الكاتب: أ.د وائل أبو هندي البلد: مصر بداية من يوم 2 فبراير 2011 ظهرت على عدة مواقع إنترنت وفي بعض الصحف تساؤلات عما إذا كان المصريون مصابين بمتلازمة ستوكهولم؟ وكان هذا هو اليوم التالي لكلمة الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك التي استعطف فيها المصريين ضاغطا على أوتار طيبتهم وتسامحهم ومذكرا بأنه خدم مصر لعقود وأنه فعل أحسن ما لديه ومعلنا أنه لا يرغب في الرحيل عن أرض مصر... إلى آخر ما جاء في الكلمة التي جعلتنا نتساءل كمتخصصين في النفس البشرية وأمراضها يا ترى من كتبها له فكانت قادرة بامتياز على تحريك مشاعر التعاطف والتسامح لدى قطاعات واسعة من المصريين...
وتزامن ذلك مع انقسام كاد يدب بين الناس حول الموقف من مبارك وحول الموقف من المعتصمين في ميدان التحرير، وكان ذلك بعد الأداء المذري الذي ظهرت به آلة الحكم البوليسية فكان غريبا أن يتعاطف أحد مع مبارك إلا أن يكون مصابا بمتلازمة ستوكهولم، تذكرت في ذلك الوقت ما قرأته ضمن أدبيات الحالة النفسية لضحايا اضطراب الكرب التالي للرضح أو كرب ما بعد الصدمة (Post-Traumatic Stress Disorder (PTSD وتفكرت هل تصح فعلا المقابلة بين ما نعرفه كمتخصصين كمجموعة أعراض تحدث للضحية التي تتعاطف مع جلادها ونسميها متلازمة ستوكهولم Stockholm Syndrome وبين ما يحدث لمجموعة من الناس ربما تصل إلى الآلاف؟ فإن كان هذا الفهم يستقيم على المستوى النفسي الفردي هل يستقيم أيضًا على المستوى النفسي المجتمعي؟ ولم يطل بي التفكير حينذاك طويلا لأن هم الثورة كان أكبر وتلاحق الأحداث لم يكن يسمح بكثير من مثل هذه التساؤلات الأكاديمية.
ثم كان أن تكرر تساؤل الناس والصحفيين بعد ذلك عن متلازمة ستوكهولم مرات عديدة، عندما ظهرت فقاعة أبناء مبارك، ثم عندما علت بعض الأصوات التي نادت بأن يعفو الشعب عن مبارك، ثم عندما بدا شيء من الانقسام بين اليمنيين بشأن صالح ثم في سوريا... إلخ وفي كل هذه المرات كلها كانت المقابلة تتم بين أعراض تعاطف الضحية مع جلادها وتعاطف فئات من المجتمع مع رئيس لا يعد طغيانه وإمعانه في إزهاق أرواح الناس وقمعهم بشتى السبل والوسائل أمرا يشك فيه عاقل، وهذا ما استدعى استرجاعا للمعلومات والدراسات الخاصة بهذه الظاهرة النفسية التي بدأت دراستها منذ سنة 1973 من القرن الماضي فما هي متلازمة ستوكهولم وما أعراضها وتفسيراتها وهل هي فعلا صالحة للتطبيق على جماعات من البشر بهذا الشكل أم لا؟
ما هي متلازمة ستوكهولم؟
متلازمة ستوكهولم في عِلْمِ النفْس هي تعبيرٌ يُستَعملُ لوَصْف ظاهرة نفسية متناقضة بحق، حيث نرى رهائن أو ضحايا عمليات اختطاف أو عمليات إرهابية يَبدونَ تعاطفاً نحو آسريهم أو مختطفيهم بل ويحملون َلهُم مشاعر إيجابية تصل أحياناً إلى حدّ رفض توقيع العقاب عليهم من قبل الشرطة بل والدفاع عنهم أمام القاضي، وكما هو واضح فإن هذه المشاعر تَعتبرُ مفرطة في لا منطقيتها في ضوء الخطر والكرب المهدد للحياة الذي تعرضت له الضحايا.... لكنها مع ذلك ظاهرة منتشرة حسب بعض الدراسات فمثلا تظهر قاعدةِ بيانات مكتب التحقيقات الفيدرالي أنّ تقريباً 27% مِنْ الرهائن يظهرون بعض الدلائل على وجود متلازمةِ ستوكهولم.
تاريخ متلازمة ستوكهولم:
يعود سبب تسمية هذه المتلازمة ستوكهولم كما يعود الاهتمام العلمي الحديث بها إلى حادثة حصلت صباح يوم الخميس 23 أغسطس 1973م عندما تعرض أربعة (رجل وثلاث سيدات) من موظفي بنك في مدينة ستوكهولم عاصمة السويد (Sveriges Kreditbanken of Stockholm) إلى حادث سطو مسلح احتجزوا فيه كرهائن لمدة 6 أيام متواصلة من قبل اثنين من أصحاب السوابق، ولدهشة الموجودين فإن هؤلاء الموظفين عند محاولة إنقاذهم قاوموا رجال الأمن الذين يريدون مساعدتهم ورفضوا أن يتركوا خاطفيهم... بل إنهم -وبعد تحريرهم ورغم ما عانوه على يد خاطفيهم- دافعوا عن الخاطفين وعن مبادئهم بل وجمعوا التبرعات للدفاع عنهم أمام القضاء.... ليس هذا فقط بل حصل ارتباط فعلي بين اثنتين من الموظفات الثلاثة وهذين الخاطفيْن!
دفع ذلك كثيرين من علماء النفس والصحفيين إلى البحث والتحري عما إذا كانت ظاهرة تعاطف الضحية مع جلادها ظاهرة جديدة أو هي مجرد مصادفة تحدث أحيانا أم أنها ظاهرة نفسية شائعة يمكن أن تحدث للناجين من حوادث العنف والإرهاب... وأظهر البحث أن الظاهرة شائعة إلى حد استحقاقها تسمية منفردة فقد سجل حدوثها في السجناءِ في المعتقلات السياسية، وضمن المدنيين في السجونِ الشيوعيةِ الصينيةِ، وفي ضحايا الاغتصاب وزنا المحارمِ، والأطفال المُنتَهَكين جسدياً وعاطفياً، وضمن أسرى الحرب... إلخ..... لكن ما يبدو هو أن اهتمام الإعلام بشتى صوره بالمفهوم المدهش للتعلق بالجلاد بما فيه من تناقض صارخ، إضافة إلى عدم اتفاق العلماء والدارسين على مجموعة الأعراض والشروط الواجب توافرها أدى ذلك إلى الإفراط في اللجوء إلى المقدرة التفسيرية لنموذج ستوكهولم في معظم حالات الخطف أو الاحتجاز... إضافة إلى اتساع نطاق استخدامها بحيث لم تعد توصف متلازمة ستوكهولم في فرد أو عدة أفراد تعرضوا للخطف أو الاحتجاز أيام وإنما أصبحت تستخدم أيضًا لتفسير الاستمرار في العلاقات المرضية بين شخص مستغل وشخص مستغل سواء كانت العلاقات علاقات عاطفية أو علاقات زواج كما استخدمت في ربيع الثورات العربية لتصف سلوك المتعاطفين مع الحكام الذين خلعتهم شعوبهم.
الشروط اللازمة لحدوث متلازمة ستوكهولم:
ما يزال الاتفاق على العوامل المهيئة لحدوث متلازمة ستوكهولم في حادثة عنف ما أو الأسباب التي تجعل بعض الناس أكثر عرضة للإصابة به سواء كانت في شخصيات الأسرى أو الضحايا أنفسهم أو في شخصيات الجناة أمرا بعيد المنال حتى الآن، ذلك أن الدراسات المتاحة كلها هي دراسات استرجاعية تبدأ بعد الحدث وهو ما يجعل استيفاء شروط البحث العلمي الموضوعي غير ممكن أحيانا، لكننا لا نستطيع أخلاقيا فعل شيء غير ذلك، فلا يمكن أن نعرض مجموعة من الناس لحادثة اختطاف مثلا لنجري دراسة علمية؛
ولذا فإن كثيرا من المعلومات المتاحة عن وبائية المتلازمة بل وصورتها الإكلينيكية هي من الأمور المختلف عليها بين العلماء وغير المحددة علميا بالتالي، فهناك على سبيل المثال ما يشير إلى أن الشخص الذي يرتبك عند مواجهة الكرب عموما ويستسلم سريعا أكثر عرضة للإصابة بهذه المتلازمة إذا احتجز كرهينة وكذلك الشخص الذي يوصف بأنه مستعد لفعل أي شيء وقبول أي شيء من أجل البقاء على عكس الشخص القادر دائما على التفكير السليم في أشد المواقف والشخص المستعد للموت دفاعا عن كرامته مثلا إلا أن كل ذلك غير مثبت علميا، وعلى كل يكاد يكون من المتفق عليه بين علماء النفس أن أربعة شروط يلزم توفرها في حادثة كربية ما لتظهر متلازمة ستوكهولم في شكلها الإكلينيكي المعروف وهذه الشروط هي:
1- أن تشمل الحادثة إدراكا لخطر مهدد للحياة من قبل الأسير/الضحية وقناعة بأن الآسر/ المعتدي يمكنه الإقدام على ذلك.
2- امتنان الأسير/الضحية لما يدركه كعلامات إشفاق عليه من قبل الآسر/ المعتدي
3- العجز عن رؤية الموقف/ الجريمة من أي منظور غير منظور الآسر/ المعتدي
4- قناعة مدركة بالعجز عن الهرب.
ولا تحدث أعراض متلازمة ستوكهولم في كل حالات الاعتقال أو الخطف أو الاحتجاز كرهائن، ذلك إذ لابد مثلا من أن تستمر حالة الاحتجاز عدة أيام على الأقل ولابد أن يكون هناك تعامل مباشر بين الأسير/الضحية والآسر/ المعتدي فغالبا لا تحدث أعراض ستوكهولم إذا وضع الأسير في غرفة منفصلة عن الآسر، كما يشترط أن يظهر الآسر ما يدركه الأسير على أنه عطف أو شفقة تجاهه أو على الأقل عدم إيذائه، ففي الحالات التي يتكرر فيها الأذى للأسير نادرا ما تظهر أعراض ستوكهولم.
ورغم عدم وجود قائمة أعراض وعلامات واضحة ومتفق عليها مِن قِبل الباحثين والخبراءِ، فإن عِدّةً من الظواهر تَكُونُ موجودة كلها أو أغلبها في أغلب الحالات هي:
1- مشاعر إيجابية من الأسير/الضحيّةِ تجاه الآسر/ المعتدي أو المنتهكِ.
2- مشاعر إيجابية مِن قِبل الآسر/ المعتدي تجاه الأسير/الضحيّةِ.
3- مشاعر سلبية من الأسير/الضحيّةِ تجاه العائلةِ أو الأصدقاء أَو السلطات التي تُحاولُ إنْقاذه أو َدْعمه.
4- دعم الأسير/الضحيّةِ لسلوكِ الآسر/ المعتدي وإيجاد المبررات لجريمته.
5- سلوكيات داعمة يقوم بها الأسير/الضحيّةِ تساعدُ الآسر/ المعتدي أحياناً.
6- عدم قابلية للتعاون من قبل الأسير/الضحيّةِ في عملية التخلص من الآسر/ المعتدي.
ويعاني المصابون بمتلازمة ستوكهولم من نفس أعراض اضطراب الكرب الحاد Acute Stress Disorder أو أعراض اضطراب الكرب التالي للرضح Post-Traumatic Stress Disorder مثل الأرق والأحلام المفزعة أو الكوابيس، ومن التوتر المستمر والاستثارة المفرطة بشكل عام وصعوبة أو العجز عن التركيز، والارتباك والشعور بعدم الواقعية والاستغراب ومحدودية الوعي بالبيئة المحيطة إضافة إلى سهولة الإجفال Startling والشك في الآخرين وفقد القدرة على الاستمتاع إضافة أيضًا إلى الرجائع الزمنية Flashbacks التي تسترجع الذاكرة فيها لا إراديا صورا أو مواقف عنيفة أو مؤلمة متعلقة بالحادثة... وكثيرا ما تظهر أيضًا أعراض التحاشي لكل ما قد يستثير تلك الأعراض.... كما يمكن أن تظهر أعراض أخرى بعد فترة كأن يصاب المريض بتغير في سلوكه مثل الاستغراق في العمل أو التأمل أو أي نشاط آخر كالقراءة بشكل غريب أو الهروب بواسطة النوم لساعات طويلة جدا.
الآلية النفسية لمتلازمة ستوكهولم:
تعرف متلازمة ستوكهولم أيضًا بمتلازمة التماهي للبقاء أو متلازمة التوحد للبقاء Survival Identification Syndrome وأيضًا تسمى متلازمة الحس السليم Common Sense Syndrome ذلك أنها جوهريا ليست إلا محاولة للبقاء في مواجهة ما يدرك على أنه تهديد محقق للبقاء، وعادة ما تتألف من ثلاثة مكونات معرفية شعورية يمكن أن تحدث منفردة أو مجتمعة مع بعضها البعض: مشاعر سلبية من جانب الأسير/الضحيّةِ نحو السلطات أو محاولي إنقاذه، ومشاعر إيجابية من جانب الأسير/الضحيّةِ تجاه الآسر/ المعتدي، ومشاعر ايجابية متبادلة بين هذين الطرفين، ويمكننا أن نفهم تلك الآلية النفسية لحدوث ذلك من خلال تأمل كلٍّ من الشروط الأربعة اللازم توافرها كي تتشكل أعراض متلازمة ستوكهولم:
أولا: إدراك الخطر المهدد للحياة من قبل الأسير/الضحية: وهو ما يمكن أن يحدث مباشرة من خلال التهديد المباشر من قبل الآسر/ المعتدي أو غير المباشر (ككل سلوك عنيف يقوم به الآسر/ المعتدي) أو معرفة الأسير/الضحية بالتاريخ الإجرامي للآسر/ المعتدي أو إجرام الطائفة التي ينتمي إليها، وأثناء العملية يصاب الأسير/الضحية بالرعب الشديد من الآسر/ المعتدي، ويقع في نفسه أن الطاعة الكاملة والتعاون معه هما السبيل الوحيد للنجاة، كما تبدأ في التشكل حيلة نفسية غير واعية تسمى التماهي أو التوحد مع المعتدي Identification with the Aggressor أي أن يحب من يضطهده ويلتصق به ويحرص على إرضائه بل وحمايته، ولا شك أن للآسر/ المعتدي دورا في إحداث ذلك حيث تشير تصرفاته وإيماءاته إلى أن عواقب عدم التعاون معه ستكون وخيمة علينا أو على من نحب وتغلف ذلك كله قناعة بأن الآسر/ المعتدي يمكنه فعلا أن ينفذ ما يهدد به.
ثانيا: الامتنان لعلامات الشفقة من قبل الآسر/ المعتدي: عندما يكون الإنسان في محنة حقيقية أو موقف كربي مهدد لحياته أو حياة من يحب من الطبيعي أنه يبحث عن أي علامات أمل في الخلاص من المحنة أو على الأقل تحسين ظروفها، ولهذا السبب نجد أن أي علامة عطف أو إشفاق من قبل الآسر/ المعتدي تجاه الأسير/الضحية مهما كانت بسيطة أو تلقائية أو حتى مفهومٌ أنها أيضًا لصالح الآسر/ المعتدي نجد أنها تستقبل وتترجم من قبل الأسير/الضحية على أنها حسنة ومعروف يدل على نزعة خير طيبة في الآسر/ المعتدي... وتتراوح الأمثلة من إعطاء حلوى لطفل إلى السماح بدخول الحمام بل حتى السماح بشربة ماء أحيانا... بل قد يكون هذا المعروف فقط أنه لم يقتله لأي سبب كان بغض النظر عن توفر القدرة على القتل أو عدم توفرها، وبالتالي فإن تقديم أي تعامل لين من قبل الآسر/ المعتدي يزيد من حب الأسير/الضحية له حيث أنه يضخم من قيمة أي شيء طيب يقدم له من قبل الآسر.
وكثيرا لهذا السبب ما يدخل الأسير في حالة من الحيرة المعرفية والانفعالية بين الإعجاب بالآسر والخوف منه تجعل المصاب بمتلازمة ستوكهولم مترددا في أن يكره خاطفه أو حتى يلقي عليه أي لوم ويوجه اللوم كله إما إلى نفسه أو من يحاول إنقاذه من الأسر، وكثيرا ما لا يرى في الآسر أي صفة سيئة ولا يقبل أن يقال عنه أي شيء سلبي من قبل الآخرين.
ثالثا: رؤية الموقف/ الجريمة فقط من منظور الآسر/ المعتدي: طبيعي عندما لا يكون في جيبك ما يكفي لعشاء أسرتك أن تتمحور كل أفكارك وقراراتك حول النقود، وطبيعي كذلك حين تكون في موقف الأسير/ الضحية المستسلم أن تدور أفكارك وقراراتك حول كيفية إرضاء الآسر/ المعتدي -بل وكيفية إسعاده- لتجنب بطشه، وطبيعي كذلك أن تشعر بأنك تمشي على قشر البيض وأنت خائف من تكسيره! أو تمشي على العجين وتخشى تشويهه... فمن جهة تنشغل وتهتم بكل رغبات واحتياجات وعادات الآسر/ المعتدي حتى تصل إلى رؤية الأمور بعينيه هو لا عيناك أنت، ومن جهة أخرى تهتم وتنشغل وتحتاط من كل ما من شأنه أن يعكر صفو الآسر فتتحاشاه وتكرهه حتى لو كان بكاء طفلتك الصغيرة وهي معك في الأسر، ثم يؤدي إدراكك لنجاحك في إرضاء الآسر/المعتدي (بدليل أنه لم يؤذكَ أو لم يقتلك!) إلى الخوف المفرط أكثر فأكثر من كل ما قد يعكر صفوه، وإلى تعزيز نفس السلوك السابق... فيصبح إرضاؤه مقدما على إرضائك وسلامته مقدمة على سلامتك!
وبغير وعي منه، وبشكل طفولي وبريء، يشعر الأسير أن عليه أن يرضي الآسر/ المعتدي وأن يدعمه ويدخل السرور على نفسه أثناء الموقف حتى يتجنب أذاه، ويلاحظ أن الأسير/الضحية يتعلم بسرعة فائقة ما هي الأشياء التي تسعد الآسر ويسارع إلى تقديمها، بل وأحيانا تصل الرغبة في إرضاء الآسر حد تجاهل الأسير/ الضحية لرغباته وحاجاته هو نفسية كانت أو جسدية.
ثم تكتمل حلقات هذه الحالة برغبة في الابتعاد عن وتحاشي كل ما قد يغير هذه الوضعية النفسية التي يصل لها الأسير وصولا إلى القبول بالانعزال عن أي رؤية للموقف تخالف رؤية الآسر بما في ذلك رؤية أن الخلاص من الأسر مطلوب والرغبة في عدم التعرض لما قد يثير الرغبة في الخلاص والإنقاذ بل إنه لو بذلت أي محاولة لإنقاذه، فإن الأسير لا يرفضها فقط بل يعتبرها مصدر تهديد له ولذلك فإنه يقاومها بل ويقدم المساعدة لمن يختطفه... ويشعر بالغضب تجاه محاولي إنقاذه أو حتى تغيير موقفه.... وبالتأكيد لا يختلف هذا عن رد فعل الآسر الذي يعتبر أي اتصال بين الأسير/ الضحية ومن يود مساعدته تهديدا مباشرا له وهو بالتالي يحول بشتى السبل دون حدوث ذلك... ثم نجد في حالة متلازمة ستوكهولم أن الأسير يساعده ويأخذ نفس موقفه... ويلاحظ ذلك أكثر ما يلاحظ حين تكون هناك مفاوضات تتعلق بإطلاق سراح الأسير فحين تطول أو تفشل يشعر الأسير مشاعر سلبية تجاه من يفاوضون لأجله لكنها مماثلة لمشاعر الآسر.
رابعا: قناعة مدركة بالعجز عن الهرب، قد يكون سهلا أن نفهم كيف تتشكل القناعة بالعجز عن الهرب في حالات الرهائن المحتجزين أو المعتقلين في السجون السياسية...إلخ.. لكن نفس القناعة يمكن أن تتشكل عوامل كثيرة متداخلة في حالات المتورطين في علاقات استغلالية أو في ممارسات كالتحرش الجنسي أو زنا المحارم من خلال التورط العاطفي أو الاقتصادي أو الأسري أو المجتمعي... إلخ...، وأما الدور المعرفي الشعوري لهذه القناعة فيبدو واضحا إذ أن إدراك العجز عن الهرب والقناعة بذلك عامل مهم في التهيئة المعرفية الشعورية لكل ما سبق من خوف على الحياة وامتنان لكل إمارات العطف وميل ثم استمرار في الرؤية بعيني الآسر/ المعتدي فضلا عن كونها تحافظ على كل ما يلزم الاستسلام واليأس لاستمراره من خضوع وخنوع وطاعة عمياء للآسر المعتدي دون سواه.
العلاج والمآل لمتلازمة ستوكهولم:
ليست متلازمة ستوكهولم تشخيصا مرضيا رسميا يحتاج للعلاج لدى طبيب نفساني إلا في الحالات التي تكون أعراض المتلازمة فيها جزءًا من اضطراب الكرب الحاد Acute Stress Disorder أو أعراض اضطراب الكرب التالي للرضح Post-Traumatic Stress Disorder الواصلة شدتها إلى درجة مرضية معيقة، يتطلب التعامل معها جهدا كبيرا كالعلاج الجمعي وتقديم الدعم والمساندة وإخراج المصاب من عزلته، كما تجب إعادة صياغة معاني السلوك الأخلاقي ومفاهيم الشر والخير من جديد للمصاب بمتلازمة ستوكهولم ويتم ذلك عبر العلاج المعرفي، وفي النهاية يمكننا القول بأن أعراض متلازمة ستوكهولم هي وسيلة هروب من ضغط نفسي رهيب ولكنها تتم بالتأقلم معه.... وهو ما يستدعي علاجا عند التخلص من الموقف الكربي المسبب، لأن أعراض التعلق بالمعتدي لا تنتهي بعد إنهاء الخطف أو الاعتقال.
وعلى الرغم من أن ظاهرة متلازمة ستوكهولم معترف بها في علم النفس وأدبيات اضطرابات الكرب وسمات الضحية المعرفية الشعورية، إلا أن سنة لم تشهد مبالغة في الحديث حول متلازمة ستوكهولم كمثل سنة 2011 التي شهدت زخم الربيع العربي، فقد كثرت الأحاديث والتعليقات والتحليلات في وسائل الإعلام حول أعراض المتلازمة واشتبه كثيرون في وجودها لدى قطاعات كبيرة من الشعوب، في حين أنها ليست منتشرة بالقدر الذي بدا لأول وهلة بين الأفراد من ضحايا الاعتقال أو الاغتصاب أو التعذيب.... بل إننا نستطيع القول بأن القاعدة هي أن الضحايا أو الرهائن يستجيبون بالطريقة المنطقية فلا يتعاطفون مع خاطفيهم ولا محتجزيهم ولا يرون رجال الشرطة أعداء وأما تلك المناسبات التي تحدث فيها متلازمة ستوكهولم في الواقع فإنها تظل استثناءات لهذه القاعدة.
نقطة أخرى أخيرة لابد من التنبيه لها وهي أن محاولات القياس المجتمعي على هذه الظاهرة السيكولوجية الفريدة بحيث يصح تطبيقها على قطاعات من الشعوب وجماعات من البشر ليست دائما بعيدة عن الحرب الأيديولوجية ونفس الكلام أراه منطبقا على محاولة تطبيق المفاهيم نفسها على علاقات الزوجات بأزواجهن أو الآباء بأولادهم وبناتهم خاصة وأن المعيار الذي على أساسه تعتبر العلاقة علاقة استغلال غالبا ما يرى من المنظور الغربي وليس هذا دائما صحيح الانطباق على كل المجتمعات... فكثيرا في حالة العلاقات ما يكون الاستمرار في العلاقة التي ترى علاقة استغلالية هو اختيار يختاره الطرف المستغل أو الذي يستدعى مفهوم متلازمة ستوكهولم لتفسير تصرفه، ويكون في استدعاء مفهوم ستوكهولم تبرير لتصرفه الذي يفترض أنه مسئول عنه.... وكثيرا كذلك ما يكون التعلق الذي تبديه بعض القطاعات من الشعوب بجلاديها هو أيضًا اختيار هم مسئولون عنه وكثيرا ما يكونون مختارين وفي منتهى العقل..!... ثم كيف لنا أن نشبه تغيرات وتحولات نفسية استثنائية حادة تحدث في ظروف استثنائية بلا جدال كظروف الأسر والاعتقال والتعذيب تحسب في أقصى الأحوال بالساعات أو الأيام بتغيرات وتحولات مزمنة تتداخل مع العادية وتحسب بالشهور والسنوات وليست استثنائية بأي حال مثلما هي العلاقات الإنسانية؟
المصدر
http://www.maganin.com/content.asp?contentid=18903