لماذا يموت الصحفيون شباباً؟!


دمشق
صحيفة تشرين
ثقافة وفنون
الاحد 30 كانون الأول 2007
طالب أبو عابد
إلى روح الزميل الصحفي فؤاد عيسى ..

أحزنني إلى حد الوجع رحيل الزميل الصحفي الشاب فؤاد عيسى وهو في زهوة الشباب وذروة العطاء ولم أستطع أن أحبس دمعة اندفعت إلى حنايا القلب لتحزه كسكين. ‏

كان فؤاد قريبا إلى قلبي منذ أن قدم إلى مديرية أخبار الاذاعة شابا مندفعا بالطموح يتفجر حيوية ورغبة في الحياة وإرادة في أن يصبح صحفيا ناجحا ومحرر أخبار بارعا حدث ذلك قبل ربع قرن حين جاء يحمل عبق قريته «كفرجوايا» ونسمات جبل النبي صالح وهو يستحم كل صباح بأنداء قمته ويتلقى الشمس منذ الشعاعة الأولى وحتى المغيب.. لذا أقبل فؤاد ملوحا بشمس الجبل معجونا بنسماته ينظر بعيني «ثعلب» ذكي يريد أن يتعلم ويرغب أن يحقق حلماً وأملا.. فأحببت اندفاعه ودأبه وتواضعه رغم سن الشباب وأصبح قريبا إلى قلبي كما عشرات من نظرائه بدؤوا يتوافدون إلى الاذاعة والتلفزيون من معهد الاعداد الإعلامي ثم من قسم الصحافة في الجامعة. ‏

وبعد أن نهل من صرامة التعلم والتدريب المهني انطلق بالأخبار ومعها ليحرز له مكانا في هذه المهنة، وفي عالمها شديد المعاناة والتعقيد وقوي الضغوط يحرق أعصابه حينا ويبتهج مرتاحا حيناً آخر.. هكذا وقع في فخ المهنة القاتلة! تلك التي تعزينا وتقتلنا في آن فلا تترك بعضنا إلا وقد أتلفت أعصابه وأرهقت قلبه ونالت من دماغه!.. ‏

إنها مهنة المتاعب توقعنا في شباكها حباً وعشقاً ثم تنقل إلينا مرض ارتفاع الضغط وسموم «الكولسترول» القاتلة ـ حتى لو كنا نباتيين! ثم نخطف بعضنا كما فعلت مع فؤاد ـ وهم في سن الشباب وذروة العطاء فنتحسس أنفسنا لنكتشف أن وراء المطهر البراق لمهنتنا.. موت يدق الباب قد يأتي مبكراً فيفجع وقد يحل متأخراً فيحزن. ‏

سكتة دماغية؟ سألت وأنا ملتاع بالحسرة لم يكن فؤاد عيسى بديناً ولا شرهاً لطعام كان نحيلا ومرتاحاً حيوي الحركة سريع الخطوات.. فمن أين جاءه تصلب الشرايين وجلطة الدماغ؟.. إني اتهم المهنة التي أحب فهي تغرقنا.. ثم تقتلنا بصمت لأقول: ‏

قتلت الأخبار زميلي وصديقي الشاب؟ وإذا كان لا يعرف العشق إلا من كابده فلا أحد يعرف ماذا تفعل الصحافة بعشاقها إلا الصحفيون أنفسهم فاسألوا عن أمراضهم لتعرفوا! إنها عملية استنزاف متراكمة أو قتل مفاجئ.. ولولا أنني أعشق مهنتي لقلت إنها كأنثى العقرب تلدغ قرينها، بعد أن يقترن بها... فيرحل شابا أو شيخا وإلى سكرات الموت وهو يذوب عشقاً! ‏

قبل شهر أو يزيد! ذهب صحفي من أخبار الإذاعة إلى المشفى لإجراء فحص عادي، فإذا بهم يحتجزونه ويدخلونه اسعافا إلى غرفة العمليات ليجري له الأطباء عملية قلب مفتوح، ولينتزعوا شرايينه التالفة، ويستبدلوها بأخرى. وقبله جرى مثل هذا الطارئ لعديد زملائه في الإذاعة والتلفزيون وتشرين والثورة والبعث! ‏

وهكذا هي مهنة الصحافة.. هكذا تفعل بنا! ‏

تنسل فينا، وننسل فيها كما فيروس العشق، ثم تقتلنا بصمت! ‏

قبل ثلاث سنوات، زرت الاذاعة والتلفزيون، وصادفت فؤاد عيسى في ممشى الطابق الخامس، فأمسك بيدي الاثنتين، وأصر علي أن أزوره في عرين أخباره، في شعبة أخبار «صوت الشعب» التي كان يترأسها، وهناك أجلسني على كرسي «عرشه».. وراح يعرض علي أسلوبهم في تحرير الأخبار، وكتابة التقارير، وألح أن يسمع مني رأياً في كل مايطرحه، وعلى مسمع من زملائه، وكان مصراً أن أناقشه في أدق التفاصيل، وقد فعلت بحماسة، لأستجيب لطموح لايزال يتدفق كشلال عطاء، ولايزال مسكوناً بهاجس التغيير والتطوير. ‏

رحل الصحفي فؤاد عيسى شاباً.. فأحزن فلبي لأن العادة أن يشيع الشباب شيوخهم، لا أن يرثي الشيوخ شبابهم وتلامذتهم.. وحين يحدث ذلك لابد أن يوجد خطأ ما.. وهنا سخرية القدر.. هنا تصفعنا الفجيعة بقسوة لاترحم!. ‏

قد يشيخ الصحفي، ويموت شاباً! لكن عندما يموت الصحفي وهو شاب، فإن المهنة تغدر به وبنا!. وأنا أعرف مثلكم أشكالاً كثيرة: ‏

لموت الصحفي، فهو يموت في الحرب ويموت اغتيالاً ويموت استنزافاً أو قهراً أو معاناة! وثمة صحفيون يموتون إذا تقاعدوا وظيفياً! وإذا اقتنعوا أن التقاعد الوظيفي يحيلهم إلى تقاعد مهني، فيستقيلون من المهنة كرهاً، وينتظرون الموت كي يدق أبوابهم! . فلاتقتلوا الصحفيين ببدعة «التقاعد»!. ولا ترغموا المخضرمين على كسر أقلامهم، والإنكفاء خارج الحياة! ‏

قد لا يعرف كثيرون زميلنا الصحفي فؤادعيسى، فقد كان جندياً مجهولاً، كمعظم محرري الأخبار، لكني كنت أرى ظله أمام ووراء المذيع، لأنه ـ وكما سواه ـ كان الخبر والفعل، دون أن يظهر في الصورة... وهذا شأن الجنود المجهولين دائماً! ‏

رحم الله الصحفي الراحل فؤاد.. التقيته آخر مرة قبل أشهر عند مدخل الإذاعة والتلفزيون، وظل يدعوني بلطف وإلحاح كي أكتب لبرامجه، وسألني متى أفعل، فقلت قريباً.. وها أنذا ـ ويا للمفارقة ـ أكتب عنه، بدل أن أكتب له! ‏



جريدة تشرين




E - mail: tnp@mail.sy