يوميات طفلة ريفية
( 1 )
وقفت منزوية فى احد اركان الحوش الضيق لمدرستها الإبتدائية .. كانت تخشى ان تصيبها الكرة التى راح زملاؤها الأولاد يتصارعون عليها بوحشية وفرح .
تجمعت زميلاتها بعيدا تحت شجرة التوت الكبيرة .. تحركت ببطء وهي تنظر بحذر الى الكرة الطائرة هنا وهناك , اتقاء لإصابة قد توجعها .
سقط غلام على الأرض صارخا .. نظرت اليه بدهشة ..ضحك منه ولد بدين .. وقف فورا وهجم عليه غاضبا ..اشتبكا فى معركة ضارية , بينما مرقت هي بسرعة متجهة الى داخل مبنى المدرسة , ودقات فلبها تتلاحق بتشوّف .
فى الداخل .. تجمع عدد من الأولاد حول مائدة تنس الطاولة .. اثنان منهم كانا يتبادلان بحيوية قذف الكرة بالمضرب .. استندت الى جدار بعيد , وراحت تتابع بشغف , حريصة على الا يبدو عليها ذلك .
ازداد حماس الأولاد .. امعنوا فى التحلق حول المائدة .. لم تعد ترى شيئا ..اكتفت بالسماع .. لم تكن متحيزة لأحد الولدين , ولكنها كانت تشعر بنشوة الصراع تسرى فى شرايينها المشوقة .. دق الجرس .. تحرك زملاؤها بسرعة وصخب .. سارت هى مع زميلاتها بخطوات متباطئة خجول .
فى حجرة الدراسة , كانت تعرف كل اجابات الأسئلة الى يوجهها المدرس , ولكنها لا تحاول الإجابة , الا اذا وجه اليها السؤال مباشرة , وحيئذ كان الأولاد يضحكون بسخرية كلما هنأها المدرس على اجابتها الصحيحة .. لم تكن تعرف السبب !
*****
فى الطريق الى المنزل , كانت تسير ببطء , متأملة الأحجار الصغيرة المتناثرة على الطريق الترابي .. كانت أمنيتها القديمة ان تركل حجرا بحذائها الصغير , كما يفعل الأولاد .. ولكن هيهات .. ماذا سيقول الناس ؟
سارعت ببطء .. تختلس النظر إلى الأشجار الشامخة على حافة الترعة .. يداعب عينيها حجر صغير على كومة من التراب .. تتمنى ان تركله بحذائها .. تتخيله طائرا فى الهواء .. تتوقف متظاهرة بربط رباط الحذاء .. تنظر حولها بحذر .. ترى ان الوفت مناسب ,, تستعد برفق .. تشاهد رجلا ضخما يمتطى حمارا هزيلا , قادما نحوها من الجانب الآخر من الطريق .. تعدل عن المجازفة .. تستمر فى المسير .
( 2 )
تكنس فناء المنزل الترابي .. تحمل صفيحة وتملؤها من الطلمبة الصدئة .. تبذل جهذا فوق طاقتها لترفع الصفيحة المملوءة فوق رأسها , تعجز .. تفرغ قليلا من الماء وتعاود المحاولة .. لا أمل .. تعض على شفتها السفلى بينا تروح تحرك الصفيحة يمنة ويسرة , متقدمة بها نحو الفناء خطوة خطوة .. اخيرا تصل .. تقف مفكرة فى أسلوب سهل لرش الفناء .. لو أمكنها ان تحمل الصفيحة لترش بها مباشرة , لانتهى الأمر بسهولة .. وفى النهاية لا تجد امامها الا ان تفعل ماكانت تفعله كل يوم بدون انقطاع .. تحضر كوزا صغيرا مثقوبا وتروح ترش الماء به .
ابوها يمر عبر الفناء متجها الى خارج المنزل .. يصيح بها ان تنتهى بسرعة من الفناء , وترش قليلا من الماء امام المنزل .. امها من غرفة الفرن تنادى عليها بصوت غاضب لكى تحضر بسرعة لتلقم الفرن من اعواد الحطب الموجودة فوق السطح .. تهرع الى اعلى تاركة صفيحة الماء .. تروح تجمع الحطب .. يصاب اصبعها الصغير بخدش .. تتأوه بصوت خافت .. تروح تمص اصبعها لتخفف الألم .. تدور بنظراتها فى ارجاء السطح بلا هدف .. تشاهد حجرا صغيرا يرقد فوق ارضية السطح الطينية بلا مبالاة .. تنظر اليه كما لوكان هناك سرٌ بينهما .. تقترب منه ببطء .. تحرك قدمها لتحكم التصويب .. تركل الحجر ركلة موفقة , تطير به الى باب السطح , حيث تقف امها التى وصلت توا لتتعجل الحطب .. تنظر الأم بدهشة .. تسألها عما اذا كانت قد اصيبت بالجنون .. تعرك اذنها بقوة حاثة إياها على سرعة احضار الحطب .. تحمل حزمة الحطب الكبيرة والأعواد تلاحقها بالوخزات هنا وهناك .. تفكر ان تقلل من حجم الحزمة , ولكن امها ستتهمها بالتكاسل والتبلد ..تهبط السلم الضيق غير المسوّر بحذر , وهى تحبس دمعة تريد ان تفرّ من عينيها الجميلتين .
( 3 )
قالت امها بوجوم لجارتها :
- سنتان كاملتان منذ ان سافر الى الخليج .
ثم استطردت بفخر :
- ولكنه جمع مالا كثيرا .
ترد الجارة بلا مبالاة :
- الحمد لله !
تجلس فى زاوية الفناء تقرأ فى كتابها المدرسي .. تتراقص الحروف امام عينيها .. تفكر بأن المال الكثير الذى جمعه والدها , لابد أن يعود عليها بالكثير من الفوائد ..تحلم وهى ناظرة الى الحائط الطيني .. ثوب جديد .. ربما ثوبان ..حلوى .. قلم حبر (غير معقول طبعا ) ..تقفز الى مخيلتها منظر دمية جميلة شاهدتها فى احدى المجلات المصورة.. تنظر حولها خشية ان يكون احد قد اكتشف افكارها السخيفة .. تدس رأسها فى الكتاب .
تصرخ امها فيها , لكي تكف عن المذاكرة , وتقوم لإعداد الشاي لها ولضيفتها .. قبل ان تختفى فى المطبخ , يلاحقها صوت أمها بألا تنسى اعداد كوب من الشاي لشقيقها الأكبر الذى يستذكر دروسه فوق السطح .
( 4 )
فى المدرسة الإعدادية .. تقف مضطربة فى طابور الصباح .. فى الفصل لاترفع عينيها عن السبورة السوداء .. يدهشها ان تشعر بالخجل من زملائها الأولاد , رغم انها تعرفهم فردا فردا منذ الطفولة , ولكنها تقريبا لم تتبادل الحديث مع أي منهم طوال عمرها .
فى الفناء تجتمع ومجموعة من الزميلات فى احد الأركان .. يتظاهرن بأنهن لايتابعن مباراة الكرة الدائرة بحماس بالغ بين الأولاد ..بين الحين والحين يحمر وجه احداهن بلا سبب , وتدير ظهرها للمباراة .. يدق قلبها عندما يتعالى هتاف الأولاد بسبب الضربة الموفقة الى قام بها احد اللاعبين .
تعود الى المنزل شاعرة بالفرحة , وبنوع من الإنبهار المسبق , لأنها ستشاهد التليفزيون .. منذ اشترى والدها هذا الجهاز الساحر , وهى لا تنفك جالسة امامه رغم محاولات امها المتكررة لمنعها ..اما اذا كان ابوها فى الدار , فإن احدا لايجرؤ اساسا على ادارة الجهاز العجيب .. لا تعرف لماذا يشترى ابوها جهازا لا يحب البتة مشاهدته !
شاهدت فيلما عجيبا وغريبا .. والد يجلس طفلته على ركبتيه .. يداعبها .. يسألها عن الهدية التى تريدها .. وتمتلئ الشاشة بمنظر اخاذ لعروس جميلة وكبيرة , ترتدى فستانا احمر , تغلق عينيها وتفتحهما .. تحملق بدهشة .. هل هذا ممكن ؟!
تحلم فى المساء بالعروسة .. هل يمكن ان يشترى لها والدها واحدة ؟ ولكن اين تباع هذه الأشياء ياترى ؟ انها لم تشاهد شيئا كهذا قط فى اي دكان من دكاكين القرية ؟
تسأل امها سؤالا عابرا - تحشوه باللامبالاة – عن كيف يستطيعون صنع عروسة تفتح عينيها وتغمضهما .. تشيح امها بيدها فى ملل , وتأمرها ان تسرع بإعداد المائدة , فقد اقترب موعد عودة شقيقها من المدرسة الثانوية التى يذهب اليها كل يوم فى المدينة .. تعد الطعام وهى تشعر بالحسد لأخيها الذى يتمتع بركوب القطار مرتين كل يوم .
تتخيل نفسها جالسة فى القطار , وهو ينفث دخانه فى الهواء , ويصفر بمرح .. تتأمل من نافذة القطار الحقول والبيوت وقطعان الماشية المتناثرة هنا وهناك وهى تزركش الكون بألوان رائعة .. وفى احضانها تقبع بوداعة عروسة جميلة , ترتدى ثوبا احمر نظيفا وتغمض عينيها وتفتحهما بكل رقة .
( 5 )
عندما حصلت على الشهادة الإعدادية , قرر ابوها ان تبقى فى الدار .. كان هذا متوقعا .. لم يبد عليها أي شعور , وهى تسمع والدها يقول لأمها :
- هذا يكفى .. نعم , هذا يكفى !
لم يوجه احد اليها اية كلمة .. صعدت الى السطح بعد الغذاء ,,جلست فى ركن تتأمل سرب الحمام , يطير هنا ويقع هناك .. وفجأة راحت تبكى.
فى الصباح تعللت لأمها بأنها ذاهبة لحش بعض البرسيم للخروف ..هرعت الى المدرسة .. كانت متلهفة لمعرفة درجاتها فى الإمتحان , وكانت متلهفة لمعرفة ترتيبها بين الزملاء والزميلات .
شعرت بالفخر عندما اخبرها احد المدرسين , بأنها الثالثة على المدرسة .. سألها المدرس عما اذا كانت ستلتحق بالمدرسة الثانوية أم التجارية .. كان من رأيه ان المدرسة التجارية افضل , لأنها فى المدينة القريبة , بينما تقع المدرسة الثانوية فى مدينة ابعد .. لم ترد .. عادت الى المنزل لاهثة .
قالت لأمها وهى تلهث :
- اخبرتنى زميلتى بأن ترتيبى الثالث على المدرسة .. على كل المدرسة ..الأولاد والبنات .
اشاحت أمها بيدها بلا اهتمام .
( 6 )
تجلس فوق السطح .. منهمكة فى تنقية كمية لا تريد أن تنتهى من الأرز .. تتعالى اصوات الصبية وهم يلعبون فى الطريق .. يتواثب عصفوران على مقربة منها ..تتذكر قصيدة عن العصفور كانت مقررة عليها فى المدرسة .. تلاحظ انها بدأت تنساها .. تتنهد .. منذ تركت المدرسة لم يتح لها قراءة اية كلمة .. حتى الصحف لاتدخل الدار .
فى المساء ايضا كانت تصعد الى السطح ..تتأمل النجوم وتتنهد..كانت تشعر بالحزن يسيطر عليها بلا سبب واضح .
تسمع صوت ابن خالتها داخلا الدار لزيارة امها .. تبتسم .
تسمع صوت ابن عمها داخلا الدار لزيارة ابيها .. تتجهم .
بينما كانوا متحلقين حول النار يشوون قناديل الذرة .. قال ابوها موجها الحديث لأمها دون ان يلتفت اليها :
- تقدّم الي ابن خالتها وابن عمها طالبين يدها .
يخفق قلبها .. تتشاغل الأم بوضع قنديل على النار .. يقضم ابوها قنديله مستطردا ببساطة :
- طبعا ابن العم أولى .
يسود الصمت القاعة .. ولا يسمع إلا صوت القناديل وهى تشوى على النار .
( 7 )
تتزوج ..
تنفذ نصيحة أمها والتى ملخصها الإستسلام .
لا تفهم شيئا !
تمر الشهور .. تعتاد الأمور شيئا فشيئا .. تربى دجاجها الخاص ..وتطعم جاموستها الخاصة .. وتنجب إبنها الخاص .
الولد ينمو بسرعة .. لاتستطيع ملاحقته ..متمرد عنيد .. كلما نصحته برقة صرخ غاضبا :
- انا رجل !
تستسلم لفوضيته .. تقريبا لا تعرف عنه شيئا ..يلعب طيلة النهار فى الشارع .. ولا يأتى الا ليأكل ..ايوه يصطحبه كل ليلة ليقابل الزوار معه فى المضيفة .
( 8 )
تنقلب الدار رأسا على عقب .
هرج ومرج .. اناس كثيرون يدخلون ويخرجون .. ابوها قتل فى معركة .. تصرخ .. تلطم ..تنوح .. ابنها عند احدى الجارات .. امها تسترجع كل أوجاع الحياة ..عيناها تحرقانها من فرط البكاء ..بوليس .. زوجها يزمجر .. اجتماعات متوالية ..مناقشات حادة ..الثأر الثأر ..تنهمك فى اعداد أباريق الشاي لعشرات الرجال المجتمعين فى المضيفة ..تسمع عن معركة بين عائلتها وعائلة القاتل .. تضم إبنها إلى صدرها خائفة ..يدفعها بعيدا عنه ..زوجها يظل طيلة الليل ينظف بندقيته غير المرخصة .. يخرج قبل الفجر .. لايعود ثانية .
تذبل اعواد البرسيم ..
تتوقف المياه عن ممارسة الحب مع الحقول ..
قُتل ثلاثة من الخصوم ..
تشعر بالفخر ..
قتل ابن خالها ..
تموت جاموستها ..
تموت امها ..
ينهرها ابنها بغلظة طالبا سرعة إعداد الشاي للرجال فى المضيفة .. ابنها يصرخ مزمجرا .. صوته يتسلل الى داخل الدار كالعاصفة .. يقبضون على ابنها فى مركز الشرطة .. يفرجون عنه بعد ثلاثة أيام .
معركة هائلة ..
يهجم رجال الشرطة على الدار يفتشون عن اية اسلحة غير مرخصة .. يحصلون على مسدس صدئ .. ابنها يهرب .. لاتعرف إلى أين .
وحيدة على السطح تجمع أعواد الحطب ..
وحيدة امام الفرن تزج فيه بطاجن اسود به قطعتا لحم ..
وحيدة تزدرد اللحم ..
وحيدة تنام .
( 9 )
ترقد على فراش المرض ..
تتحلق حولها عمتها وخالتها وقريبات كثيرات وجارات ..
يرفضن أن يحضرن طبيبا .. كل الأطباء لصوص ..
يعددن لها مشروبا ساخنا من بعض الأعشاب نصحت به إحدى العجائز ..
تشرب بصعوبة ..
تتمدد بصعوبة ..
تسعل بشدة ..
تموت !
__________________
د . أحمد سعد الدين أبورحاب
عضو اتحاد الكتّاب - مصر
رابط التعزية
http://www.omferas.com/vb/showthread.php?t=4880