نظرت إليها بلهفة بالغة وأنا انتظر كلمة واحدة تخرج من بين شفتيها..صمتت..وطال صمتها..وأخيراً تساقطت
الدموع من عينيها بغزارة دون أن تقول شيئاً..أحسست أني أختنق وقلبي يضعف ..ويضيق ..أحسست بأن العالم
كله ضدي ..اذن لقد انتهى كل شئ ..ولن نعود إلى ما كان ..دموعها كانت هي الرد ..وهل أحتاج لرد أقوي من
ذلك ..فهمت أشياء كنت أحاول ألا أفهمها ..عرفت أموراً كنت أتجاهلها ..كانت الحقائق ساطعة أمامي كالشمس
في كبد السماء ولكنني كنت أتغاضى عنها ولا أريد أن أعرفها ..لا أريد ..لا أريد ..وكيف أريد ؟ ..وكيف أفهم ؟ ..
وكيف أصدق ؟ ..وكيف أسمح لأي إنسان أن يتطاول عليها بأي كلمة ؟ ..هي زوجتي وحبيبتي وأم أطفالي الثلاثة ..ساره ..أحببتها قبل أن أتزوجها ..لقد أحببتها حتي قبل أن تولد !..فقد كنت أنتظر ولادتها بشوق وأمي تقول لي
وهي تشير لبطن خالتي المنتفخ : إذا جاءت بنت ياوليد فهي لك ..كنت في العاشرة من عمري آنذاك .. أترقب
بطن خالتي بشوق بالغ وكأنني أنتظر الدنيا بأسرها ..جاءت بعد فترة صغيرة ضئيلة خيبت كل آمالي ..فقلت لأمي
بيأس لن أتزوج هذه ..ضحكت أمي وخالتي وصدى ضحكاتهما يرن في أذني حتي الآن ..كبرت سارة وكبر حبي
معها ..وكبرت كل أحلامي ..كانت كالوردة الندية ..أحببت فيها كل شئ ..حتى تهورها وجنونها ..كانت عيني لا
ترى غيرها ولا تريد أن ترى ..كانت معي لحظة بلحظة ..حتى كبرنا وافترقنا ..سافرت أنا لدراسة الدكتوراه في
الهندسة من أمريكا ..كانت في حدود السابعة عشر أو الثامنة عشر ..ودعتها وكلي أمل أن لا تنساني هذه المتهورة
وهمست في أذن خالتي قبل الرحيل ..لاتنسي يا خالة ..إياك أن تزوجي سارة في غيابي طمأنتني خالتي بابتسامة
كبيرة ..وذهبت إلى هناك ولم أنسها ..خطاباتي الملتهبة أبعثها باتنظام ..كانت ترد علي برسائل قليلة متفرقة ليس
فيها مايشفي القلب والروح ..وأقول في نفسي لا زالت صغيرة لا تعرف معنى الحياة ..كانت صورتها ماثلة في مخيلتي ليل نهار ..أترقب عودتي إليها ..أتصور في خيالي ليلة زفافنا الرائعة ..وفستانها الأبيض ..المدعوون ..
وتورتة الفرح ..أفكر في أولادنا وأسميهم واحداً واحداً ..كنت أعيش على أمل كبير وعلى حب أكبر ..وعلى حلم
أكبر و أكبر ..كنت أعيش الحياة بدقائقها وثوانيها وكلي لهفة وانتظار ..وأمني نفسي بيوم تتحقق فيه كل الأماني وكل الأحلام ..مرت أيام الدراسة ببطء شديد وأنا أترقب العودة ..لم التفت لزميلات الدراسة ..ولم يبهرني جمال
امرأة ..لم أكن أرى غير وجه واحد يلازمني في صحوي ومنامي هو وجه حبيبتي الوحيدة سارة ..كان حبي لها
جنونياً وتعلقي بها شديداً وكيف لا وهي الملاك الطاهر ..النقية كنقاوة الندى وأخيراً ..أخيراً جداً عدت إلى البلاد
والفرحة تعم جوانبي وقلبي يكاد يرقص من شدة الفرح ..عدت وإنا أحمل لقب دكتور بكل جدارة وشرف ..تلقفتني
أمي بين ذراعيها وهي تبكي بدموع السعادة ..بكى أبي وهو يقبلني ..ضممت إخوتي واحداً واحداً وهم يهنئونني
بسلامة الوصول ..تلعثمت وأنا أسأل أين خالتي ..أخبرتني أمي أنها في الطريق إلينا ..عقد الخجل لساني فلم أسأل
عن سارة ..ارتبكت وهي تجيبني بأنها متعبة قليلاً وستأتي غداً لتسلم علي ..خفق قلبي بقوة وأنا أتساءل ما بها ..
ماذا حدث لها لدرجة عدم قدرتها على الحظور إلى بيتنا ..طلبت من خالتي أن أذهب أنا لأرها ولكنها اعتذرت
بأسلوب مهذب ..لم يكن هذا هو الموقف الوحيد ..إنني أتذكر الآن ..لقد حدث الكثير من المواقف المشابهة ولم
أعِرْها انتباهاً وقتذاك ..كانت تتعذر بشتى الحجج حتى لا تكلمنـــــــي ..عذرتها وقلبي يقول إنها لازالت صغيرة
رغم أنها تقترب من الثانية والعشرين من عمرها .. وحسماً للموقف طلبت من أمي أن تخطبها لي وأن نتزوج
بأسرع وقت ..وقتها أحسست بأن أمي تريد أن تقول لي شيئاً ..شيئاً ترددت في البوح به ..ولكنها صمتت ولم
تنطق ..أصبحت أرى أمي وخالتي تجلسان طويلاً معاً وتتحادثان بصوت هامس ..أحسست أن في الأمر شيئاً