’ما بُنيَ على الباطل فهو باطل’: أمريكا على نهج كولومبس
نيكول يونس
22 عاماً على وصول كريستوف كولومبس في مثل هذه الأيام من سنة 1492 إلى ساحل القارة الأمريكية. هو يوم عطلة رسمية، “يوم كولومبس”. هو ثاني يوم اثنين من شهر تشرين الأول /أكتوبر من كلّ عام، حيث تغلق مكاتب الحكومة الفدرالية الأمريكية، كما تغلق المصارف أبوابها. تعطِّل المدارس وكبرى الشركات احتفاءً بـكريستوف كولومبس.
لكنْ هل غيَّر هذا “الاكتشاف” حقاً خارطة العالم؟ وبأيِّ اتجاه؟ كيف نجرؤ على قول “اكتشاف”؟ ألم يُثبت التاريخ أنه في الحقيقة “غزو” وسرقة ؟ أنه إمعان في التدمير وارتكاب المجازر وعمليات الإبادة والسطو المسلح؟ وأن تلك الأرض ليست “عالماً جديداً” بل كانت مهداً لحضارات تعود للألفية الثانية والثالثة ق.م من الـ”مايا” و الـ”أزتيك” وغيرهما؟ وكولومبس هذا، الذي تحتفي به كل القارة الأمريكية -( ما عدا كوبا لعدم اعترافها بهذا اليوم)- ألم يكن عملياً هو نفسه أول طغاة العصر الحديث؟ أليست فكرة الاحتفال بيوم كولومبس هي في الواقع احتفالاً بنهج الاستعمار والطغيان؟
“يوم كولومبس v/s يوم “السكان الأصليين”:
يعود “يوم كولومبس” هذه السنة ليحرك القضية كما في كل عام ولكن على نطاق أوسع وباطراد، مثيراً النقاش حول المظالم التي ارتُكبت بحق الشعوب الأصلية والانتهاكات الخطيرة وعمليات الإبادة التي تعرضت لها والتعسف والظلم اللذين عامل بهما المستعمر المحتل سكان البلاد الأصليين وأرضها وماءها، سواحل بحارها وضفاف انهارها، إضافة إلى كنوزها الحضارية. هذا عدا نهب كولومبس ورجاله لذهبها وثرواتها المادية.
“نحن نرفض الاحتفال بعطلة تكرِّم الرجل الذي قام بتعذيب وذبح آلاف السكان الأصليين”، كما ينشر ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، من أجل إلغاء الاحتفال بيوم “الإرهابي الأول” كولومبس، على حد تعبيرهم.
ولاية واشنطن إلى قائمة البلدات والمدن التي استبدلت “يوم كولومبس” بـ “يوم السكان الأصليين”. والمدينة هذه سمِّيَت على اسم الزعيم “سياتل”، آخر زعماء “الهنود الحمر” الكبار، المعروف بخطبته الشهيرة، “خطبة الهندي الأحمر” التي ألقاها في شعبه وفي زعماء القبائل عام 1854. ولقد احتُفل بيوم كولومبس لأول مرة عام 1866 في مدينة نيويورك، أي بعد 12 عاماً على خطبة الزعيم “سياتل” التي استشرف فيها النتيجة مسبقاً: “ماذا سيحصل عندما تطغى رائحة الإنسان على زوايا الغابات النائية أو عندما تشوه الأسلاك الكهربائية مناظر الجبال؟ – هذه هي نهاية العيش وبدء صراع البقاء”.
“المكتشِف” … أول طغاة العصر الحديث:
كثيرة هي الأبحاث التي تُنشر في النصف الأول من تشرين الأول (أكتوبر) من كل عام، لتؤكد بالأدلة والبراهين على هوية “أول طغاة العصر”. آخر هذه الأبحاث ما نشرته صحيفة فوكس الإلكترونية تحت عنوان: “أشهر تسعة أسباب تجعل من كولومبس قاتلاً وطاغية”، مستندة إلى مراجع تاريخية ووثائق دامغة. وهي ليست مجهولة بقدر ما يُعمَل على طمسها. وآخرها “رحلات كولومبس الأربع” للمؤرخ “لورانس بيرغين” Laurence Bergreen . وكلها تؤكد باختصار أن كولومبس كان أول من بدأ تجارة الرقيق عبر الأطلسي. كما ارتكب مع رجاله عمليات الإبادة الجماعية.
ففي شهادة “ميشيل دي كنيو”، أحد المشاركين في حملة كولومبس الثانية، يعترف بأن “الأميرال” (كولومبس) أمر بسبي النساء وأنه أعطاه امرأة ليغتصبها. كما ينقل كيف تمَّ غزو قرى كاملة فقط لسبي النساء. وجاء في شهادات أخرى لـ”ألونسو دي اوخيدا” تلميذ كولمبس أن الأخير أمر بجلب ثلاثة قادة من الهنود الحمر وقطع رؤوسهم أمام العامة ففعل. كما أتى رجال “اوخيدا” بهنود حمر آخرين إلى ساحة و”قطعوا آذانهم”. هذا عدا الخطف والجلد أمام الملأ، وقطع الرؤوس بواسطة المقاصل. وقد أمر “المكتشِف” بإحضار 1500 من الهنود إليه، فخطف 500 منهم وأرسلهم إلى إسبانيا عبيداً، فتوفي حوالي 200 منهم أثناء الرحلة، أُلقيت جثثهم في عرض المحيط. أما الباقون، فأخذ منهم 600 ليكونوا عبيداً لرجاله الباقين في جزيرة هسبانيولا.
وكان حينها على كل “هندي” بلغ الرابعة عشرة من العمر أن يجلب ما مقداره “كشتبان” من الذهب ويسلمه للإسبان دورياً، وإلا تقطع يده وتعلَّق حول عنقه فتتدلى وينزف حتى الموت. أما من كانوا في مناطق قليلة الذهب، فكانوا يؤمَرون بإحضار القطن، ومن يقصِّر فعقابه الموت لا محالة. فما كان من الحوامل بعد أن رأينَ المجازر بحق الأطفال إلا أن أجهضن كي لا يتكرر ذلك مع أطفالهن. حتى إن 50 ألفاً من الهنود الحمر فضَّلوا الانتحار جماعياً على الخضوع؛ دمَّروا متاجر الخبز لكي يجوعوا، هم وغزاتهم. فآثروا بذلك الجوع حتى الموت على أن يُطعموا المحتل أو يرضخوا له.
ولم يكن كولومبس أقلَّ إجراماً مع رجاله المستوطنين الذين رافقوه. فهو كان يأمر بجلدهم في الأماكن العامة، أو ربطهم من رقابهم لأنهم استبدلوا بعض الذهب بالطعام خوفاً من الجوع. والنساء اللاتي تكلَّمن عنه بسوء أو عن إخوته، فقد كان مصير ألسنتهن القطع. وأكثر ما يُدين كولومبس، إضافة إلى شهادات من رافقوه، كلماته هو ورسائله.
إحدى هذه الرسائل وجَّهها إلى “دونا خوانا دي لا تور”، صديقة ملكة إسبانيا، يقول فيها: “هناك الآن العديد من التجار الذين يذهبون سعياً وراء الفتيات”.. “هناك فتيات بعمر تسعة أو عشرة (أعوام) هن الآن للبيع، وهناك نساء من جميع الأعمار، وبسعر جيد”.
هذا وقد أشار المؤرخ “بنيامين كين” إلى أن مصادر متعددة أكدت قطع رؤوس من استُعبدوا من السكان الأصلين من قِبل المستوطنين لمجرد أنهم أزعجوهم بشيء ما. كما عمد رجال كولومبس إلى تقديم سكان “الكاريبي” طعاماً لآلاف الكلاب التي استخدموها، وإعدامهم لمجرد أنهم أصيبوا ولو بمرض بسيط.
“غزوة كولومبس” مستمرة:
لم تنتهِ “غزوة كولومبس” بعد رحيله. فإيمانه، بحسب ما ورد في رسائله، بأن “أرواح الهنود الأصليين ليست كروح الإنسان، بل هي حيوانية لا تستحق النعمة ولا يشملها الخلاص الإلهي”، فكرة لم تسقُط، بل أصبحت نهجاً مُتَّبعاً؛ فقد استمرَّ غزو أراضي القبائل حتى أربعمئة عام بعد “غزوته الأولى”. صحيح أن المقاومة كانت عنيدة، لكن السكان الأصليين سُحقوا بالنتيجة أمام آلات الحرب التدميرية. وكان ذلك بعد مذبحة، انتهت على أثرها مقاومتهم واستسلموا في لاكوتا. لكنَّ الطبيعة قاومت أيضاً وتحوَّلت معظم الأراضي مع الزمن إلى صحراء قاحلة.
أما من بقي من النساء والأطفال على أراضي الولايات المتحدة اليوم، فيعيشون بمعظمهم في “محميات”. نعم “محميات”، وهي” عبارة عن مساحات من الأرض أَرغمت حكومة الولايات المتحدة هذه القبائل على الانتقال إليها والعيش فيها قبل أكثر من قرن من الزمان” بحسب تقرير نُشر في مجلة “هاي”الأمريكية. وبحسب البحث المنشور نفسه، إن كلمة “محمية” تسمية تطلق على أماكن تجميع الحيوانات. هي إذاً بالنسبة للسكان الأصليين معتقلات. معتقلاتٌ بأقفال معنوية مقَونَنةٍ فدرالياً.
ويستمر المنهج الكولومبي العنصري حتى يومنا هذا: فمن يمرض منهم يذهب إلى العيادات الصحية الخاصة بالسكان الأصليين، كأن أمراضهم غير أمراض البشر. كما لهم إدارة خدمات طبية مخصصة لعرقهم.
وقد فُرضت عليهم، لعقود طويلة، “سياسة الدمج”، وهي عملياً حظر التحدث باللغة الأصلية، لغاتهم الأم، أبداً، وارتداء زيِّهم القومي. كذلك تمَّ باسم “سياسة الدمج” حظر الاحتفالات الخاصة بهم، وأي طقوس قبلية، والتي كانت بمعظمها في الأساس مرتبطة بمواسم الحصاد والزرع.
أسماء الأسلحة أسماء الضحايا:
لكن “سياسة الدمج” هذه لها مناحٍ خطيرة أخرى لا تقتصر على طمس الهوية، بل تتعداها إلى قلب الهوية الأصلية.
الـ “أباتشي” مثلاً هي في العرف العسكري “الدبابة الطائرة”، مروحية هجومية عالية التسليح، تُعرف كطائرة الهجوم الرئيسية للجيش الأمريكي. خاضت هذه الطائرة حروباً كثيرة، أشهرها في الكويت ثم أثناء غزو العراق وأفغانستان، واعتُمدت في الحروب الإسرائيلية على لبنان وفلسطين. سجلّها التدميري “لِبثِّ الديمقراطية والحضارة” حافلٌ بلا منازع.
لكن مهلاً … لنعِد القراءة من جديد.
الـ “اباتشي” حقيقةً هو اسم قبيلة من قبائل سكان أميركا الأصليين.
وكذلك اسم “كومانش”،”شينووك”، “لاكوتا”، “شايان”، “كيواوا”، وكلها أصبحت تعني الكثير في لغة العسكر… كما أن “بلاك هاوك” كان قائد قبيلة من الهنود الحمر وهو مسالم، فلمَ تُسمَّى آلة حرب تدميرية باسمه؟
“توماهاوك”، الصاروخ-الملك في الحقيقة، هو اسم الفأس التي كان يدافع بها السكان الأصليون عن أنفسهم وعن أرضهم، هي سلاح مقاومتهم للاحتلال. كيف يحق للمستعمِرين إطلاق اسم هذه الآلة الشريفة الرادعة للظلم على صاروخ قاتل تدميري مخرِّب؟
“جيرونيمو” هو في الأصل أحد زعماء قبيلة أباتشي وأيقونة من أيقونات مقاومة التوسع الاستيطاني في أراضي السكان الأصليين. كيف أصبح اسمُه اسمَ عملية عسكرية (عملية بن لادن)؟ واللائحة تطول.
لماذا يسمّي الأمريكيون معاركهم وأسلحتهم المدمِّرة بأسماء قوم حقَّروهم وأبادوهم، ومن بقي منهم وضعوه في محميات كالحيوانات الآيلة إلى الانقراض؟ يقول عالم الألسنية “نعوم تشومسكي” في المخاطر الأخلاقية للتسميات الاستفزازية الدلالية: “(….) ومثل ذلك ينطبق على اسم عملية “جيرونيمو”. هل إلى هذا الحد يبلغ تجذُّر العقلية الإمبريالية في المجتمع الغربي، بحيث لا ينتبه أحد إلى أن في هذه التسمية تمجيداً لأسامة بن لادن، ومساواةً بينه وبين شخص شجاع قاوم الغزاة وما أرادوه من إبادة جماعية لشعبه من سكان أمريكا الأصليين، “جيرونيمو”؟! ذلك كأن نسمِّي أسلحتنا القاتلة بأسماء ضحايا جرائمنا: أباتشي، توماهاوك… “.
الموضوع بالتالي ليس عابراً أو محضَ صدفة، بل هو أصيل ومتجذِّر، منذ “غزوة كولومبس الأولى” التي سمِّيَت بالـ “اكتشاف”. فالعنف هنا مستمر حتى لو كانت أسلحة التسميات غير متفجرة.
وبقيت “خطبة الهندي الأحمر”:
“بعث الرئيس من واشنطن رسالة يُعلمنا فيها عن رغبته في شراء أرضنا. ولكن كيف يمكن شراء السماء وبيعها؟ أو الارض؟ هذه الفكرة غريبة علينا” هكذا يبدأ “سيلث” – اي “سياتل” – زعيم قبائل الدواميش والاسكواميش خطبته التاريخية الخالدة التي ألقاها سنة 1854م في اجتماع لزعماء القبائل، بحضور حاكم ولاية واشنطن المبعوث من الرئيس الأمريكي الذي وضعهم أمام خيار وحيد هو بيع أراضيهم والعيش في مجتمعات معزولة. وكان ذلك خلال هدنة قصيرة جداً، وإلا يتم الإجهاز على من تبقَّى منهم واقتلاعهم بالقوة جميعاً.
“طلبُ الرجل الأبيض شراء أرضنا امر سنفكر فيه، لكن شعبي يسأل عما يريده الرجل الأبيض. كيف يمكن شراء الأرض و/أو السماء وسرعة الظباء؟ كيف نستطيع أن نبيعكم هذه الأشياء وكيف تستطيعون شراءها؟ هل تستطيعون أن تفعلوا بالأرض ما تشاؤون لمجرد أن الرجل الأحمر يوقِّع على قصاصة ورق ويعطيها للرجل الأبيض؟ إذا كنا لا نملك نقاء الهواء وتألّق الماء، كيف تستطيعون شراءهما منا؟”…”سنفكِّر في طلبكم. ونحن نعرف أننا إذا رفضنا فالرجل الأبيض سيأتي مدججاً بسلاحه ليسلبنا إياها، على أساس أننا همج. إن الرجل الأبيض الذي يملك السلطة مؤقتاً يعتقد انه إله يملك الأرض. وكيف يستطيع الإنسان أن يمتلك أمه؟
سوف نفكر في طلبكم شراء أرضنا، الليل والنهار لا يطيقان العيش سوية. سنفكر في عرضكم علينا الذهاب إلى المجمعات حيث سنعيش بعزلة وسلام. ليس مهماً أين نقضي بقية أيامنا، فهي لم تعد كثيرة.”
وهذا ما حصل. فقبيلة الدواميش اختفى آخر اثر لها عام 1910. لكن هذه الخطبة بقيت، وهي تُعدُّ من روائع الأدب السياسي، القاها “سياتل” بلغة قبيلته ونُقلت إلى لغات القبائل الأخرى كما إلى الإنكليزية من أجل “المفاوضات” مع الرجل الأبيض.
هذه الخطبة الخالدة هي الإثبات على نكث النهج الكولومبي للعهود. كما هي الدليل الذي يدين هذا الرجل الأبيض على اقتلاع جذور السكان الأصليين وزرع الدمار بالبشر والشجر والحجر.
“نحن نعرف أن الرجل الأبيض لا يفهم طباعنا فهو لايفرِّق بين جزء وآخر من الأرض، فكلها عنده سواء، لانه غريب يأتي ليلاً ويأخذ من الأرض ما يروق له. الأرض ليست أخته بل هي خصمه. وحين يستولي على أرض يواصل البحث عن أخرى. يسرق الأرض من أبنائها غير مكترث بشيء. يتعامل مع أمه الأرض وأخته السماء تعامله مع أشياء للشراء والنهب أو للبيع، كالخراف والخرز الملوَّن. جوعه سيلتهم الأرض ولن يترك وراءه غير الأرض اليباب.
لا أدري… إنكم تختلفون عنا. منظر مدنكم يؤذي عيوننا، ربما لأن الرجل الأحمر همجي ولا يفهم شيئاً.
لا هدوء في مدن البيض فهي تخلو من مكان يسمع فيه المرء تفتُّح الأوراق في الربيع. (…) يبدو أن الرجل الأبيض لا يلاحظ الهواء الذي يستنشقه، مثله مثل رجل يصارع الموت منذ أيام طويلة وقد ماتت فيه حاسة شم ما هو نتن.
لكننا إذا بعناكم أرضنا عليكم ألا تنسوا أن الهواء غال وعزيز، فهو يشارك بريحه كل الحياة التي يحتويها. الريح منحت أجدادنا الأنفاس الأولى وهي التي تستقبل آخر أنفاسهم وتهبُ أبناءنا روح الحياة.”