اللغة والهوية والعولمة .. جدل المفاهيم


د. بوبكر جيلالي
bobaker jilaliبعدما وقفنا بالضبط والتحديد اللغوي والاصطلاحي للمفاهيم الثلاثة الرئيسية: اللغة والهوية والعولمة، وعلى المفاهيم المنبثقة عنها إضافة واقترانا وهي الهوية اللغوية والهوية الثقافية والعولمة اللغوية والعولمة الثقافية، وبعد الوقوف على الجدل القائم بين هذه المفاهيم في صورة معركة فكرية وفلسفية يستهدف كل طرف فيها إثبات الذات وفرض الوجود، من خلال علاقات شتى حصرتها في أربع رئيسية تقتضيها طبيعة الجدل في معركة المفاهيم وهي:الاختلاف والترابط والتعارض والتداخل.
1- الاختلاف: تختلف المفاهيم عن بعضها البعض كما يلي:
-اللغة: في اللغة تعني التحدث والتكلم والتلفظ أما في الاصطلاح فهي نسق ونظام من الرموز والإشارات تُستعمل للتواصل، ويقترن هذا النظام بالفكر والوجدان والاجتماع والحضارة في الإنسان. اللغة خاصية إنسانية.
- الهوية: في اللغة تعني حقيقة وماهية وجوهر الموضوع وفي الاصطلاح تعني الثابت والدائم في الموضوع من خصائص ومكونات وعناصر، والمميّز له عن غيره، الموجود به الموضوع والمنعدم من دونه.
- العولمة: الكلمة في اللغة تعني جعل الشيء عالميا ومنه جاء تعريفها الاصطلاحي: تعميم نموذج حضاري واحد على جميع شعوب العالم، وتنميط العالم بنمط واحد فكري وثقافي واقتصادي وسياسي واجتماعي، النمطية لها سلبياتها وإيجابياتها.
- الهوية اللغوية: الثابت والدائم في لغة ما، يميّزها عن غيرها، به توجد اللغة وبدونه تغيب، ويتمسك به أصحابها ويعتزون ويفخرون. اللغة العربية لها ما يميّزها عن غيرها من اللغات الأخرى، مثل الحروف والألفاظ والاشتقاقات وعلومها... الخ.
- الهوية الثقافية: الثابت والدائم في ثقافة ما تملكها جماعة بشرية ما به تتمسك وتتميّز عن غيرها. مثال الهوية الثقافية الإسلامية، الفكر الإسلامي تاريخه وجذوره، سلوك المسلم ونمط حياته، البيئة الإسلامية وما يميزها عن غيرها فكريا وسلوكيا وروافد هذا الفكر وهذا السلوك.
- العولمة اللغوية: هي أن يكون للعالم أجمع لغة واحدة للتواصل والتخاطب وللتعامل في جميع مجالات الحياة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وتربويا وإداريا وإعلاميا. ولغة العولمة في عصرنا هي اللغة الإنجليزية لغة بلدان المركز وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.
- العولمة الثقافية: هي أن يكون للعالم أجمع ثقافة واحدة هي ثقافة المركز والثقافات التي تتوافق معها في سائر أنحاء العالم. وثقافة المركز هي الثقافة السائدة في الولايات المتحدة الأمريكية وفي الغرب الأوروبي، وأهم ما تتميّز به هذه الثقافة المادية والبراغماتية والعلمانية والاستهلاكية والعلمية والتكنولوجية وغيرها.
2- الترابط: تترابط المفاهيم المذكورة فيما بينها في عدة نقاط أهمها:
- اللغة تعبر عن نفسها وعن الهوية بشقيها اللغوية والثقافية.
- اللغة تعبّر عن العولمة بشقيها اللغوية والثقافية وهو الدور المنوط باللغة الإنجليزية في العولمة المعاصرة.
- اللغة تنتج الهوية جزئيا أو كليا.
- الهوية قد تكون لغوية وقد تكون ثقافية وقد تكون هما معا.
- العولمة لها هويتها ولها لغتها.
- هوية العولمة تتحدد بما هو لغوي وبما هو ثقافي.
- لا تقوم العولمة من غير هوية ومن غير لغة.
- لا تقوم اللغة من غير هوية.
- لا تقوم الهوية من غير لغة.
3- التعارض: تتعارض المفاهيم المذكورة في عدة نقاط أهمها ما يلي:
- الهوية واللغة تعترضان على العولمة لكون العولمة لغوية كانت أو ثقافية تقصي اللغة والهوية، وتعطل التعدد والاختلاف في الهويات والألسن وبذلك فهي تعطل سنن الكون.
- تعترض العولمة على اللغة والهوية لكونهما يفرضان الخصوصية التي تمنع انصهارهما وانتشار العولمة.
- الهوية لغوية كانت أو ثقافية قد تنتهي إلى الانغلاق والتقوقع أمام انفتاح العولمة، ولا تسمح لأصحابها بالمشاركة في تحريك التاريخ وتحقيق البناء الحضاري.
- الثنائية أو الثلاثية اللغوية كثيرا ما تضر بتماسك المجتمع وتضر بهويته التاريخية والثقافية، فينتهي الأمر إلى الذوبان.
4- التداخل: تتداخل المفاهيم المذكورة مع بعضها البعض في عدة نقاط أهمها:
- الهوية تلازم اللغة والعولمة بصورة دائمة، للغة هوية وللعولمة هوية ولا قيام لإحداهما من غير هوية.
- اللغة تدل وتعبر عن الهوية والعولمة، كما تعبر عن نفسها، ولا تقوم أية هوية وأية عولمة من دون لغة، طبعا لغة واحدة أو أكثر
- العولمة حقيقة ثابتة وتحدّ قائم في الواقع تتعاطى معه اللغة والهوية مدا وجزرا إيجابا وسلبا.

خلاصة:
جدل المفاهيم أو معركة المفاهيم الثلاثة وما انبثق عنها من مفاهيم أخرى لها دورها في النسيج المفاهيمي والثقافي في ظل العولمة، تتحدد طبيعته ويتحدد دوره وتأثيره السلبي أو الإيجابي بحسب تدخل الإنسان بجميع أبعاده من غير استثناء، فالأمر يتوقف بالدرجة الأولى على تفكير الإنسان وإرادته واختياراته وأخلاقه في إنتاج مواقفه من اللغة والعولمة والهوية.