توطئة :
لقد عني القرآن الكريم عناية فائقة قي عملية التنظيم الاجتماعي , فأقرّ منظومة من الآداب الاجتماعي الرّاقية , تمضي على نسقها الحياة الاجتماعية بنظام دقيق يلتزم به المؤمنون لأنه جزء من عقيدتهم , وقواعد ثابتة في دينهم . ومن ثم هي طاعات ينال بفعلها الأجر الجزيل من الله عزّ وجلّ تفضّلاً ومنّة وتكرّماً . ولهذه الآداب دور لا يخفى في تمتين روابط الودّ والألفة بين أبناء الجماعة المؤمنة , مع واحد من هذه الآداب , نتحلّق حول مائدة القرآن العظيم , لنعرف ولو شيئاً , عن سمو هذا الدّين وعظمته .
يقول الله عزّ وجلّ : " يا أيّها الّذين آمنوا إذا قيل لكم تفسّحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل لكم انشزوا فانشزوا يرفع الله الّذين آمنوا منكم والّذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير . " سورة المجادلة الآية "11"
بوصف أحبّ إلى الله من كل وصف , وصف الإيمان يخاطب الله الأمة المؤمنة في كل جيل , في كل زمان , في كل مكان , إلى يوم القيامة , معلّماً ومؤدّباً , وإذا علّمك الله وأدبك فهيهات أن تحتاج لمعلّم ومؤدّب سواه , تأمّل , يعلّمك ربّك كيف تجلس مع الآخرين , أينما انعقد ذلكم المجلس , في البيوت , في المساجد , في المدارس والجامعات , في الأسواق والمتاجر . في قاعات المحاضرات وحلقات العلم . إذا كنت جالساً وجاء وافد واحد أو أكثر , فالله تعالى يعلّمك كيف تحترم القادم إلى المجلس , وكيف ترعى حقّه في الجلوس لتحصيل ما هو ساع إليه من منافع دينية أو دنيوية أو علمية ومعرفيّة . ومجال الخطاب كما تومئ إليه الآية الكريمة المجالس المزدحمة , ولا مجال له في المجالس التي فيها سعة , فإذا كان المجلس مكتظاً ودخل وافد فكل الجالسين مأمورون أن يهيئوا له مكاناً يجلس فيه , وهذا حقّ مشروع له وإن أهملوه وخرج فالكل آثمون لأنه حرم من فائدة المجلس بصنعهم . هذا وينبغي أن تعلم أنّ ثمة شرطين , لابدّ من توافرهما , حتى ينطبق على من في المجلس مفهوم الإثم الّذي اشرنا إليه وهما :
1- طلب القادم من الجالسين أن يوسعوا له مكاناً ليجلس فيه , وإن سكت فلا حق له عليهم .
2- أن يأتي في الموعد المحدد لانعقاد الجلسة كاجتماع أو محاضرة أو حلقة علم أو صلاة عيد أو جمعة , وإن تأخر فينبغي أن يكون تأخره لسبب معقول .
فإذا استجاب الجالسون وأفسحوا فقد أطاعوا وأحسنوا وحافظوا على حق أخيهم القادم , وبهذا نرى أنهم ملتزمون بما علمهم ربّهم , مؤدبون بما ربّاهم عليه من أدب راق رفيع . ولهم بصنيعهم هذا المثوبة والأجر منحة من ربّهم نظير استجابتهم , والجزاء من جنس العمل , فالله عزّ وجلّ يفسح لهم كما فسحوا لأخيهم القادم , والسّؤال كيف يفسح الله لهم وأين ؟ لا أخال أنّك تجهل معنى كلمة "يفسح " ولكن أذكرك به : يفسح : يوسع لغيره من القادمين ليأخذوا مكانهم في المجلس , فيوسع الله عليه بل يفسح له في قبره مدّ بصره وهذا في عالم البرزخ , عالم ما قبل يوم القيامة , كما صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم , أو يوسع بل يفسح له في قلبه , وذلك معني به انشراح الصّدر والإقبال على الطاعة . وهذا مكانه أنت بالذات بل أشرف شيء فيك وهو القلب . أو يوسع له في الدنيا والآخرة , وذلك محمول على سعة الرزق وتيسير الأعمال في الدنيا والتمتع بنعيم الجنة في الآخرة . ولاحظ معي أنّ الخطاب الربّاني يذهب بنا نحو منحى جديد تماماً يعلمنا كيف نغادر المجالس , ولكن في منعطف له أهميته , الّتي لا يكاد يفطن لها إلاّ القليل , إذا صدر الأمر بمغادرة المجلس الّذي أنت فيه من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم , وذلك بوقوع أمر من صنع الله عزّ وجلّ يستدعي مغادرة المجلس , وإليك وقائع وأمثلة لذلك :
1- حضور جنازة للصلاة عليها وشهود دفن ذلكم الميت , فذلك حقه على إخوانه المؤمنين .
2- امرأة تستغيث في مكان مجاور للمجلس لحدوث حريق في البيت أو سقوط طفل من مكان مرتفع أو تسوّر الجدار ساقط يريد هتك عرضها ,
3- ورود خبر من مصدر موثوق بقرب وقوع كارثة طبيعية أو هجوم عدو أو نحو ذلك .
هذه شواهد واقعية تستدعي فيما أرى مغادرة المجلس , وكما رأيت منها ما يتعلّق بحق أخيك المسلم عليك , ومنها ما يتعلّق بإغاثة ملهوف , ومنها ما يمس سلامتك أنت . فالقرآن الكريم بهذا الأدب العالي علّمنا كيف نحافظ على حق الآخر في شهود المجلس والانتفاع منه بأيّ وجه من وجوه المنفعة , كما علّمنا متى نغادر المجلس تحصيلاً لمنافع دائرة ما بين الدّين والدنيا . وثمرة الالتزام بهذا الجانب من الأدب القرآني جدّ هامّة ولها وقعها في حسّ المؤمن الصادق , رفعة وسمو وعلو قدر عند الله وعند الناس , وتنمية ورسوخ لملكة الإيمان في قلبه , وأما أولو العلم فيرتقون مراق عالية بما يسّر الله لهم من علم , فهم شموع تضيء طريق الأمة وتزيل كل تلكم العقبات التي يسببها الجهل ذلك العدو الّذي يهلك صاحبه , وحقاّ بئس الصاحب هو , فلا يزيد صاحبه إلاّ كبراً وعناداً وإتباعا للهوى ذلكم العدو الأدهى والأمرّ. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن مداد العلماء يوزن بدم الشهداء يوم القيامة فيرجح عليه , ويقول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين : ( يشفع يوم القيامة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء . ) وأكرم بها من درجة راقية , يتبوّأها العلماء , بين الأنبياء والشهداء . ولاريب , أن الله عز وجلّ يرفع المؤمنين والعلماء درجات عالية في الجنة , حيث أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن في الجنة مئة درجة ما بين الدرجة والدرجة ما بين السماء والأرض . وما أرقى هذا الختام وأحسنه , ففيه تحفيز على الالتزام بهدي القرآن وآدابه السامية التي تساهم مساهمة فاعلة في بناء الشخصية الاجتماعية للمؤمن بحيث يألف ويؤلف فهو موقن أنّ ربّه يعلم ما خفي ودقّ من أعماله وأقواله , فكيف بما هو ظاهر باد لكل ذي عينين , فعلمه بذلك كلّه لا يجهله أحد . وهذا الختام يومئ إلى خاصية محاسبة النفس على تقصيرها في الالتزام بأدب القرآن وهديه ومن حاسب نفسه في الدنيا هان عليه أمر الآخرة والهف المستعان أولاً وآخراً .