برائحتها التي تحمل عبق الأرض عتبات البيوت، وأقفال المحلات مسدلة مغاليقها على صمت ما زال يبعث دوائره الهلامية بعد جولة القصف الأخيرة.
ـ سأترك لك مفاتيح الدكان، ستجد فيها أشياء تُؤكل.. مجففات ومعلّبات وبعض خبز.
يستدرك أبو الخير صاحب دكان البقالة في الحيّ وهو يبتسم بسخرية:
ـ هذا لو طال غيابنا عنكم.!
هزّ "الجبيلي" رأسه باستخفاف، وألقى ابتسامة وداع، شحنها بأكبر قدر من الحب على بعض أهله.. زينب، وزوجته العجوز، وزوجة ابنه "عابد"، وحفيديه، المحشورين جميعاً في سيارة نقل بين ناس كثر، نساءٍ وأطفال في رحلة هروب من جحيم الموت الصاعق، يعلم الله إلى أين، وإلى متى.
... أعلنت المدينة صمتها الموحش بعد أن غادرتها قوافل الناس الباحثين عن النجاة، أولئك البسطاء الذين ما أتقنوا بعد فن الرياء للبقاء على قيد الحياة، وقد تمنّعت عنهم السبل.. فالحصار خانق، والقتل متواصل، والتدمير بدأ يكتسح أرتال البيوت، والقتلى لا يجدون من يواري جثثهم..
"أبو ساجد "الجبيلي"" واحد من الكهول الذين رفضوا مع كثرة من أسر مدينة "بنت جبيل" فكرة الرحيل، وأصروّا على البقاء في مدينتهم، وعلى أنقاض بيوتهم ودورهم.
الفقراء في كل مكان على مساحة هذا الكون هم وقود الوقت، هم أصحاب الأمكنة والأرض والبقاء والبذل.
قال "الجبيلي" وهو يشد الحطّة البيضاء على جبهته.
ـ سأبقى قريباً من رياح "عابد"..
"عابد".. تحتل صورته اليافعة ذاكرة "الجبيلي"، هو من هيأه لمثل هذا اليوم، هو من أخذه من يده قبل ست سنوات إلى قيادة المقاومة، وسجل اسمه واحداً من المتطوعين، يومها لم يكن عابد قد بلغ السابعة عشرة من عمره بعد، وهو من نكّبه بالأمس سلاحه ساعة دعاه النفير، ودقت طبول الحرب، وربط على رأسه عصابة العزّ الموشّحة بأصفر النصر، وودّعه بوصيّة تقليدية، أرادها أن تحمل ذات الصدى التقليدي القديم:
ـ كنْ مقبلاً يا بنيّ ولا تكن مدبراً، ولو اختارك الله إلى جواره، فكن شجاعاً وأهلاً للشهادة، وسأكحّل عيني برؤية ما يزيّن صدرك ويرفع رأسي، ويكتبك في الآخرين شهيداً..
وقف على عتبة الدار يلوّح له بيديه، حتى غاب وراء الأفق.
لم تبتعد السيارة بركابها المتزاحمين الباحثين مع متاعهم القليل عن النجاة كثيراً، عندما صبّت طائرة صاروخاً ضخماً أصاب البناء، وانفجر في بهو الطابق الأول، ليتهاوى البناء كله، وتسقط سقوفه فوق دكان البقالة لصاحبها "أبو الخير"، تقلبها قاعاً صفصفاً.
ابتسم "الجبيلي" بسخرية وهو يتابع دمار الدكان التي تبرّع صاحبها بأريحية بما فيها من مؤونة للباقين من أهل المدينة، وفي اللحظة نفسها كانت "غادة" تتابع من بعيد ما يجري أيضاً.
واقفة شامخة كما شاهدها في ذلك اليوم، نظر إليها من طرف خفي، وجاهد كما كان يفعل في كل مرة يلمح طيفها، كي لا تلتقي نظراتهما، ولا ينظر في عينيها مباشرة.
ع.ك
من رواية الجثّة ودائرة الرمل.