر يتميز بنزعته الإنسانية الفيّاضة التي رافقته في حياته وعمله وخياراته وأضفت عليه نبلاً وسمواً وصفاء نفس وبساطة آسرة في تعامله وتواضعه وأدبه الجمّ وجدّيته وعفويته المحببة، وأكد أن همّه كان الارتقاء بالنفس الإنسانية إلى مساحات تليق بالذات الإنسانية لتتسق مع مقولات العقل والحكمة من دون أن تفقد حرارة الروح واتقاد الوجدان، وأشار د.مارديني إلى أن د.الأشتر عُرِف بدراسة الأدب الحديث ونقده أكثر مما عُرِف بدراسة الأدب القديم بالرغم من أن موضوع الدكتوراه التي نالها في مصر عام 1962 كانت عن شعر دعبل الخزاعي العباسي ومارس التدريس بعدها في العديد من الجامعات والمعاهد، فبالإضافة إلى جامعة دمشق درّس في جامعة وهران الجزائرية وزار خلال فترة تدريسه 1969-1973 معظم بلدان المغرب العربي بالإضافة إلى إسبانيا وفرنسا .
وقد ختم د.مارديني كلامه مبيّناً أن د.الأشتر كان يمثّل نموذجاً رائعاً للأستاذ والأديب الموسوعي المتنوّر المنفتح المتواصل مع المحيط، وكان يقدّر الجميع فأحبه الجميع، وبرحيله خسرت الساحة الثقافية والأكاديمية علَماً من الأعلام الذين قدموا للمجتمع أجلّ الخدمات في العلم والمعرفة والأدب، وهو رمز تسلل بخُلُقه وتواضعه وأدبه إلى قلوب كل من عرفوه عياناً أو من خلال نتاجه الثرّ، فرأى كل من واصله وهج إنسانيته وعمق روحه وأصالة قيمه .
عطاء شمل الكثيرين
كما أكد د.عيسى العاكوب ممثلاً عن جامعة حلب أن جامعة حلب تدرك أن د.عبد الكريم الأشتر كان في المقام الأول أستاذاً في قسم اللغة العربية من جامعة دمشق لكن فيض عطائه انداح ليشمل الكثيرين من طلبة العلم في جامعة حلب في الدراسة الجامعية الأولى وفي الدراسات العليا في قسم اللغة العربية وفي ترقيات أعضاء الهيئة التدريسية في هذا القسم، ورأى أن حفل التأبين على قدر كبير من الأهمية لأنها ضرْبٌ من الاحتفاء بالفكر والأدب والمعرفة وهو احتفاء بالعقل والإنتاج الذي جاء تتويجاً لحصاد العمر وثمرات الفكر ومحاصيل الكفاح والسهر، وبيّن أن أمثال هذه المناسبات تصطبغ بالوفاء الذي يعني استمرار إجلال الأحياء لأصحاب المآثر والمنجزات حتى بعد ذهاب أجرامهم، ورأى أن التكريم حين يكون من الجامعة لأحد أساتذتها يكون نمطاً خاصاً من التكريم يعبّر عن إحساس بحق معلوم أملاه عطاء علمي وتربوي يثمر مواطنين صالحين .
وختم العاكوب كلامه شاكراً باسم جامعة حلب مجمع اللغة العربية لصنيعها الميمون الذي جاء تقديراً لخدمة اللغة العربية وإعلاء كلمتها .
سيبقى حياً في العقول والقلوب
أما د.محمود السيد رئيس لجنة تمكين اللغة العربية فقد بيّن أن المشهد الثقافي برحيل د.عبد الكريم الأشتر فقد علَماً كبيراً وعموداً من أعمدة الثقافة العربية وشعلة أنارت البصائر على مدى ستين عاماً، مبيّناً أنه وإن رحل إلا أنه سيبقى حيّاً في العقول والنفوس والضمائر لأنه كان بارّاً بتنوير العقول والبصائر وعاملاً على إشاعة الحب في القلوب ببيان عذب وأسلوب رشيق تزيّنه عواطف إنسانية نبيلة ومشاعر وجدانية رقيقة، كما توقّف السيد في كلمته عند محطات متعددة من حياة الراحل الإبداعية ولاسيما وقفاته النقدية الأدبية على أعمال بعض النقاد العرب المعاصرين أمثال أحمد زكي ود.محمد العشماوي وآراءه التربوية التي اتسمت بالحكمة ومواكبة الاتجاهات التربوية الحديثة، إضافة إلى موقفه من التراث والمعاصرة حين دعا إلى فهم التراث وفحصه والإفادة من كنوزه المعرفية والجمالية في خدمة الحاضر، كما توقّف د.السيد عند آراء الراحل ومقترحاته العملية في مجال تمكين اللغة العربية، ولعلّ من أكثر المقترحات التي ركّز عليها الراحل وأشار إليها السيد تأكيده على الجديّة والتقليل من الكلام والتنظير مع الكثير من الفعل .
النزعة الانسانية
وتحدث د.مازن المبارك عن الراحل الذي جمعته وإياه أيام الدراسة في الجامعة وسنوات الدراسة العليا في القاهرة وزمالة التدريس في جامعة دمشق والحياة في الحلّ والترحال وفي الإقامة والسفر وقد كان الراحل في كل هذه المسيرة إنساني النزعة لطيف المعشر صادق الألفة بعيداً كل البعد عن التكلّف، وبيّن أن للراحل صفات في الخلق والسلوك والتربية والتعليم والثقافة جعلت طلابه يعشقون درسه ويلتفون حوله بحب وتقدير، وكان على هدوء طبعه لا يطوي رأيه إذا نقد بل يصرّح ويعلن وينشر ويخوض معارك الرأي بلسانه وقلمه .
التقريب بين المذاهب
في حين أكدت د.ماجدة حمود تلميذة الراحل أنه لم يرَ في المناصب وزخرف الحياة سكينة لروحه بل كانت الكتابة التي لم يفصل فيها بين البحث العلمي والنفس الإنسانية، وأشارت إلى أنه كان مهموماً بوحدة هذه الأمة وسعى عبر مؤلفاته إلى التقريب بين المذاهب الإسلامية، وكتاب “الملتقى” يشهد على ذلك، كما سعى إلى التقريب بين المسلمين والمسيحيين في كتاب “أوراق مهجرية” وبيّنت أن الراحل لم يكتفِ بمهنة التدريس فقد كانت الكتابة شغله الشاغل وقد أتاحت له فترة التقاعد فسحة من الوقت لفعل ذلك فأنتج ما يعجز عنه الكثير من الباحثين ليعلمنا أن رجل العلم لا يتقاعد أبداً، وقد التقت في كتبه الحداثة بالتراث، كما توقفت د.حمود في كلامها عن الراحل كأبرز المنافحين عن اللغة الفصيحة التي رأى أن لها وضعاً خاصاً فدعا للحفاظ على أصولها وسلامتها وصحح الأخطاء التي يرتكبها الأدباء والتي كان يرى فيها جرحاً نازفاً في صدر الأدب كما انتقد أولئك الذين يستخدمون العامية في الحوار ودعا إلى استخدام لغة فصيحة سهلة تقترب من لغة الحياة دون أن تتورط بالعامية .
غرس ثقافة الانتصار
ولأن في حضرة غيابه تضيق اللغة ويختنق الكلام أوضح ابن الراحل د.محمد الأشتر في كلمته أن قلّة في الناس من تتغير الدنيا بعد رحيلهم وعبد الكريم الأشتر واحد منهم، وهو الرجل الذي أحب الحياة وعاين حلوها ومرّها، عركته فما انكفأ وغازلته فما استطاب، غرس ثقافة الانتصار واقتلع ثقافة الهزيمة، آمن بالخيال واطمأن إلى أنه سيقود الأمة في النهاية وأن من يكبّل القلم يعجز عن تكبيل الفكر .
أمينة عباس
http://www.albaath.news.sy/user/?id=1321&a=117487