حكومة معظمة!
قبل عدة عقود، لم تكن اختصاصات اليوم في دوائر الدولة، وبالذات تلك التي تعني بالأمن موجودة، ولم تكن أبنية الدوائر الحكومية اليوم بفخامتها و بأعدادها موجودة، كانت الحكومات العربية تستصلح بعض الأبنية التي ورثتها عن العهود الاستعمارية، أو العثمانية، وتبقي عليها بمواقعها وحتى بأسمائها. فالسراي وقيادة المنطقة والمقاطعة والبرج الخ هي مسميات أبقت عليها الحكومات العربية في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي.
كان زوار تلك الدوائر من الأشخاص الذين لا يُكِن لهم الأهالي احتراما حقيقياً، لكنهم كانوا يضطرون للتعامل معهم بحكم الحاجة. كان لهؤلاء مواصفات تبدو وكأنها ماركة مسجلة، كانوا يبالغون في اختيار الملابس البيضاء، ووضع سن ذهب في أفواههم، وكانت أصواتهم ومفرداتهم تختلف عن تلك التي عند بقية الأفراد، كانوا يبادرون لدعوة رأس تلك الهيئات لوليمة مبكرة، ولم يتسرعوا في استثمار تلك الوليمة، بل كانوا يدعون هؤلاء المسئولين لسهرات لعب الورق وغيره، وعندها تكون لهم مكانة الوجهاء عند هؤلاء المسئولين.
كان أبو سرحان يصر على تسمية هؤلاء ب (الهَمَل) والهامل هو: من يضيع ما يكسبه من مال على أوجه لا يقرها المجتمع، وهو الذي لا يقر بأعراف وعادات أهله، وهو الذي يفشي أسرار عائلته وأهله، ليقدم نكتة لآخرين، وهو الذي يسهر لوجه الصبح وينهض من النوم متأخراً، وهو الذي يمضغ البان (العلكة) وهو يمشي في الشارع.
لم يكتفِ أبو سرحان بوصف هؤلاء بالهمل، بل كان يذهب أكثر من ذلك بقوله: حكومة هاملة وتحب الهمل.
جاء (الدَرَك) ذات يوم واقتادوا أبو سرحان وأولاده الأربعة الى البرج، وكان الدركي يركب حصانه، في حين كان على أبي سرحان وأولاده الأربعة أن يسيروا على أقدامهم لمدة نصف ساعة.
لم يعرف أبو سرحان التهمة التي تم اقتيادهم من أجلها، ولم يوجه أحد من المسئولين لهم السؤال، لأنهم وضعوا في الحجز من الضُحى الى ما بعد العِشاء. فقد أبو سرحان صبره، فسأل أحد أبنائه:
ـ هل تحمل في جيبك (المِجْوِزْ)؟
والمجوز أداة موسيقية مكونة من قصبتين رفيعتين تلتصقان بجانب بعضهما البعض فكرتهما قريبة من الناي أو (الشبابة)، وكان أولاد (أبي سرحان) معروفين بالبلدة بمساهماتهم المجانية في إحياء حفلات الأعراس.
ـ نعم يا والدي، هذا هو..
اصطف الأولاد مع أبيهم بحلقة، وأخذ العازف على المجوز يطلق ألحانه الراقصة، في حين يردد البقية أغاني الدبكات المعروفة..
هُرع أفراد الدرك مع قائدهم، ودون أن يتكلموا، اصطفوا بالدبكة، حتى نهايتها، ثم سأل قائد الدرك:
ـ هل أكل الشباب شيئا؟
أجابوا: لا والله يا بيك
لحظات وحضر لهم بعض الأفراد من طعام الدرك.. وبعدها عندما تأكد قائد الدرك من براءتهم من الوشاية، أُطلق سراحهم على الفور.
في طريقهم الى البيت، قهقه أبو سرحان وقال لأولاده: ألم أقل لكم أنها حكومة هاملة و تحب الهمل؟
بالغ أبو سرحان في تكرار تلك القصة حتى تم اقتياده لدائرة أمن أبعد مسافة، وهناك عندما خرج غير أقواله لمن زاره من الأقارب والجيران: إنها حكومة معظمة!