لكلّ أمّة قضية قدسية هم ناسكوها ، ولكلّ قضية قدسيّة أحرارُها ممّن تعاقدوا أن لا يَغفُلوا عنها أو يُغفِلوها ، وتعاهدوا على أن لا يفرّطوا في شيء منها أو يضيّعوها ! بل يظلون ينسجون مواقفهم على منوال نصرتها ومؤازرتها ، ورفعة شأنها وعلوّ منارتها !الزحفُ النفسي نحو القدس !
وتراهم مضوا يتوارثون هذا الحمل الثقيل الجليل ، يتواصى به قبيل إثر قبيل ، ويتقاسم على نصرته رعيل يتلوه رعيل ! فغدت سنة جهاديّة ماضية ، كلّما غبَر جيل تلقّف الراية من بعده جيل !فبات ذا ميراثاً تتوارثه العقول ، وتلتف حوله العواطف والمشاعر ، فما تزيدها الأيام إلا توهّجاً بلا خمود ولا خمول ، حتى إذا تنبّه عدوّهم لذلك أخذته العزّة بالإثم فراح يتمطّى أشراً ، فشرع يراهن على مرور الأيام وتقادمها أن لا تبقي لهذا الميراث في نفوس الأحرار أثراً ! وذلك عبر رزمة من إجراءات ظالمة مجحفة تحرم أهل الحق من التردّد على موطن حقهم ، لتكحل عيونَهم رؤيتُه ، وتعمر ذاكرتهم صورتُه ، وتختزن حبَّه وإلفَه مشاعرُهم !
فكان أن دارت عجلة الزمان ، وتقالب الحدَثان ، فجوزي العدى بنقيض المقصود ، وإذا بحشود تزاحمها حشود ، غدت سنوات الحرمان لها كالوقود ، تبث فيها تجاه الميراث الدينيّ الشوق والهمّة ، وتبعث فيها العزيمة ، وتنفي عنها الرّكود ...فهذا مَثلُ أهل فلسطين في أتون صراعهم مع عدوّهم ، عدوّ استحوذ بغير وجه حقّ على مسرى نبيّهم ، لم يألُ جهداً في تغيير ديموغرافيته الإسلاميّة التي صبغته ، وديموغرافية الأرض المباركة التي احتضنته ، ولم يكتف بذلك بل استنفر لتغيير خرائطه الذهنية من عقول الفلسطينيين ، وخرائطه الشعورية من وجدانهم ، فعزلهم عن قدسهم وأقصاهم ، وراهن على زمان يأتي قد طال عليهم فيه الأمد ، فلم يعد للقدس ومسجدها في عقول الناشئة الجدد من رُكن في عقولهم ووجدانهم ولا وتد ! وفي تاريخ الصراعات اعتاد الناس أن ينفروا بالعُدَد والعتاد ، وتظل أعينهم تصبو لحسم ماديّ لجولات الصراع ، إلى أن أتى على الناس حين من الدهر غدا فيه الحسم النفسيّ يقارب في أهمّيته الحسم الماديّ ويُدانيه ، بل ويُعدّ مقدّمة من مقدّمات الحسم الماديّ وبَواديه ، ذلك أن تحرير الفكر والشعور هو السبيل النيّر والممرّ الآمن الخيّر لتحرير الأرض واستعادة الحق السليب ...فزحفت إلى القدس ومسجدها الجموعُ الغفيرة بمئات الألوف، لا يفت في عضدها إجراءات مملّة ترمي إلى استنفاد الصبر، أو تعويقات ممنهجة تهدف إلى استنزاف الطاقة والوُسْع ، بل اصطدمت تلك الاجراءات بركام العواطف المتوهّجة شوقا للقدس ، المتأججة توقاً للصلاة بالمسجد الأقصى ، فتلكم الحشود قد صبّحت العدوّ بُكْرَة بشوق للقدس في الفؤاد مستقر ، وحنينٍ للأقصى في جنبات النفس مستعرّ ، يرنو للوصول المبكّر إلى رحاب المسجد الأقصى المبارك ، حشود عازمة على مراغمة العدى ، فكانت رسالة جليّة على ما انطوت عليه نفوسهم من عقيدة التضحية والفدى ، للقدس ومسجدها وبطاحها ! لم تلتفت هذه الحشود إلى العناء الجسديّ ، لأن زحفها إلى القدس ومسجدها كان زحفاً روحيّاً نفسيّاً ، مشبعاً بالإرادة ، يروم إحراز نصر نفسيّ مؤزر في خضمّ صراع الفكر والإرادات الناشب في ربوع هذه الأرض المباركة بصورة جليّة حيناً ، وبصورٍ خفيّة أحايين أخر ، ليغدو هذا الزحف النفسيّ أمارة بادية ممهّدة لحسم ماديّ آت لا ريب فيه !
ولسان حال الجموع الغفيرة الزاحفة يقول : لأن عجزنا اليوم عن زحف ماديّ يعيد لنا الحقّ وله يصون ، فلا أقلّ من زحف نفسيّ نحول به بين القوم وبين ما يشتهون !
ولمّا كانت قضايا المسلمين وهمومهم واحدة ، فقد شدّني وأنا أجوب ساحات المسجد الأقصى المبارك أن مدار الحديث في الدروس والعظات كلّها بلا استثناء هو الشام ، وأهل الشام ، وما يجري في الشام ، وبالتالي الدعاء لأهل الشام بأن يفرّج الله كربهم ، ويحقن دماءهم ، ويُنعم بالأمن والأمان عليهم !!! كيف لا والشام عبر التاريخ كوّة مضيئة يشع من خلالها على القدس والأقصى نور التحرير ، ويدرأ عنهما الضرّ والتغرير !!
وفي حارات القدس وأزقتها ترى المقدسيين مبتهجين متهللّين برؤية إخوانهم ، الذين توافدوا من كلّ حدب وصوب من أصقاع الأرض المباركة ، فاستنفر المقدسيّون للتعبير عن فرحتهم وبهجتهم بإخوانهم ، بالابتسامات العريضة المرتسمة على الشفاه تارة ، وبالمتطوّعين لتنظيم حركة السير تارة أخرى ، وبالمياه التي طفقوا يرشّونها على جموع المصلّين من على أسطح عماراتهم وشرفاتها ،عبر خراطيم المياه وذلك لكسر حدّة الحرّ عن إخوانهم المصلّين ، وللتنفيس من حدّة الشعور المتأجج في قلوبهم شوقاً لرؤية جموع إخوانهم وهم يعمرون القدس ومسجدها وحاراتها وأزقتها ...ولو رأيت ثمّ رأيت دموعاً وشموعاً وجموعاً مؤمنة زاحفة مستبشرة توقد ليوم النصر قنديلا !!!