التراث الشعبي - دراسة
التراث الشعبي يعتبر نتاجاً للتراكم الثقافي والفكري المستمر، تعود جذوره إلى خبرات طويلة للشعوب منذ ما قبل التاريخ وحتى وقتنا الحاضر. جسّد فيه الإنسان معاناته وأحلامه وطموحاته المشروعة، وارتباطه الكبير بأرضه واستقراره ودفاعه المستميت عن حاضره ومستقبله...
تكوّن التراث الشعبي داخل المجتمعات الإنسانية القديمة منذ بداياتها الأولى، نتيجة التفاعل الحيوي بين الإنسان وبيئته الطبيعية والاجتماعية، والتأثر والتأثير المتبادل بين المجتمعات المختلفة، والثقافات المتجاورة والأفكار المتباينة، ليشكل في النهاية منظومة فكرية شعبية إنسانية عظيمة...
مثّلت هذه المنظومة مختلف الفنون والآداب الشعبية كالحكايات والسير الشعبية والقيم والأزياء والتقاليد والأعراف السائدة التي تعبّر عن أشكال ونواحي الحياة الاجتماعية ومضامينها الإنسانية المختلفة وأنماط حياتية متنوعة وغنية...
والأدب الشعبي هو أحد جوانب التراث الأساسية، الذي يصور بدقة واقع حياة عامة الشعب من عادات، وأعراف، وعقائد وفنون، نتعرّف من خلاله على نفسية أفراد المجتمع وفكرهم، وأخلاقهم، ومعاناتهم، فالتراث الشعبي يمثل المأثورات والخصائص التي تشكل الشخصية القومية والهوية الوطنية للإنسان العربي في حقبة ما من تاريخ الأمة، فالموروثات الشعبية تصوّر جوانب حياة الناس اليومية الثقافية، والسلوكية، من حكايات، وأمثال، وحكم، وتقاليد الأفراح والأحزان، والأعياد، وأغاني وأهازيج وعدّويات، ودبكات، والزي الشعبي، والمسكن، وأشكال المعيشة وغيرها، ممَّا ورثته الأجيال بعضها عن بعض على مر التاريخ، حتَّى وصلتنا كما نعرفها في صورتها الحالية.
والموروثات الشعبية ذات أصول قديمة موغلة في التاريخ، تعرضت للتغيير والتبديل، والحذف والإضافات لتتناسب مع التطورات الاجتماعية، والثقافية، والبيئية، فحافظ الناس على ما يناسبهم وتركوا ما لا يلائمهم، وأضافوا من ثقافتهم المعاصرة ما يريدون.
في الوقت الحاضر نرى أن معظم الصور التراثية بدأت تتلاشى وتندثر مع تقدّم الزمن، فتوقف العمل بها منذ أكثر من ربع قرن بعد التطور الاجتماعي، والثقافي، والتقني الهائل، وظهور وسائل الإعلام الحديثة من تلفاز وإذاعة وصحف وكتب واتصالات، التي عملت بقوة على إزاحة الموروثات الشعبية التراثية عن مكانتها فأهملها الناس ولم يعودوا يشعرون بالحاجة لممارستها. الأولاد لم يعودوا يتحلّقون حول الجدّة، لتروي لهم حكاياتها الجميلة الساحرة، بعد أن حلّت (الشاشة الصغيرة) محل الجدّة، كجدّة حديثة متطورة بالإضافة إلى كتب ومجلات الأطفال الأدبية، التي أصبحت أكثر ملائمة لعقلية الطفل وثقافته ونفسيته وطموحه.
كما أن عادات وتقاليد الأعراس والمناسبات، لم يعد بالإمكان ممارستها، والعمل بها بعد التطورات الاجتماعية والاقتصادية، من زحمة العمل وضيق الوقت، والمسكن والساحات، وانصراف اهتمام الناس إلى أشياء أخرى، كل هذا أدّى إلى إلغاء مظاهر الأعراس الشعبية، والاحتفالات العامة للناس، وأطفال "الحارة" فلم يعد بإمكانهم ممارسة ألعابهم الشعبية القديمة، التي تحتاج إلى ساحة واسعة وبيئة طبيعية مناسبة فحلّت محلّها الألعاب الرياضية والملاعب والأندية. لذلك نرى أن عصر التراث الشعبي قد احتضر وانتهى ولم يعد يهتم به أحد من الناس سوى الدارسين والباحثين الذين يعملون على جمعه من ذاكرة الجيل القديم أو ما بقي عالق منه في أذهانهم...
ومع توقف العمل بالموروثات التراثية، توقف أيضاً عصر ابتداع الفلكلور الشعبي لأنَّ الإبداع مرتبط بالخيال الشعبي، الذي يستمد مادته من الأساطير والأفكار والتصورات، والشخصيات الخرافية، وواقع العجز عن الفهم، والقصور عن تحقيق الطموح والغايات الحياتية الصعبة وتطويرها، فالخيال الشعبي كبّلته الإنجازات العلمية، والحقائق الكونية والاكتشافات الطبيعية والأدوات التقنية المتطورة. فلم يعد الإنسان الحالي بحاجة للتحليق والحلم ببساط الريح، والفانوس السحري، وطاقية الإخفاء وغيرها، أمام الطائرة والسيارة، والتلفزيون والمراكب الفضائية، والطب الحديث الذي كشف معظم الحقائق المستورة وحقّق إنجازات كبيرة وبين عجز القوى الخرافية أمام الأسلحة المتطورة والقنابل الذرية، وفضح كذبة حورية البحر وجمال ست الحسن، وشاعرية القمر، فسحب من تحت الخيال الشعبي، بساط التحليق والانفعالات والعواطف وسلاح الرومانسية، والإثارة والرغبة والحب.
كتب ماسبيرو في كتابه (أغاني شعبية مصرية) يقول: (إنَّ مصر تطورت بسرعة وأن كثيراً ممَّا رآه في زيارته الأولى وما سمعه قد اختفى وانقرض أو في طريقه إلى الانقراض...).
أهمية الخيال في الحكاية الشعبية:
من تراث الأمة وموروثاتها، انعكست فيها أصداء واقع الشعب وحياته، ومعاناته وقيمه وطموحاته، بكل ما فيها من أساطير وخرافات وأوهام. تعبّر عن مدى اتساع مدارك الخيال الشعبي وإبداعاته ومخاوفه وأحلامه، فالإنسان منذ القديم عانى كثيراً من الشقاء والقهر، في سبيل الحصول على لقمة العيش والحياة الكريمة.
فالإنسان منذ بداية وجوده في الحياة حاول أن يعطي تفسيرات لكل ما صادفه في حياته من ظواهر غريبة أو خارقة أو أحداث وكوارث وأخطار طبيعية. فصاغ لها في خياله الخصب المبررات والتفسيرات التي تتناسب مع عقائده ومعارفه المتوفرة، لعب فيها خياله دوراً أساسياً في تشكيلها بالأساطير والخرافات والأوهام، فالخيال البشري عمل على ملئ المساحات الفارغة من معارفه بالخيال وصنع الخرافات في التفسير والتبرير، نتيجة عدم توفر المعطيات والحقائق العلمية لديه، فلجأ إلى التعويض عن هذا النقص بالأساطير والخرافات، فأصبح الخيال البشري انعكاساً للواقع مع إضافات وتزويقات كثيرة، تعطي الأحداث مزيداً من الإثارة والتألّق والسحر والجمال، تصوّر صراعه مع قوى الطبيعة القاهرة (البرق ـ الرعد ـ العواصف ـ الرياح ـ الطوفان...) والحيوانات والوحوش المفترسة، ولم يكتف الإنسان من معاناته اليومية مع تلك القوى القاهرة الجبّارة، التي جعلت حياته قلقاً وخوفاً مستمراً، بل صاغ خياله أيضاً قوى شريرة أخرى أسطورية تساوي تماماً مخاوفه، وتطلعه إلى المستقبل المجهول فكانت (الغيلان ـ والعفاريت ـ والوحوش المختلفة).
امتزج قلق الإنسان ومعاناته من واقعه، بخوفه الدائم من المستقبل المجهول، وتحوّل هذا الخوف إلى طموح وأحلام مشروعة في العيش المريح والسعادة والعدل والسلام، فصاغ الإنسان منذ القديم معاناته وأحلامه على شكل قالب قصصي جميل، أضفى عليها الخيال كثيراً من السحر والجاذبية والتشويق. فكانت الحكاية الشعبية خلاصة الفكر الاجتماعي والنفسي والحضاري للأمة صبغتها بطابعها الخاص الذي ميَّزها عن غيرها من الأمم، رغم التشابه في كثير من المضامين والأشكال التراثية مع المجتمعات الإنسانية الأخرى...
من المؤكد أن الحكاية الشعبية قد ابتدعها الخيال الشعبي البسيط للإنسان القديم، معبّراً من خلالها عن واقعه وتطلعاته وفكره ومعاناته ومخاوفه... فالإنسان قديماً كان همَّه الكبير هو تأمين لقمة العيش له ولأسرته ليستمر في الحياة من خلال جهده المتواصل في الصيد، الرعي، الزراعة. جميع هذه الأعمال، صعبة وشاقة، فيها من المخاطر ما فيها. فقد كان الإنسان يعيش بشكل مستمر، حالة صراع مع كثير من القوى، أولها قوى الطبيعة القاهرة التي لا حول ولا قوة له أمامها، وثانيها مواجهته المستمرّة، للحيوانات المتوحشة والمفترسة التي كان له معها صولات وجولات ملحمية. وثالثها قوى مجهولة الهوية غامضة، ابتدعها خياله المضطرب المتعب وعجزه الذي جعله يتصور، قوى تتربّص له دائماً، في ظلمة الليل، وجوف الكهوف وسفوح الجبال، كما تخيّل شخصيّات خرافيّة تعادل هواجسه، قادرة على صنع المآسي والتدمير، مثلها مثل الرعد والعواصف والبرق التي تسبب الموت والرعب، فكانت شخصيات خرافية مثل: (الغول، العفريت، الجان، الساحر، أبو فريوة، السعلاة، أبو قرن وقرنين، سحّال ديلو، أبو همامو...الخ).
كان الإنسان قديماً يعاني في حياته قلقاً دائماً، من حاضر صعب وخوف مستمرّ على مستقبل غامض مجهول. فامتلأت أحلامه طموحات مشروعة، تهدف إلى تحقيق أهدافه، في السعادة والراحة والمتعة والعدل والغنى والرفاه والسلام والأمان.
كان الرجل البدائي يعود إلى البيت، بعد غياب طويل، فيقصّ على زوجته وأولاده ما جرى له من الأحداث والأهوال. وكانت الزوجة تقصّ على زوجها ما عانت وما تعرّضت له خلال فترة غيابه. فكثرت الحكايات وتناقل الأولاد والأحفاد القصص والأخبار جيلاً بعد جيل، حتَّى تحوّلت إلى حكايات تراثية مع الزمن، وأصبح يرويها الكبار للصغار بطريقة "كان يا ما كان في قديم الزمان" وبلغة عامية محليّة خاصّة...
مضامين السير والحكايات الشعبية:
جاءت مضامين الحكاية الشعبية متعدّدة الموضوعات والمعاني فكانت مرآة الحياة وصدى الآلام والمعاناة والأحلام وعبَّرت عن الحكمة والفضيلة وأفادت من العلوم الاجتماعية والفلسفية والفيزيائية والنسبية والأساطير...
تختلف المضامين من فترة إلى أخرى حسب النظم السياسية والقيم العقائدية والاجتماعية السائدة، وطموحات الفئات الشعبية في تلك الفترة. لكنها لا تخرج من الإطار العام عن المضامين التالية:
1 ـ مضامين اجتماعية وإنسانية: عالجت فيها الحكايات والسير قضايا الفقر والجوع والظلم والقهر والعدل والمساواة...
فالتفرقة العرقية بين الأبيض والأسود احتلّت مكانة هامة في السير كما نلاحظ في سيرة (عنترة ـ أبو زيد الهلالي ـ ذات الهمّة وابنها الأمير عبد الوهاب).
كما أن الحكايات الشعبية تبرز دوراً هاماً للعبد الأسود "ذكراً أم أنثى" في أحداث الحكايات ومجرياتها سلباً أم إيجاباً ويتنوّع بين الخير والشر...
الفئات الفقيرة طموحها الأساسي هو معالجة الفقر والجوع والمرض والظلم والقهر. لكن غالباً باعتماد الطرق الخارقة والمثاليات والمصادفة والمفاجئة التي لا تقوم على أسس واقعية مبنية على الجهد والتعب والصراع الاجتماعي (كالكرم الذي يحل فجأة على الغني أو السحر أو اكتشاف كنز أو بواسطة الجن) أي باختصار يعالج المشكلة بالأحلام وليس بالواقع.
ومع ذلك لا تخلو الحكايات من نماذج واقعية تصوّر أوضاع الصناع والعمال والرعاة والصيادين وغيرهم خلال مكافحتهم للجوع وتحصيل لقمة العيش. لكن في النهاية تحلّ الحكاية مشكلة الفقر بالكنز المكتشف بالمصادقة أو الخاتم السحري وخادمه العفريت. وكأن الخيال الشعبي يبدأ ثمَّ يدور في حلقة مفرغة تعبر عن طموحاته وأحلامه في الحياة.
ويطمح الخيال الشعبي إلى تحقيق العدالة والمساواة بشتى الأساليب ومنها النصب والاحتيال والشطارة كما في سيرة (علي الزئبق ودليلة...).
3 ـ العقيدية: تقوم عقائد العامة وخاصة في العهود الإسلامية، على الإيمان العفوي البسيط بالخالق رب السموات والأرض الذي بيده مقاليد كل شيء، والتسليم بالقضاء والقدر واعتماد الخوارق والكرامات كحلول للمشكلات الصعبة، وتؤمن بوجود قوى خفية يمكن أن تتدخل في الوقت المناسب لإنقاذ الموقف...
4 ـ سياسية: يجسّد فيها الخيال الشعبي مشاعر الانتماء القومي للأمة العربية وطموحاته المشروعة في تحقيق الدولة العربية الواحدة، التي تحتل مكانتها المرموقة بين الأمم. فينتقل الراوي بسهولة ويسر بين المدن والبلدان العربية ويتجاوز الحدود والحواجز ببساطة وكأنه يتنقل في دولة واحدة من المحيط إلى الخليج، رغم اختلاف الحكام والملوك من مدينة إلى أخرى...
5 ـ عاطفية وأخلاقية: أحداث الحكاية تجري دائماً على صورة صراع بين القوى الخيّرة الصالحة والقوى الشريرة، بينما تأتي خاتمة القصة معبرة عن تطلعات الإنسان في انتصار الخير وتحقيق العدل، وامتلاك الثروة أو السلطان، أو الزواج من الحبيبة وتخليف الصبيان والبنات، فيتزوج الأمير من الفتاة الفقيرة والأميرة تتزوج الحطاب الفقير.
لابدّ للإنسان أن ينتصر أخيراً على كل القوى (الطبيعية والخرافية) بشتى الطرق والأساليب: (القوة الخارقة ـ السحر ـ الحيلة...الخ)، لتأتي الحكاية تعويضاً بسيطاً عن حالة العجز والفقر والظلم الذي يعيشه الإنسان. فالحكاية تهدف إلى نشر الفضيلة والأخلاق الحميدة بين الناس والحض على التعاون وتقديم العون للمحتاجين والفقراء والتضحية والإيثار وإنقاذ الضعفاء من المصائب ومساعدة اللذين يقعون في الضيق أو مأزق ما. وغالباً تغلب هذه المضامين الخير على الشر:
ـ الأميرة الجميلة والفتاة العذراء تقدّم نفسها قرباناً للوحش لتفتدي أهلها وقومها ومدينتها من شرور العفاريت والجان...
ـ إقدام وشجاعة شخصيات وأبطال الحكايات والسير وجرأتهم في اقتحام المخاطر ومواجهة الصعاب والقوى الشريرة والسحرة والعفاريت لإنقاذ الأميرة أو المملكة والتضحية في سبيل الجماعة.
الحكاية بين الشكل والمضمون
الأحداث في الحكاية تصوير للصراع الدائم بين القوى الخيّرة الصالحة، وبين القوى الشريرة السيئة. ويلعب الخيال البشري دوراً رائداً في إدارة الصراع وتصاعده وبناء شخصيّاته في عملية إثارة وتشويق كبيرين بهدف جذب انتباه المستمع لمعرفة نتيجة الأحداث ونهاية الصراع، الذي غالباً ما يكون لمصلحة الخير. فالخاتمة أو النهاية تأتي مطابقة ومعبّرة عن تطلعات الإنسان، ورغبته الشديدة في انتصار الخير على الشر، وتحقيق العدالة والمساواة والحياة الكريمة والفضيلة والحصول على الثروة المفاجئة، أو الجاه أو السلطان أو الزواج ممّن يحب، وبناء الأسرة وإنجاب الصبيان والبنات والعيش بسعادة وهناء وثبات ونبات. وهذا يعبّر عن المضامين العاطفية والنفسية والوجدانية للحكاية.
والحكاية الشعبية دائماً تنزع إلى المثالية والحب والخير، فالأميرة تحب الرجل الفقير وتتزوّجه. والأمير يحب الفتاة الفقيرة ويتزوّجها. وهذا يصوّر البعد الإنساني والمضمون الاجتماعي للحكاية. وتأتي الحكاية تعويضاً للنقص والعجز الذي يعاني منه الإنسان في الحياة، عندما يقع ضحية الفقر والحاجة، والخيانة والظلم، فتأتي القوة الصالحة التي تمجّدها الحكاية، كمعجزة من السماء فتنتصر انتصاراً ساحقاً ويتحقق حلم الإنسان في هزيمة القوى المعادية {الطبيعية والخرافية} وتحقق أهدافه وطموحاته الإنسانية. أمَّا السفر في الحكاية فهو الرحيل الذي لابدَّ منه للإنسان من أجل الاكتشاف والمعرفة وتحقيق الثروة أو السلطة أو الوصول إلى فتاة الأحلام. فهي الحالة الدائمة التي لابدَّ منها في عملية صراع الإنسان مع الطبيعة والاستمرار في البقاء. والخيال الشعبي الذي صوّر الغيلان والعفاريت بقدرات خارقة وأشكال مخيفة وشعر طويل وأظافر طويلة وحادة ومغارات مذهلة وطيران عالٍ وسفرٍ مجهول إلى أبعد مكان في لحظات، والقدرة على التحوّل إلى أشكال مختلفة. لكن دور الإنسان في إدارة الصراع أهم فهو يمتلك قدرات عقلية واعية، تمكنه دائماً من التغلب عليها، بحسن التصرف والحيلة وترويضها وتسخيرها لخدمة أغراضه عبر مقولة {مقابلة الإحسان بالإحسان}. أمَّا الطمع والحسد والغيرة والخيانة والانتقام، فهي صفات إنسانية أيضاً ولكنها سيئة تؤدي دائماً، إلى عواقب وخيمة لصاحبها وللمجتمع.
ولاشك في أن الحكايات الشعبية تتأثر بالبيئات الأخرى وتنتقل الحكاية بسهولة من مدينة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر، عبر العلاقات بين الأمم الأخرى وتراثها وتبادلها الثقافي. نرى ذلك واضحاً من ورود أسماء أعجمية في الحكايات العربية لا نعرف لها معنى محدّداً في الأغلب، أو من خلال انتقال ساحة الأحداث في الحكاية إلى بلدان تلك الأمم مثل {فارس، الترك، الهنود، الصين، أوروبا}.
كانت الجدّة نجمة الليالي الباردة وزينة السهرات الشتوية الطويلة بحكاياها الساحرة الجميلة وصوتها الذي يمزّق السكون (كان يا ماكان في قديم الزمان..) هذه المقدمة التي ترافق كل الحكايات الشعبية في جميع أنحاء الوطن العربي مع بعض الاختلافات البسيطة. كان الأطفال والكبار يتحلقون حول مدفأة الحطب يترقبون بشوق كبير بينما صوت الجدّة يزاحم أصوات الرعد والبرق وحبّات المطر. ويستمر لساعات وساعات تنتقل من حدث إلى آخر ومن حكاية إلى أخرى وينسى الصغار أنفسهم فيستغرقون في نومٍ عميقٍ وتوقظهم الجدّة معلنةً انتهاء الحكاية ليذهبوا إلى فراشهم الدافئ.
هذا المشهد الرائع كان يتكرر كل ليلة تقريباً طوال فصل الشتاء وعندما يأتي الصيف بليله المقمر القصير وأعماله الكثيرة تتوقف الجدة عن القصّ لتستريح وتستجمع قواها وذاكرتها إلى الشتاء القادم.
مضت الأعوام وكبرت الجدّة وأخذ صوتها يخفت شيئاً فشيئاً حتى لا يكاد يُسمع وتتعب شفتاها ويغفو رأسها على صدرها منذ بداية الحكاية فينهرها الأطفال لتكمل الحكاية مرات عديدة حتى تنهي الحكاية بصعوبة. لم تكن تملك الجدّة نبعاً من الحكايات لذلك كانت تعيدها مرات ومرات دون أن يشبع منها الأطفال أو يملّو الاستماع ماتت الجدّة رحمها الله وسكتت عن الكلام المباح. لم يخلفها أحد ليكمل عنها المشوار فتوقفت الحكاية لكنها لم تنته.
ذهب الأولاد إلى المدرسة وشغلتهم كتبهم ووظائفهم وانتشرت الكتب المصورة والصحف والمجلات والسينما والراديو وغيره فنسي الأولاد سهرات الجدّة الجميلة وحكاياها المثيرة وتحولت إلى ذكريات يتحدثون عنها أحياناً في جلساتهم الخاصة فيتذاكرون أسماء الحكايات وأسماء أبطالها وأحداثها الغريبة وما كانت تثير في أنفسهم من انفعالات وتعاطف ونفور وخوف ولكن قالوا في النهاية: إنها خرافات اخترعها عقل الجدّة المتخلف.
عندما جاءت الشاشة الصغيرة وجد الصغار فيها مبتغاهم فأخذت دور الجدّة كاملاً وسرقت السحر والإثارة والجاذبية بصوتٍ أكثر وضوحاً وصور ملونة ومتحركة وأحداث تجري مباشرة أمام أنظار الأطفال كأنها تجري معهم.. فهذه سندريلا تركض بثيابها البيضاء.. سندريلا تقع على الأرض.. سندريلا تقيس الحذاء سندريلا تتزوج الأمير. وهذا الثعلب يأكل الدجاجة وهذا توم يلاحق جيري وهذا بطل الفضاء يصارع الأشرار القادمين من أعماق الكون. وأصبح خيال الطفل يحلق مع آفاق الحكاية بلا حدود ولم نعد نسمع أحداً يقول (يا ستي احكي لنا حكاية) عندها أيقنت أن الجدة ماتت.
قالوا: ماتت الجدة.. قلت: مات تراث الأمة. فالحكاية الشعبية لم تخترعها الجدّة من بنات أفكارها بل تناقلتها جدّة عن جدّة حتى تصل إلى الجدّة الأولى. فهي تراث أمة وتاريخها وحضارتها تتمثل بكل الموروثات الشعبية: الزي الشعبي- الغناء والأهازيج الشعبية- الدبكة الشعبية. التقاليد والأعراس والأعراف الشعبية. والحكاية الشعبية. توارثتها الأجيال منذ القديم لدرجة ضاع معها اسم المؤلف والتاريخ وبلد المنشأ. فهي ليست خاصة بحي ولا بلد بل تخصُّ الأمة العربية جميعها فهي تمثل تاريخها القديم وتراثها العريق وتعبّر عن وجهها الحقيقي البسيط وعن فكرها وثقافتها ولغتها وقيمها بكل أمانة دون زيادة ولا نقصان ولا تزويق.
من هنا جاءت أهمية مشروع جمع الحكاية الشعبية وتسجيلها ودراستها وحفظها حتى لا يندثر هذا التراث الشعبي العظيم. وأستثني حكايات ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة والسير والملاحم الشعبية (الهلالية -عنترة- سيف بن ذي يزن- حمزة وفيروز شاه وغيرها) فهي حكايات حديثة مكتوبة ومحفوظة في الأدب الشعبي ومجالسه.
أمّا الحكاية الشعبية الأصيلة فهي الأقدم مجهولة الهوية انتشرت بين عامة الناس ابتدعها الخيال الشعبي منذ القديم وروتها الجدّات شفاهياً وجاءت معبّرة عن واقع الإنسان القديم ومعاناته ومخاوفة وتطلعاته وقيمه الفكرية. رواها الراوي بلغةٍ عاميةٍ محلية خاصة لأنها الأقدر على التعبير بصدق ودقة عن حياتهم وبيئتهم وعواطفهم وتفكيرهم. يضاف إليها الكثير من الخيال المحلّق والصور الغريبة والأساطير التي تعبّر عن مقدار معاناة الإنسان القديم في نضاله الدائب من أجل الاستمرار في الحياة وتحصيل لقمة العيش وصراعه مع قوى الطبيعة القاهرة والحيوانات المفترسة والقوى الغامضة المجهولة التي تتربص له في جوف العتمة. فكانت أحداث الحكاية وشخصياتها معبرة تماماً عن مخاوفه وهواجسه وقلقه الدائم من المستقبل المجهول وأحلامه المشروعة في الراحة والسعادة والدفء والعدل. فكانت شخصيات البيئة العربية مثل: (علاء الدين والشاطر حسن وست الحسن والست بدور) وقوى الطبيعة التي تسبب المأسي والرعب والدمار (البرق- الرعد- الرياح والعواطف والطوفان والنيران..) وابتكر خياله قوى شريرة خرافية تساوي حجم مخاوفه (الغيلان- العفاريت- الجان السحرة- الوحوش الخيالية (أبو فريوة مثلاً)..).
أما أحداث الحكاية فهي تجري دائماً بين قوى الخير والعدل وقوى الشر والظلم، وخاتمة الصراع تأتي تماماً معبرة عن تطلعاته ورغبته الشديدة في انتصار الخير وتحقيق العدل وعودة الحق إلى نصابه وحصوله على الثروة أو السلطان أو الزواج ممن يحب وتخليف الصبيان والبنات والعيش في ثبات ونبات.
فالحكاية الشعبية تحمل مضموناً إنسانياً عادلاً لا يفرّق بين غني وفقير ولا حاكم ومحكوم فالأميرة تحب فقيراً وتتزوجه والأمير يحب فقيرة ويتزوجها.
كما تحمل مضموناً فكرياً يمجد القوة الصالحة ويشيد بانتصارها السامق على القوة الشريرة الخرافية أو انتصار الإنسان على قوى الطبيعة القاهرة ولو بمعجزة من السماء أو بنضال قاسٍ ومرير لتحقيق الحلم الإنساني في السيطرة والتغلب على عجزه وفقره وقهره.
أما البعد القومي للحكاية فيتجلى في الثوب العربي الذي ترتديه الحكاية وروحها العربية الأصيلة في الأسماء والأحداث والبيئة والعقلية والأعراف.
فمكان الحكاية العواصم العربية (الشام- بغداد- مصر- المغرب- الحجاز) أي ساحة الوطن العربي من المحيط إلى الخليج.
ولا تنفي تأثر الحكايات الشعبية بتراث الأمم الأخرى (البعد الأممي) باستخدام بعض الكلمات والأسماء الأجنبية أو انتقال القصة إلى ساحة تلك الشعوب (الفارسية- التركية- الهندية- الصينية- الأوربية) وهذا لا بد منه نتيجة العلاقة الخاصة مع تلك الشعوب خلال فترة ما قبل الإسلام (التجارة) والتي توثقت بعد انتشار الإسلام فيها.
يعتبر ما تقدم محاولة متواضعة ومختصرة في دراسة التراث الشعبي والحكايات الشعبية التي ما زالت تحتاج إلى دراسة واعية شاملة ومعمقة من كل النواحي: لغة ومضموناً وأبعاداً وقيماً وشكلاً وشخصيات ودراسة مقارنة بين الحكاية الشعبية للمدن السورية والعربية التي ظهرت حتى الآن والتي ستظهر في المستقبل.
ولا شك أن مشروع جمع الحكاية الشعبية ليس بالأمر السهل وخاصة أنه يأتي في وقت متأخر قليلاً فعندما كانت الجدّة تفرغ ذاكرتها من الحكايات أمامنا بطريقة كان يا ما كان لم نكن وقتها نملك أدوات تسجيل (كاسيت) ولم نكن نملك القدرة على الكتابة والرغبة في توثيقها وكل ما كان يهمنا هو الاستماع إليها. وعندما بدأنا نشعر بضرورة جمع هذا التراث الشعبي الجميل وحفظه للأجيال القادمة بحثنا عن الجدة فوجدناها قد ماتت وأصبحت عظامها مكاحل أو شاخت وخرفت ذاكرتها وانطمست معالم الحكاية فيها ففقدنا المصدر الأساسي والأهم للحكاية الشعبية وكان الأمر مخيفاً. ولتدارك هذا الإهمال الخطير كان لا بد من البحث عن الحكاية في ذاكرة الجيل الثاني الذي سمعها من الجدّة وللأسف كانت الحكايات في أذهانهم مشوّشة ومنقوصة أو مختلطة بحكايات ألف ليلة وليلة وقصص الأطفال الأدبية الحديثة وهذا يتطلب جهداً أكبر لغربلتها وفرزها وحذف الإضافات منها يضاف إلى ذلك أن معظم حفظة الحكايات من النساء وهذا يشل عقبة أخرى هو إمكانية الاجتماع بهن بجلسات طويلة وعديدة لإفراغ ما في جعبتهن من الحكايات وهذا صعب جداً وشبه مستحيل.
أما الوجه الآخر من الصعوبات فيتمثل في طريقة تسجيل الحكاية فآلة التسجيل تربك الراوي أو مرفوضة من الغالبية ومتابعة الراوي بالكتابة مباشرة مستحيل فيبقى الحل الوحيد أن تسمع الحكاية أو عدة حكايات ثم تعود لتكتبها من الذاكرة مع ما يطرأ عليها من التغيير في الكلمات والألفاظ ونسيان بعض التفصيلات الصغيرة.
فكان لا بد من بذل جهود كبيرة واتباع كل الطرق والأساليب والصبر والمثابرة من أجل إنجاز هذا المشروع الثقافي القومي الشعبي العظيم الذي أصبح مهمة ملحة يهم تاريخ أمتنا العربية وحضارتها وتراثها الثقافي والفكري والاجتماعي الذي يجب حفظه وصيانته من الاندثار وإبراز صفحة أدبية مشرقة في تاريخ أمتنا خاصة في هذه المرحلة الصعبة التي نشهد فيها غزواً ثقافياً يستهدف تراثنا الأصيل بل نتعرض لمحاولة التحريف والتشويه لتراثنا وتاريخنا من أجل إمرار المشاريع والدعوة إلى التطبيع مع الصهاينة. ونجد من الضروري أن تتصدى المؤسسات الثقافية (وزارة الثقافة -اتحاد الكتاب العرب* -المنظمات الشعبية والتربوية) لدعم وتطوير مشاريع حفظ تراثنا الشعبي ودراسته دراسة علمية واعية وشاملة وانجازه في أقرب وقت ممكن فالوقت لم يفت بعد.
نموذج من الحكاية الشعبية
سنيسل ورباب
كان ياما كان في قديم الزمان نحكي وإلاّ ننام وإلاّ نصلي على النبي العدنان
كان فيه عنزة وعندها ولدان اسمهما سنسيل ورباب. كانت تخرج كل يوم من البيت وتذهب إلى الحقل لتجمع لهما بعض الحشيش الطري للطعام وتتركهما وحيدين في البيت وتوصيهما ألاّ يفتحا الباب حتى يسمعاها تقول:
يا سنيسل يا رباب
افتحوا لأمكم الباب
حشيشاتا بقروناتا
حليباتا ببزيزاتا
فيفتحوا لها الباب وتدخل فتقدم لهما بعض الحشيش ليأكلاه مسرورين وينامان إلى الصباح. فراقبتهم الضبعة وعرفت كلمة السر فصنعت قروناً من عجين ولزقتهما على رأسها وذهبت إلى الحقل ووضعت بعض الحشيش عليهما وعادت فطرقت الباب فسأل الولدان من..؟ فقالت:
يا سنيسل يا رباب
افتحوا لأمكم الباب
حشيشاتا بقروناتا
حليباتا ببزيزاتا
وشك الولدان بصوتها ولكن نظرا من فتحة الباب فرأيا الحشيش على قرونها فانخدعا وفتحا لها الباب فأمسكت بهما وأكلتهما.
عادت العنزة إلى البيت فوجدت الباب مفتوحاً وابنيها مفقودين وشمت آثار الضبعة فتبعت أثرها حتى وصلت إلى مغارتها فصعدت على ظهر المغارة وهي غاضبة وأخذت تدبّك على سطح المغارة فقالت الضبعة:
مين عما يدبك على سطوحنا
فترد عليها العنزة:
أنا العنزة العنيزية أم القرون الذهبية
اللي أكل سنيسل ورباب يلاقيني على البرية
وتخاف الضبعة فلا تخرج فتعود العنزة فتدبك وتعد وتتحدى حتى اضطرت لقبول التحدي والنزال فصنعت قروناً من العجين وشوتهما على النار ثم لصقتهما على رأسها وخرجت لقتال العنزة أما العنزة فعندما رأتها ثار غضبها وهجمت عليها بقوة ونطحتها على رأسها فتتفتت قرونها وينشق رأسها وترتمي على الأرض فتنطحها مرة أخرى على بطنها فتشقه ويخرج ولداها سنيسل ورباب فتأخذهما إلى البيت وهي مسرورة من انتصارها على الضبعة وتوصي الولدين أن يكونا حذرين ولا يفتحا الباب مرة أخرى حتى يتأكدا من الطارق تماماً ولا ينخدعا ثانية وعاشا بسلام وأمان.
وتوتي توتي من عبي لعبكم مفلوتي. لقراءة موضوع ذات صلة (حكايات شعبية حمصية)