ربطة العنق والدكتوراه.. وأنا
د. يوسف حطيني
يتبادر إلى ذهن القارئ الكريم حالما يقرأ هذا العنوان أنّ الأجمل والأفضل والأكثر استساغة أن يكون على الشكل التالي: "أنا وربطة العنق والدكتوراه. غير أن تقديم الربطة على الضمير أنا الذي يمثلني شخصياً له مسوّغه؛ إذ إنني شعرت على مدى أعوامي التي جاوزت الخمسين أنهما أهمّ مني، وثبت لي أنّ حضورهما البهي يجعل مني شخصاً مثقفاً يحسب له حساب في أي محفل أو حفل أو احتفال.
سأعترف منذ البداية أنني أكره ربطة العنق منذ دخلت المدرسة الابتدائية عام 1969؛ فقد كان مديرنا الأستاذ خالد عمايري هو الرجل الوحيد الذي يلبسها في المدرسة، وقد ارتبطت ذكراها بالفلقة التي كانت تنهال على أرجل الطلاب، والهلع الذي يصيبهم حين يرونها تتقدم صدر المدير الغاضب لسبب لا يعرفه أحد.
وإذ كبرتُ كبُر معي الحقد عليها، لأنها خدعتني أكثر من مرة، وإن أنس فإنني لا أنسى (الأستاذ أحمد) ذلك الرجل الأسمر الأنيق الذي كان يلبسها وينطلق إلى عمله، وكان يفرض احترامه (أقصد احترامها) على كل أهل الحي الذين لا ينسون أن يضعوا كلمة أستاذ قبل اسمه في كل حوار يجري بينهم وبينه.. وإذ تمرّ الأيام تنفجر عاصفة خبر عاجل مفاده أن الأستاذ أحمد هو عامل لجمع القمامة في حي بعيد عن حيّنا، وكان من الممكن له أن يحظى باحترامي وتقديري مثل عامل القمامة (أبو رفاعي) الذي يعمل في حينا، لو لم يلجأ إلى هذه الخديعة.
عندما ألبسها قبل أن أذهب إلى عملي أشعر أنها تلتف حول عنقي مثل مشنقة، أتذكر عندما أضعها حول عنقي ذكريات مريرة، أتذكر أولئك الأبطال الذين شنقهم جمال باشا السفاح في دمشق وبيروت عام 1916، وأتذكر البطل الشهيد عمر المختار الذي تحدى غرازياني وإيطاليا، أتذكّر أبطال فلسطين: محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير، وغيرهم من الذين قضوا رافعي الرأس على أيدي جلاديهم.
ولكن لماذا تذكرتُ ربطة العنق الآن، وما الذي جعلني أكتب عنها؟
حفل ثقافي بهيج دعيت إليه، فلبيت الدعوة شاكراً، وانطلقت بسيارتي إلى الفندق في الساعة المحددة، ولأنني أكرهها فقد وضعتها مع الجاكيت على المقعد، على أن ألبسهما عندما أصل إلى المكان (طبعاً سيستنتج أي قارئ للجملة السابقة أنني سأنسى لبسهما، وهذا ما حدث فعلاً؛ إذ لوح لي أحد أصدقائي الطيبين بينما كنت أضع السيارة في مرآب الفندق، فأسرعت نحوه شماً وضمّاً وتقبيلاً بعد غيبته الطويلة عني، وانطلقنا معاً إلى قاعة الاحتفال).
صديقي كان (على سنجة عشرة) وأنا كان يمكن أن أكون كذلك لولا آفة النسيان والعجلة، ولم يشفع لي قميصي المخطط بالكحلي والأبيض، ولا بنطالي المكوي، ولا حذائي اللامع، ولم تقلّل من فداحة الخطأ الذي ارتكبته، إذ إنني كنت الذكَر الوحيد الذي يجلس دون ربطة عنق بين عدد من أوجه الثقافة، وكثير من المدعوين والمدعين الذين ضاقت بهم أرجاء القاعة الكبيرة بما رحبت.
جلست، بسبب الازدحام، مع صديقي إلى طاولة في آخر القاعة، لا نعرف أحداً من الذين يجلسون عليها، اللهم إلا امرأة سلّم عليها صديقي بحرارة، واستأذنها أن نجلس، فقالت له: تفضّل، ثم شرحت له أنها مثلنا لا تعرف جلساءها.
بعد أن استمعنا من القائمين على الحفل كلمات الترحيب الطيبة، وبعد أن بحثنا عن الذين دعونا للاحتفال في الزحام لنعانقهم ونهنئهم جاء وقت الطعام، ودار علينا النادل (الذي كان يضع ربطة حول عنقه) بأصناف المقبلات، وقد لاحظت أنه كان يتجاهلني، أو أنه يهتم بنزلاء الطاولة الأنيقين أكثر مني، وقد قرّب لي صديقي أكثر من مرة بعض الصحون التي أمامه، وأخذ لي وله كأسين من شراب البرتقال، بينما راحت صديقته تستأثر بما جاد لها به النادل من الكبب والمشاوي والسلطات، إلى أن دار بينهما بعد ذلك حوار عن الثقافة والأدب، تدخّل فيه كل من على الطاولة من رجال ونساء، واستأنس بعضهم بآراء بعض، ودعوا غير المتحمّس إلى الانخراط في الحوار. وإذ وصل الحوار إلى الأدب الفلسطيني استدرك صديقي الأمر، وقدّمني إلى صديقته باسمي ولقبي (وهنا نابت الدكتوراه عن ربطة العنق في رأب الصدع)، وراحت الصديقة (وهي دكتورة أيضاً) تحدثني عن مشاريعها، وتطلب الاستشارة في بعض الأمور المتعلقة بهذا الأدب، وقالت إنها تخربش بعض القصص وأعطتني بتواضع جم بريدها الإلكتروني، وأكدت بعد أن انتهت الحفلة، أنها فرصة سعيدة وطيبة، مثلما أكّد جميع الجالسين على الطاولة.
صحيح أنّ الحديث الذي جرى أعاد لي بعض كرامتي المهدورة بفعل غياب ربطة العنق، ولكنه جاء بعد فوات الأوان؛ إذ لم يعترف أحد من هؤلاء بإنسانيتي قبل أن تشفع لي الدكتوراه، ثم أنّ الأهم أن النادل الأنيق لم يتعرف إليّ، ولم يتعرف علي، كما أخبرتكم، بطعام أو شراب، ولو أن صديقي عرفه إلي بلقبي العلمي، لجاء طائعاً، وعندها كنت سأضطر أن أضع شهادة الدكتوراه، بدلاً من ربطة العنق، في صحن الكباب الهندي لأجعلها تأكل نيابة عني.