المشهد السوري القادم الذي لا مفر منه سواء بالحرب أو بالسياسة (!!) بقلم أسامة عكنان
| 2013/08/26




الحرب في سوريا ستتوقف، وستتقاتل الميليشيات المسلحة لمدة طويلة قادمة (!!)
النظام والمعارضة سيتحاوران حول مستقبل سوريا، والأسد سيختفي من المشهد (!!)
سوريا جاهزة لأن تصبح أربع دول إلا بمعجزة تحول دون ذلك، لأنها هكذا على أرض الواقع (!!)
إيران ستتقارب مع الغرب بتنازلات مرضية للطرفين، بعد أن احترقت سوريا لأجل أن تحقِّقَ لها ذلك (!!)
أما "حزب الله" فهو ورقة "جوكر"، انتهى دورها ولم يعد لأحد بها حاجة (!!)





مقدمة لابد منها..


أكثر من مائة ألف مواطن سوري قضوا نحبهم على مدى السنتين ونصف السنة الماضية بكلِّ أنواع الأسلحة – التي ليس من بينها أسلحة دمارٍ شاملٍ بالمعنى المتعارف عليه لأسلحة الدمار الشامل – ومع ذلك لم يُغَيِّر العالم قيدَ أُنْمُلَة في محاوره وخنادقه واتجاهات الاستقطاب لديه إزاء المأساة السورية التي تجاوزت كلَّ معاني اعتبارها مجردَ أزمة. ولكن الألف والخمس مائةٍ الذين قضوا نحبهم بما قيل أنها غازات سامة – تندرج تحت عنوات الأسلحة الكيماوية – في الغوطة الشرقية من ريف دمشق قبل أيام، كان لهم تأثيرُ السحرِ في تغيير كلِّ شيء، إلى الحد الذي رأينا فيه البوارج وحاملات الطائرات الأميركية تتحرك بشكلٍ مُسْتَنْفَر قبالة السواحل السورية، والنظام السوري يعلن موافقته على السماح لفريق الأمم المتحدة بإجراء تحقيق في الأمر بدخوله إلى منطقة الحدث، والقادة العسكريون لعشر دول يجتمعون في عمان لتنسيق مواقفهم تجاه ما يحدث في سوريا، والروس يُخَفِّفون من لهجتهم التي كانت حادَّةً إلى ما قبل ضحايا السُّم الكيماوي إزاء أيِّ موقف يتحدث عن خيار عسكري، لتتحول لغتهم من لغةِ "عدمِ السماح بأيِّ عمل عسكري ضد سوريا"، إلى لغة "خطورة وكارثية نتائج أيِّ خيار عسكري على الاستقرار في الشرق الأوسط" و"إن روسيا لن تدخل الحرب إلى جانب أيِّ طرف في سوريا" (!!)


ترى ما الذي جرى فجأة (؟!)


هل يمكن لعاقل أن يقتنع بأن "وصفةَ السلاح الكيماوي" لها كل هذا المفعول، بحيث أن "1500" من المخنوقين بغاز الأعصاب أمكنهم تحريك الضمير العالمي، رغم أن ميتتهم كما شاهدناها جميعا على شاشات الفضائيات، كانت أقرب إلى الغَفْوِ الباسل الناعم الهادئ الذي لا يثير الرعب في النفوس، بينما أشلاء وبقايا مائة ألف ماتوا تحت أنقاض المباني، أو مسحوقين بجنازير الدبابات، أو قطعا مسافرة مع شظايا القذائف والصواريخ إلى حيث لا تبقى لجيناتهم ولأحماضهم النووية أيُّ ملامح يُسْتَدَلّ بها عليهم، كانت أمرا عاديا لا قيمة له في وصفات استفزاز ضمائر من لم يسبق لهم أن قَبَّلوا صباحات بغداد ومساءاتِها سوى بصواريخ "التوماهوك" و"الكروز" العابرة للقارات (؟!)


لو كان الأمر كذلك وبهذه البساطة وعلى هذا القدر من التسطيح، واستجابة لذلك العويل ولتلك الولولة التي لم تتوقف منذ أسبوع، لكان الأجدى بمن يريد استفزاز الضمير العالمي على النحو الذي نشاهده هذه الأيام كي يدفعَه إلى التحرك بعيدا عن براغماتية السياسة، أن يستخدمَ هذا السلاح منذ عام أو عامين، لينقذَ حياةَ مائة ألف ممن قضوا أشلاء، بتقديم قربان "1500" يقضون سُماًّ، لأن كلَّ المعايير الأخلاقية – وإن كانت جميعها لا تقبل القتل وترفض العدوان على المدنيين الأبرياء أيا كان السبب وبأيِّ سلاح من أيِّ نوع – سوف تجد في قتل 1500 لإنهاء أزمة، قربانا أهون من قتل مائة ألف على أمل إنهاء أزمة (!!)


وإذن فما الذي يحدث على وجه الحقيقة فيما بدأ على شكل "شقاوة أطفال"، ليتحول إلى "صُلْحَة وجاهة عشائرية"، قفزت بعد لحظات إلى "مطالب إصلاحية"، ثم لم تلبث أن انقلبت إلى "أزمة"، فـ "كارثة"، فـ "مأساة عبثية" (؟!)
بداية، فإننا نميل إلى الاعتقاد بأن فريق الأمم المتحدة لن يخرجَ من تحقيقاته حول "استخدام السلاح الكيماوي في الغوطة الشرقية لريف دمشق" بنتائجَ حاسمة تقطع الشَّكَّ باليقين في ما يتعلق بتحديد اتجاهات الخيارات الدولية في "المأساة السورية"، وإن خرج فإنه سيخرج بالاتجاه الدافع لتحقيقها وتجسيدها، وهي الخيارات التي نميل إلى الاعتقاد بأنها قد اتُّخِذَت لجهةِ حسمِ الصراع الدامي في سوريا قبل أحداث "الغوطة المأساوية"، وأن اتخاذَها قد أسهمت فيه عناصرُ أخرى وسيروراتٌ مختلفة، لم يكن عنصر "السلاح الكيماوي" الذي دخل على خط الأحداث فجأة، سوى سببٍ مباشر وجدت فيه جميع الأطراف ضالَّتَها للدفع بالخيارات المُتَّخَذَة إلى الواجهة، عندما كانت تبحث عن أسبابٍ مباشرة لفعل ذلك، كي تُفْهَم الأمور والتغَيُّرات والأحداث في سياقٍ إنساني عاطفي جذاب يحظى بالمساندة، وليس في سياق سياسي مصلحي براغماتي قد تتمُّ معاداته وقد يتمُّ رفضه، أو النظر إليه بمنظار الريبة (!!)


بحسب قراءتنا للمشهد السوري في سيرورته الداخلية والإقليمية والدولية، فإننا غير مقتنعين إطلاقا بأن "الأحداث الكيماوية للغوطة الشرقية" كان لها أيُّ دور جوهري في صناعة "الحدث السوري القادم". مع تأكيدنا على أنها هي التي دفعت به ليحدثَ الآن وليس بالأمس، أو الآن وليس غدا. وفي هذا السياق نميل إلى الاعتقاد بأن المُتَغَيِّرين الهامين التاليين اللذين يمثل أحدهما متغيرا داخليا، والثاني متغيرا إقليميا، هما اللذان صنعا ذلك الحدث الذي وجد في حدث الغوطة، بصرف النظر عن فاعله، الفرصة السانحة ليتحرك أخلاقيا، باتجاه حل براغماتي، لأكثر مآسي الإقليم دموية وعبثية منذ عقود:


1 – استكمال تَشَكُّل خريطة التقسيم الداخلي لسوريا، على نحوٍ أفقد استمرار نزيف الدم أهميةً في إنجاز دور جديد غير ما تمَّ إنجازه حتى الآن، وعلى نحوٍ أفقدَ وقف نزيف الدم قيمتَه التي كان الجميع يخشاها إذا لم يأت هذا التوقُّف في الوقت المناسب. أي أنه المتغيِّر الداخلي الذي يشير إلى أن الدمَ السوري قد أريقَ بما يكفي لإنجاز أهم عنصر من عناصر المهمة التي كان يُراق لأجل إنجازها في منظور صانعي الأزمة وخالقيها والمخططين لها – بعد أن أصبح ذلك العنصر هدفا في ذاته عندما كشفت سيرورة المأساة عن أنه ممكن التحقُّق ومفيد للمشروع الإمبرالي الصهيوني الوظيفي – وليس في منظور أدواتها التي لم تكن تملك سوى أن تضغط على زنادٍ هنا، أو أن تطلق قذيفةً من مدفعٍ هناك، لتقرِّبَ المشهد السوري من لحظات استكمال تشَكُّل الخريطة المراد تَشَكُّلُها (!!)


2 – التغيُّر السياسي الذي لا يستهان به في المشهد السياسي الداخلي لإيران، بانتخاب "حسن روحاني" رئيسا للجمهورية الإسلامية الإيرانية، بوصفه ممثلا حقيقيا لمعسكر الإصلاحيين الذين يميلون إلى إعادة إنتاج السياسات الإيرانية الخارجية إقليميا ودوليا على نحوٍ أقل صدامية مع الغرب والأميركان والخليجيين، ما يقضي بأن يكون لظهورهم كمتصدرين للمشهد السياسي الإيراني دورٌ بارز في توجيه بوصلة "المأساة السورية" التي كانت "إيران المحافظة الصِّدامِيَّة" تمثل بالنسبة لها سندا مطلقا، والتي كانت سوريا بالنسبة لها رأسَ حربة متقدمة لا يُسْتَغنى عنها في مشاريعها الإقليمية ومواجهاتها الدولية (!!)


دعونا نترافق سويا في تحليلنا المُرَكَّز لهذين المتغيرين، لنكتشف معا كيف أسهما في تخليق مُكَوِّنات "الحدث السوري" القادم، والذي جاءت "جريمة الغوطة الشرقية" لتحدِّدَ له التوقيت فقط، بعد أن حدَّد له هذين المتغيِّرَين جوهرَه وشكلَه ومضمونَه (!!)


المتغيّر الداخلي.. "استكمال خريطة تقسيم سوريا"..


ماذا بعد حادثة قتل أحد قياديي "الجيش الحر" على أيدي مقاتلين مقربين من "تنظيم القاعدة" في منطقة قريبة من اللاذقية منذ أكثر من شهر (؟!)


هناك أربع دول تتشكَّل في أفق سوريا، وجامعة الدول العربية تُعِدُّ نفسَها لزيادة عدد أعضائها (!!)


بعد مرور عامين ونصف على الحرب في سوريا، بدا واضحا أن أنصار كلٍّ من النظام والمعارضة المسلحة – بصفتهما أداتي هذه الحرب – قبِلا بتغيير بوصلة الحرب، باتجاه الاكتفاء باستمرارها في ظلِّ حالةِ توازنٍ للقوى بين أداتيها، بدل الإصرار على هزيمة حليف الطرف الآخر هزيمة ماحقة، بسبب تولُّد القناعة لدى هؤلاء جميعا باستحالة انتصار الأدوات المتناحرة أيٌّ منها على الأخرى.


ما هي دلالة التغيُّر في البوصلة لدى أطراف الصراع الحقيقية "إيران وروسيا" من جهة، و"الناتو" و"الوظيفية العربية" من جهة أخرى، وهي الأطراف الداعمة لأداتيها "النظام" و"المعارضة المسلحة"؟!


عندما تضعف المعارضة المسلحة عسكريا لصالح قوة النظام، تتم إعادة التوازن إلى القوى المختلة بتسليح المعارضة المسلحة من قبل حلفائها "الناتو" و"الوظيفية العربية".


وعندما يحدث العكس، ويضعف النظام لصالح المعارضة المسلحة، تبادر "روسيا" ومعها "إيران" بقدر أو بآخر على الفور بإعادة التوازن إلى القوى المختلة، عبر تسليح النظام.


بعد خروج كلٍّ من النظام والمعارضة المسلحة من دائرة كونهما أصحاب القضية في الحرب، إلى كونهما أداتيها فقط لحساب أصحابها الحقيقيين سالفي الذكر، غدا استمرار الحرب حتميا، إلا إذا قررت إحدى الأداتين أو كلاهما إيقاف هذه الحرب العبثية دون مبالاة بأصحاب المصلحة الحقيقيين في استمرارها، فمعادلة "النصر" و"الهزيمة" لم تعد بأيدي الأداتين.


تجلَّت خطورة استمرار الحرب لهذا الوقت الطويل ليس في الضحايا الذين سقطوا فقط، ولا في النزيف المدمر الذي استمر وتواصل أيضا، ولا في حجم التشرد واللجوء والضياع والانهيار الذي أصاب الشعب الدولة، بل في واقعة أن تحولات معادلات المعارك والمواجهة على الأرض، كرَّست مع مرور الوقت أمرا واقعا لا مفر منه – وهو ما سبق وأن أشرنا إليه في مقالات سابقة – لا يخرج عن التوصيف التالي على أقل تقدير..


* وجود جغرافيا وديموغرافيا يهيمن عليها النظام وقواته وتشكيلاته المسلحة.
* وجود جغرافيا وديموغرافيا يهيمن عليها الجيش الحر وتشكيلاته وألويته.
* وجود جغرافيا وديموغرافيا تهيمن عليها التشكيلات الإسلامية المتشددة.
* وجود جغرافيا وديموغرافيا تهيمن عليها التشكيلات الاثنية الكردية.


ولقد تجلى بكل وضوح وخاصة على مدى الأشهر الأخيرة أن الوقائع الطائفية والاثنية هي التي حكمت ترتيب التقسيم سالف الذكر، حيث قد تمركزت معظم قوة النظام في المناطق ذات الغالبية العلوية، وحيث اقتسم الجيش الحر مع المتشددين من التكفيريين مناطق النفوذ على سُنَّة سوريا العرب الذين استُكْثِرَ عليهم أن يكونوا تحت هيمنة جهة واحدة، وكان عليهم أن يخضعوا لمعتدلي السنة ولتكفيرييهم، فيما بدا جليا أن المنطقة الكردية قد فعلت بنفسها مثلما فعل أكراد العراق، وإن يكن وفق متطلبات النموذج السوري.


فيبدو الوضع وكأنه يجسِّد التقسيم الأكثر ملاءمة للحالة السورية ولبُنْيَتها الاثنية والطائفية، حيث ستتحرَّك الآلة الإعلامية في كلِّ مكان وفي الوقت المناسب باتجاه توليد القناعة الحقوقية والإنسانية بواقعية هذا الواقع الجديد في الذهن السوري والعربي والعالمي.


وهو الواقع الذي سيكون قد أُرْفِقَ ترسيخه وتثبيته حتى بعد وقف إطلاق النار بين النظام والمعارضة المسلحة، وبدء الحوار السياسي، بحجمٍ من الخسائر سيتباكى الجميع عليه، مفضلا القبول بهذا الواقع الجديد على استمرار القتال ونزيف الضحايا والخسائر بين فرقاء سيتناحرون رغم أنهم كانوا حلفاء الأمس ضد نظام واحد.


علما بأن ما يحصل على أرض الواقع الآن، في المناطق التي يسيطر عليها جميع الأطراف، ووجهات المعارك لمن يتابعها بدقة، يمهدان لتكريس حالة كهذه. إننا بصدد تجهيز الدولة السورية لتكون أرضا خصبة وملائمة لتحضن أربع دول تقوم على المذهب والطائفة والعرق.


أي أن الدم السوري على مدى سنتين ونصف السنة قد أنجز المهمة على أكمل وجه، وحقَّق أصحاب المصلحة في هدم الدولة السورية مرادَهم، فلم يعد هناك من داع لاستمرار النزيف لأكثر من ذلك. الأمر الذي يشكل متغيِّرا داخليا على الأرض يبرِّرُ اللجوءَ إلى أيِّ خيار يفرضُ حلاًّ سياسيا يقوم على الحوار بين أطرافٍ أصبح كلٌّ منهم يملك تصورا كاملا لأجندته الخاصة بدولته الخاصة، أو بمطالبه الخاصة على أنقاض الدولة السورية القائمة.


المتغيِّر الإقليمي.. التغيُّرات الجوهرية في المشهد السياسي الإيراني..


نودُّ التأكيدَ بدايةً على أن من كان يعتقد أن الدعم الخليجي خاصة، والوظيفي العربي عامة، ومن وراء دعم هؤلاء دعم "حلف الناتو" كاملا، للمعارضة المسلحة، يستهدف إسقاط "النظام السوري" تحديدا، بسبب ممانعته ودعمه للمقاومة الإسلامية في لبنان وفي غزة، فهو مخطئ وواهم، ويكشفُ لنا عن قراءة مُبتسرَة ومُجتزأَة وسطحية وانفعالية للتاريخ من جهة، ولتركيبة المصالح الإستراتيجية في الإقليم من جهة أخرى. ومن كان يعتقد بكل عاطفة الانفعال والاندفاع الناتجة عن عدم تبلور الرؤى المتكاملة في فهم سيرورة الواقع السياسي للإقليم، أن كلَّ هؤلاء تحالفوا لدعم المعارضة المسلحة، مستهدفين منذ اللحظة الأولى تقسيمَ سوريا إثنيا وطائفيا.. إلخ، وتدمير الدولة السورية، هو أيضا مخطئ وواهم، ويكشف عن القدر نفسه من الاجتزاء والابتسار في قراءة واقع الإقليم إستراتيجيا.
لأن النظام السوري كان بإمكانه منذ اليوم الأول للأزمة أن يتحرك تحركاتِ جوهرية باتجاه مطالب المعارضين المسلحين على نحوٍ يجنِّب سوريا كلَّ هذا التدمير والقتل والتشريد والتقسيم وإن يكن بتنازلات كبيرة، بل هو كان قادرا على تقديم تنازلات أقل من تلك التي سيضطر إلى تقديمها الآن، بخسائر أقل بكثير من تلك التي حصلت حتى الآن أيضا وعلى كلِّ الصعد. هذا بطبيعة الحال إن لم تكن لديه أجندة تتعارض منذ البدء مع أيِّ تنازل من هذا القبيل، من على قاعدةِ تصوُّرٍ مفاده أن أيَّ تنازلٍ لصالح هؤلاء المعارضين سيَمَسُّ تلك الأجندة في القليل أو في الكثير. وهذا تصور نظري مثالي، لأن السياسيين غالبا حمقى إلى الحدِّ الذي لا يقتنعون معه بالحلول السلمية إلا بعد خسائر باهظة الكلفة، حتى لو لم يكونوا يتحركون ضمن أجنداتٍ فيها تعارض مع أيِّ مطالب إصلاحية معارضة، تمسُّ بأيِّ شكلٍ من أشكال المساس بمنظومة المصالح المهيمنة على الدولة.


وهذا الحديث لا نوجهه للمعارضة المسلحة السورية بمثل ما نوجهه للنظام، لأننا ممن يتبنون وجهة النظر الإستراتيجية التي تؤكد على أن من يعمل على إسقاط نظامٍ مستبدٍّ ودكتاتوري بقوة السلاح، أرعنٌ إلى الحدِّ الذي يعمل معه على إطالة عمر ذلك النظام، وعلى تدمير البلاد، وعلى تضخيم الخسائر والضحايا، من حيث هو يظن أنه يُسَرِّعُ الحسمَ. وبالتالي ومنذ أن عسكر السوريون ثورتهم، فقد أصبحت هذه الثورة مطيَّة وأداة للغير، وفقدت كل مفاتيح قوتها الذاتية التي ارتبطت حتما بإرادة الممول والمسلِّح والداعم وبمشروعه وبأجندته أيضا. وراحت هذه المعارضة المسلحة التي حولت ثورتها السلمية إلى حربٍ دامية، تجسِّد على أرض الواقع مع مرور الأيام واستطالة عمر المأساة ما وجد فيه أعداء سوريا "الدولة" و"الوطن" و"المشروع القومي" كنزا هبط عليهم من السماء بلا جهدٍ يُذْكَر، فأداروا الأزمة التي تحولت إلى مأساة بما يمكنهم من تجسيد ذلك الكنز على شكل مُنْجَز واقعي على الأرض (!!)


الخلاصة أن تقسيم سوريا الذي تحدثنا عنه في مناقشتنا للمتغير الأول السابق، كان نتيجة وتحصيل حاصل، وهو قد غدا هدفا خلال تطورات الأزمة، وعبر سيرورات مفاعيلها على الأرض باعتباره منجزا تحقَّق لأعداء سوريا من خلال تطورات الأزمة ذاتها، وهي تحاول تجسيد غاياتها وأهدافها الحقيقية. كما أن إسقاط النظام ما يزال حتى الآن مطلبا قابلا للنقاش حوله بين الفرقاء المتحاربين، إذا استُثْنِيَ منه الرئيس من باب حفظ ماءِ وجهِ من قاتل ثلاثين شهرا رافعا هذا الشعار.
وإذن فما الذي كان يعاديه داعمو المعارضة السورية المسلحة حين دعموها، وما الذي كان يدافع عنه داعمو النظام السوري حين دعموه، إذا كان إسقاط النظام في ذاته، وإذا كان تقسيم سوريا في ذاته أيضا، هما عنصران لم يشكِّلا جوهرَ ومبررَ الصراع المأساوي هناك عندما انطلق (؟!)


دعونا نؤكد بادئ ذي بدء على أن الحديث عن أي مسألة تتعلق بالشأن السوري الحالي، هو حديث ذو شجون لا يمكن عزله عن تاريخٍ مديد من السيرورة السياسية، تتمطى على مساحةٍ زمنية تتجاوز العقود الأربعة. لذلك فإننا نرى أن علينا خوض غمار محيطٍ متلاطم الأمواج من الأحداث والوقائع التي ارتبطت بسوريا منذ اعتلاها "آل الأسد"، تمثل الحبل السُّرِّيَ الذي تغتذي منه أيُّ محاولة لسبر أغوار الوضع السوري في كل تفصيلة من تفاصيله ماضيا وحاضرا بل ومستقبلا أيضا. ونجد أنفسنا مدفوعين في بداية إبحارنا هذا إلى تشريح هذا المصطلح العجيب الغريب الذي دخل ثقافتنا الثورية ليمارس في حقها أبشع أنواع الانتهاك ليحوِّلَها من ثقافة "مقاومة" إلى ثقافة "ممانعة".


المحطات التي تؤكد صفة اللاممانعة في النظام السوري (!!)


ما الذيما الذي تعاديه أميركا في سوريا حتى تتآمر عليها هي وعملاؤها المنتشرون في الإقليم، هل هو مساندتها لإيران، أم هو معاداتها لإسرائيل، أم أن الأمرين لا ينفصلان أحدهما عن الآخر، بحيث أن مساندةَ سوريا لإيران تقتضي معاداتِها لإسرائيل، وأن معاداتِها لهذه الأخيرة، تقتضي مساندتَها لإيران، وبالتالي فمعاداة أميركا لسوريا هي بسبب الأمرين معا حتما وبالضرورة (؟!)


هذا السؤال يجرُّنا إلى سؤال آخر تالٍ له، مفادُه:


إذا كانت مساندة سوريا لإيران هي سبب معاداة أميركا لها، فإيران الراهنة، هي "إيران الثورة الإسلامية"، وهذه لم يكن لها وجود قبل بدء عقد الثمانينيات، وبالتالي فهذا الجانب من معاداة أميركا لسوريا إن كان حقيقيا، فهو جانب لا يفسِّرُ معاداة أميركا لها قبل ظهور "الجمهورية الإسلامية". وبالتالي فهل أن معاداة أميركا لسوريا تأسَّسَت أصلا على معاداتها لإسرائيل، وهي المعاداة القائمة قبل ظهور إيران الإسلامية المعاصرة، لتتواصلَ هذه المعاداة بسبب مساندة سوريا لإيران من منطلق معاداة هذه الأخيرة لإسرائيل (؟!) أم أن معاداتها لها – أي معاداة أميركا لسوريا – تأسَّسَت أصلا على حلفها مع إيران، ما يستوجب أن تكون معاداة حديثة نشأت بعد نشأة "الجمهورية الإسلامية" في إيران (؟!)


الأغرب في المسألة كلِّها، هو أن هذا السؤال يدفعنا إلى سؤال آخر مفاده:


هل هناك دليل فعلي وملموس على أن سوريا خلال الفترة التي سبقت ظهور "الجمهورية الإسلامية" في إيران، كانت معادية لإسرائيل على نحوٍ يبررُ معادةً أميركية لها على النحو الذي يقول به الكثيرون (؟!) ومن ثمَّ إن كانت سوريا معادية فعلا لإسرائيل، فما هي أوجه هذه المعاداة، وكيف تجلَّت وتجسَّدت (؟!)


دعونا أولا وقبل كل شيءٍ نُثَبِّت أهم المحطات التي مرت بها السياسة السورية منذ استلم "آل الأسد" السلطة في سوريا، فيما يتعلق بإسرائيل وبالمواجهات ضدَّها، كي نؤسِّسَ بناءً على هذه المحطات لمضمون المعاداة السورية لإسرائيل، ومن ثمَّ لمضمون المعاداة الأميركية الصهيونية الوظيفية لسوريا، لنعرف إن كان مُؤَسَّسا على معاداتها لإسرائيل، أم على تحالفها مع إيران (؟!)


المحطة الأولى..


في عام 1970 حصل الانقلاب التاريخي الذي قاده "حافظ الأسد" وزير الدفاع في حكومة "نور الدين الأتاسي"، والذي عُرف فيما بعد بالحركة التصحيحية. ونشير هنا للاستئناس إلى واقعةِ أن اتفافا كان قد عُقِد بين قادة المقاومة في الأردن وحكومة "نور الدين الأتاسي" في سوريا، يقضي بالتدخل العسكري لحماية المقاومة من النظام إذا أصبح مصيرُها في خطر. إلا أن الانقلاب الذي حصل في ذلك التوقيت الحرج، حال دون هذا التدخل، فحصل للمقاومة ما حصل بعد أيلول في كل من عجلون وجرش، حيث تمت تصفيتها تماما. ولا يمكن لعاقل أن يمرَّ على الانقلاب "الأسدي" مرورَ الكرام، مادام المنقلبون لم يلتزموا بوعد حكومة "الأتاسي" لقادة المقاومة، وتركوها تواجه مصيرها المحتوم، وكأن المنقلبون ما انقلبوا إلا للحيلولة دون تنفيذ النظام الذي انقلبوا عليه لهذا الوعد. وهذه في تصورنا أول مؤامرة على ثورةٍ يفترض أنها كانت تقاوم إسرائيل، من قبل نظام "آل الأسد". ثورة كانت في حينها تمثل ظاهرة غبر مسبوقة في مواجهة المشروع الإمبريالي الصهيوني. ونحن هنا نناقش الموضوع من هذه الزاوية فقط، وليس من زاوية واقع وهوية وأخطاء وكوارث وممارسات المقاومة المنحرفة على الساحة الأردنية من حيث المبدأ، فهذا موضوع آخر مختلف، ليس هذا مكان مناقشته.


المحطة الثانية..


في عام 1976 حصل التدخل السوري في لبنان تحت غطاء الموافقة العربية لإعادة التوازن إلى لبنان الذي أصبح تحت سيطرة التحالف بين فصائل المقاومة الفلسطينية وفصائل القوى الوطنية اللبنانية المناهضة للصهيونية وللاستعمار، ولتوظيف لبنان في الاتجاه المعادي لقضايا الأمة العربية. وارتكبت القوات السورية أو تغاضت عن ارتكاب المجزرة التاريخية المعروفة في مخيم "تل الزعتر" الذي كان معقلا يُعَبِّر تدميرُه عن كسرِ شوكةِ الرفض الفلسطيني اللبناني للتدخل السوري. وبالفعل فقد عاد التوازن إلى البُنية السياسية والعسكرية في لبنان، بأن تم إنقاذ القوى المناهضة للمقاومة والمساندة للحلول التصفوية، والمعروفة بعلاقاتها مع إسرائيل وعلى رأسها "حزب الكتائب" وميليشياته المعروفة بـ "القوات". أي أن التدخل السوري في لبنان في ذلك التاريخ، كان يُعبِّر عن دورٍ على الأرض، يتعارض مع أيِّ مبدإ من مبادئ مقاومة إسرائيل، مادام قد صبَّ في خانة تحجيم وحصار من قاوموها، وإعادة الحياة إلى من ساندوها وحالفوها، تحت عنوان "حماية لبنان من الفتنة".


وهنا نجد أنفسنا مدفوعين إلى التَّذكير بانقلاب عام 1970 من جديد، متسائلين بمنتهى البراءة: "أليسَ من المحتمل أن يكون الانقلاب "الأسدي" الذي أسقط نظاما وطنيا في ذلك العام، كي لا يحمي المقاومة في الأردن من مصيرها المحتوم هناك، انقلابا بدأ يُعِدُّ العُدَّة لاحتواء الساحة اللبنانية من التداعيات التي ستشهدها بعد انتقال المقاومة إليها من الأردن عقب أحداث أيلول عام 1970، وهو الانتقال الذي بدأت بنتظيم أعمال المقاومة في ضوء حيثياته ومنذ وقت مبكرٍ اتفاقية القاهرة المعقودة عام 1968" (؟!)


المحطة الثالثة..


جاء الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، في ظل التوازن النسبي الذي حققته القوات السورية في لبنان منذ تدخلها بغطاء عربي عام 1976، وبعد تحييد مصر وتكبيلها باتفاقيات "كامب ديفيد" عام 1979. إسرائيل أنجزت مهمتها وأخرجت المقاومة الفلسطينية من لبنان بعد أن حاصرت بيروت واحتلت الجنوب اللباني كاملا، وكانت قد احتلت شريطا منه في وقت سابق، دون أن تفعل القوات السورية شئيا لمنع ذلك، أو لمساندة القوى المقاومة المدافعة عن لبنان.. إلخ، لا في المرة الأولى، ولا في هذه المرة الأكثر تدميرا وإهلاكا وتغييرا للمسارات السياسية في الإقليم.


وهنا نتساءل: هل يمكن أن نَتَفَّهَم أو أن يتفهم أيُّ وطني متوازن وعاقل ومحايد وموضوعي، تدخلَ سوريا في لبنان لحماية القوى الرجعية المتحالفة مع الصهيونية فيه من أن تبتلعَها القوى التقدمية المقاومة والثائرة عام 1976، ووقوفَها موقف المتفرج وإسرائيل المحتلة لأرضه والمحاصرة لعاصمته، والمدمرة تدميرا ممنهجا لكل مخيمات اللاجئين ومعاقل اللمقاومة فيه، تعمل عام 1982 على قلب كل المعادلات والتوازنات لصالح تلك القوى المتحالفة معها (؟!)


ونتساءل أيضا: هل يعقل أن إسرائيل التي لم تتجرأ على اجتياح لبنان إلا بعد أن ضمنت الحياد الحقيقي لمصر، رغم أن دور مصر في دعم المقاومة في لبنان حتى لو حصل، ما كان سيكون ذا مردود شبيه بذلك الذي كان يمكن لسوريا أن تقدمه إن قدمته، لأكثر من سبب ليس بأقلها أهمية، التواجد السوري المباشر على الساحة اللبنانية بكثافة عسكرية وبقوات وأسلحة تشكل ترسانة حقيقية.. نقول.. هل يعقل لإسرائيل التي تدرك ذلك قطعا، أن تجتاج لبنان لو لم تكن موقنةً أن اجتياحها لن يستفزَ سوريا ولن يدفعها إلى التدخل لحماية المقاومة وللدفاع عن لبنان (؟!)


وهو ما حصل فعلا (!!)


ونتساءل أيضا: هل من الصعب علينا التأكيد على أن موقف الجيش السوري في لبنان عام 1982، حقق الأهداف السياسية نفسها التي حققها تدخله عام 1976، والتي كان قد حققها النظام نفسه في الأردن بانقلاب عام 1970، بلا أدنى اختلاف في جوهر تلك الأهداف (؟!)


ورغم أنوفنا نتساءل قبل الانتقال إلى المحطة التالية: لماذا يدعم النظام السوري حركة مقاومة لبنانية مثل "حزب الله"، بل ويسعى إلى إنشائها ودعمها منذ البدايات، بينما هو كان يواجه بشكل دموي لا يرحم ولا يلين، حركة مقاومةٍ أكثر أهمية وعالمية وقوة وتعبيرا عما يمكنه أن يكون طموحا قوميا يتناسب مع العباءة القومية العروبية التي يطرحها هذا النظام نفسه، مثل "المقاومة الفلسطينية" وحلفائها في "القوى الوطنية اللبنانية" (؟!)


المحطة الرابعة..


النظام السوري، يدعم في عام 1983 أكبر وأوسع عملية انشقاق في حركة فتح، كبرى فصائل المقاومة الفلسطينية، في أوقات حرجة كانت فيها المقاومة أحوج ما تكون إلى من يلملم جراحَها ويساعدها على امتصاص صدمة الشتات الجديد، لا بل قد أعقب النظام السوري مساندته لذلك الانشقاق الذي ما كان ليحدث لولا دفعه باتجاهه قطعا، بمساندته الكاملة لاقتتالٍ فلسطيني داخلي أدى إلى فقدان المقاومة لآخر معاقلها في مخيمي "البداوي" و"نهر البارد"، برعايةٍ كاملة منه للفصائل التي كانت تتبنى مواقفه وسياساته في هذا الاقتتال الذي ذهب ضحيته المئات من أبناء المخيمات.. مع تأكيدنا على أن هذا الاقتتال ما كان ليحدث لولا دفع النظام السوري باتجاهه لتتحقَّق من خلاله الأهداف التي أرادها فتحقَّقت. لا أحد يستطيع تصديق أن الجيش السوري ومن ورائه النظام نفسه كانا محايدين في صراع داخلي ما كان ليتم بدون الموافقة والرعاية، بل والدفع السوري باتجاهه (!!) وهكذا تفقد المقاومة مجددا آخر المعاقل اللبنانية في "نهر البارد" و"البداوي" عام 1983، بالطريقة نفسها التي فقدت بها آخر المعاقل الأردنية في "جرش" و"عجلون" عام 1971.


المحطة الخامسة..


النظام السوري، ومنذ ظهرت بوادر خلوِّ الساحة اللبنانية من المقاومة الفلسطينية، وفصائل القوى الوطنية اللبنانية المتحالفة معها، وبعد سلسلة من الاغتيالات طالت الرموز الوطنية اللبنانية، بدءا بـ "معروف سعد" "الحزب الناصري"، ومرورا بالزعيم الكبير "كمال جنبلاط"، رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي"، وليس انتهاء بـالزعيم الشيوعي "جورج حاوي"، وبعد أن أصبحت هناك قوة إقليمية جديدة هي "الجمهورية الإسلامية" في إيران، التي بدا أنها متحالفة مع سوريا منذ اللحظة الأولى، حتى ضد الشق البعثي الآخر في بغداد، في مفارقة غير مفهومة إلا للسياسيين السَّحَرة..


نقول.. بعد كل ذلك، ظهر "حزب الله" بصفته حركة مقاومة لبنانية إسلامية على ولاء تام لإيران، وتطرح برنامجا معاديا لإسرائيل يتضمن رؤية واضحة لتحرير الأرض اللبنانية المحتلة من قبل إسرائيل، ليحظى بكل الدعم من سوريا التي بحكم وضعها الجيوسياسي بالنسبة للدولة اللبنانية، كانت أقدر من إيران على خلق حالة التماس النضالي معه بشكل مباشر. واستمر حزب الله منذ ظهوره في تلك المرحلة الانتقالية الحرجة التي تم استبدال المعادلة الوطنية المقاومة في لبنان به تحديدا، باعتباره معادلة مقاومة جديدة، وإن كانت مختلفة الأهداف والإستراتيجيات، هو "بيضة الكشك" بالنسبة لسوريا، وهو الورقة الرابحة لها ولإيران معا في أيِّ مواجهات تخوضانها، وفي أيِّ سياساتٍ تريدان تمريرها في الإقليم.


تحليل أولي لتلك المحطات ودلالاتها..


وإننا استهلالا منا لعرض تحليلنا الخاص لتلك السيرورة بعد العرض السابق، نُثَبِّت المبادئَ التالية..


1 – نتجاوز بعد حقبة ظهور الجمهورية الإسلامية ولغايات النقاش في لب الموضوع الذي نحن بصدده، كافة المواقف التي اتخذها النظام السوري ضد العراق، سواء في صراع هذا الأخير مع إيران، أو في صراعه مع التحالف الغربي عقب احتلاله للكويت.. إلخ.


2 – إن كافة الذين يعتبرون النظام السوري نظاما ممانعا، يأخذون في الاعتبار جانبا من سياساته بعد دخول الجمهورية الإسلامية وحزب الله على خط سياساته عقب خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان وانهيار القوى الوطنية اللبنانية بفعل سياسات النظام السوري، ولا يستطيعون أخذ مرحلة ما قبل عام 1982 بعين الاعتبار للتدليل على تلك الممانعة بأيِّ حال، فسِجِل هذا النظام في ممانعة الممانعة حافل بما لا يحتمل التأويل.


3 – ومن هنا فإننا نتساءل عن السِّر الحقيقي الكامن وراء استبدال مقاومةٍ بأخرى، ووراء الدعم المطلق لحزب الله كنموذج للمقاومة، ومعاداة المقاومة الفلسطينية والقوى الوطنية اللبنانية كنموذج آخر للمقاومة أكثر تجذرا وأصالة وآفاقا من حزب الله بكل المعايير (؟!)


فإذا كانت القضية قضية دعم مقاومة تواجه إسرائيل كما هو حال دعم النظام السوري لحزب الله، فإن المقاومة الفلسطينية والقوى الوطنية اللبنانية هي أيضا كانت تقاوم إسرائيل، فلماذا تُعادَى وتُحارَب، ولماذا يتم دخول الجيش السوري إلى لبنان بغرض تحجيمها، ولماذا يتم السكوت على محاولات إسرائيل لطردها من لبنان وعلى تمزيق لبنان بغيابها (؟!) هل أن مقاومة حزب الله لإسرائيل أكثر جدوى وفعالية وإخلاصا وشمولا ونقاء من مقاومة هؤلاء، أم أن هناك سرا آخر هو وحده القادر على تفسير الأمر، وفكِّ طلاسمه السِّحريَّة (؟!)


هذا ما تدفعنا إلى التفكير فيه، تلك المحطات التي نعتبرها أخطر ما في السيرة الذاتية للنظام السوري من مثالب تدفع إلى الوقوف مطولا عند مقولة أنه "نظام ممانع"، وأن التآمر عليه إنما هو بسبب ممانعته، بمعنى معاداته التاريخية لإسرائيل ودعمه المطلق لمقاومتها. وهذا ما سنحاول فهمه في هذا التحليل.


لن ننطلق من التشكيك في دواعي انقلاب عام 1970، وفي قومية وعروبية ووطنية من نفذوه وقادوه حتى الآن، بل سنحرص على ألا نستنتج من تتابع الأحداث إلا استنتاجات منطقية ومحايدة، ونترك للقارئ والمتابع أن يبنى السيناريوهات التي يراها تتناسب مع الحدث من جهة، ومع دلالاته من جهة أخرى.


فقد جاء ذلك الانقلاب إلى قمة هرم السلطة في سوريا بفئةٍ من حزب البعث الحاكم آنذاك، قادها "آل الأسد" وأقرباؤهم ومقربوهم، أدخلَت أجندةَ النظام في سوريا إلى برنامج قومي عروبي مختَزَل ومُوَجَّه، لا يتناسب مع الفضاءات القومية والعروبية والوطنية التي جسَّدتها الحقبة الناصرية، التي كان من مفارقات القدر أن يحدث ذلك التوافق التزامني والتوقيتي العجيب بين غياب رمزها – أي الزعيم الراحل جمال عبد الناصر – وبين ظهور رمز الانقلاب الذي ورثها في سوريا، أي الزعيم الجديد "حافظ الأسد". فالمدة الزمنية التي فصلت بين وفاة الأول وتولي الثاني رئاسة الدولة السورية من خلال الانقلاب ليست طويلة.


المحدِّدات الإستراتيجية للمشروع القومي السوري البعثي الأسدي..


ولقد عبَّرت عن اختزال البرنامج القومي العروبي الناصري وتوجيه فضاءاته نحو أضيقها، سياساتُ النظام السوري منذ عام 1970 وحتى الآن.


ولكن ما الذي نقصده بالاختزال والتوجيه (؟!)


إن الرؤية القومية للنظام السوري البعثي بقيادة "آل الأسد"، قامت في جانب مواجهة الصهيونية بعد حرب أكتوبر عام 1973 على ستِّ ركائز أساسية، مثلت مجتمعةً "أيديولوجية البعث الأسدي" في هذا الصدد، وهذه الركائز الست هي..


1 – لا مواجهة عسكرية مع إسرائيل قبل إحداث التوازن الإستراتيجي معها من الناحية العسكرية.


2 – ومع ذلك فالمواجهة مع إسرائيل ليست حتمية، وقد يتم حل الصراع معها بوسائل غير عسكرية.


3 – خلال مرحلة انعدام التوازن الإستراتيجي، لا مواجهات سورية مباشرة مع إسرائيل من أيِّ نوع، والاكتفاء بسياسة الحرب والقتال بالوكالة، لا بهدف التحرير فهذا مستحيل قبل إحداث التوازن الإستراتيجي – من وجهة نظر العقيدة البعثية الأسدية – بل بهدف تلجيم الأطماع الإسرائيلية وتمرير المواقف الإقليمية.


4 – لا مكان في مواجهة إسرائيل، لأيِّ أجندة مقاومة لا تتحرك ضمن الخطة السورية، وترفض أن تكون جزءا لا يتجزأ منها.


5 – رفض الحل المنفرد مع إسرائيل، لأن من سياسة هذه الأخيرة الانفراد بأطراف الصراع العربية، للحصول من كل واحد منفردا على مكتسبات أكبر وأوسع من تلك المقدور على تحصيلها من العرب لو كانوا مجتمعين.


6 – حل الصراع في نهاية المطاف تحسمه الأنظمة العربية القومية، إما بالحرب النظامية إذا كان الحل عسكريا، وإما بالتفاوض الجماعي إذا كان الحل غير عسكري، ولن يكون حله شعبيا تخوضه الجماهير بكفاحها المسلح.


بسبب الركيزة الأولى، لم تخض سوريا منذ حرب أكتوبر وحتى الآن أيَّ حرب، ولم تصطدم أيَّ صدام، ولا هي دافعت عن نفسها ضد أيَّ هجوم، أو واجهت أيَّ اعتداءٍ إسرائيلي من أيِّ نوع، بما في ذلك الاعتداءات التي كانت تتعرض لها قواعدها العسكرية والصاروخية في لبنان، بل ومنشآتها العسكرية داخل سوريا ذاتها، إلا في القليل النادر الذي يعتبر استثناءً يؤكد القاعدة ولا يلغيها.


وبسبب الركيزة الثانية، وافقت سوريا على مرجعية مؤتمر مدريد، وشاركت في فعالياته وجلساته، وما تزال مستعدة لقبول حل الصراع مع إسرائيل في ضوء مبادئه وقواعده، حتى وهي تعلم أنها قائمة على الاعتراف المتبادل بين إسرائيل وكل الأطراف العربية المشاركة فيه.


وبسبب الركيزة الثالثة، أبقى النظام السوري على جبهة الجولان مغلقة في وجه كل أشكال المقاومة الممكنة والمحتملة، ولم يسمح بإطلاق رصاصة واحدة من سوريا تجاهَ إسرائيل على مدى أكثر من أربعين سنة، هي مدة حكم "آل الأسد"، وخاض النظام ما يريده من مناوشات و"طوشٍ" ضد إسرائيل عبر المقاومة الإسلامية اللبنانية ممثلة في "حزب الله".


وبسبب الركيزة الرابعة، واجه النظام السوري بكل ما أوتي من قوة، "فصائل المقاومة الفلسطينية" و"القوى الوطنية اللبنانية"، ومنعها من التعبير عن نفسها ثوريا ووطنيا، ومن تجسيد مشروعها للمقاومة والتحرير، وتسبَّب في طرد الأولى وتشتيتها، وفي تمزيق الثانية وإضعافها، مع أنها كانت من الناحية العملية أكثر تعبيرا عن تَقَمُّص المشروع القومي العروبي من حزب الله، وأكثر قدرة على التمدد العالمي باتجاه مناجزة الإمبريالية والصهيونية من حزب الله الذي يمثل حالة مقاومة منكمشة قطريا بلبنانيتها التي جسَّدها وعبَّر عنها باستمرار وفي كل المناسبات.


وبسبب الركيزة الخامسة، رفض اتفاقيات كامب ديفيد، وعادى الرئيس السادات في توجهه للصلح المنفرد مع إسرائيل، ومحاولته فرض منهج تفاوضي على العرب بدون مشاروتهم أو التنسيق معهم، فيما قَبِلَ الذهاب إلى مدريد بصفته مرجعية جماعية بالنسبة للطرف العربي.


وبسبب الركيزة السادسة، لم يسمح النظام السوري بالتعامل مع حركات المقاومة أيا كانت، وعلى رأسها "حزب الله" الأكثر التصاقا بالأجندة السورية، خارج هذا الاعتبار التَّبَعي، الذي ليس من حقه أن يفكر أو يخطط خارج فضاءات أجندة النظام السوري، ولا من حقه أن يتصور أيَّ أفق للشعوب قابل للتحقق والتجسُّد، حتى وهي تبدعُ ثوراتها، خارج نطاق الحاضنة السورية النظامية.
عندما نكون بصدد نظام سوري وقف ضد مقاومةٍ وحاربها وناجزها بكل ما أوتي من قوة في لبنان ومنها، فيما دعمَ مقاومةً أخرى وساندها ونماَّها وقواَّها في الساحة اللبنانية نفسِها، فمن الحماقة والرعونة أن نتجاوز هذا التناقض الظاهر بين الموقفين، بذلك القدر من التسطيح الذي يريد أن يفرض علينا أن النظام السوري ممانع فقط لأنه يدعم "حزب الله"، دون الولوج في أعماق التباين القائم بين المقاومتين شكلا ومضمونا، لنتعرف على الأسباب التي جعلت ذلك النظام يقف ضد ذاك بالأمس، ومع هذا اليوم.


إن من يريد أن يفرض علينا أيديولوجيةَ أن النظام البعثي السوري "الأسدي"، نظامٌ ممانعٌ لأنه يدعم المقاومة ممثلة في "حزب الله" في لبنان وممثلةً في "حماس" في فلسطين على الأقل قبل مواقفها الأخيرة من النزاع الدائر في سوريا، فإنه سيقف عاجزا عن إثبات هذه الممانعة من هذا الوجه، عندما نواجهه بتاريخِ موقفه من المقاومة الفلسطينية واللبنانية قبل حزب الله وقبل حماس (!!)


كما أن من يريد أن يفرض علينا أيديولوجية أن هذا النظامَ ممانعٌ، لأنه النظام العربي الوحيد من أنظمة الطوق الذي رفض حتى الآن توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل، حاميا حتى لبنان من الوقوع في هذا المستنقع الآسن، فإنه سيكون تسطيحيا إلى أبعد الحدود، إذا ساق لنا هذه الواقعة في معرض الحديث عن بطولات النظام السوري الأسدي وعن مواقفه المبدئية، دون أن يذكر لنا معها أن سوريا "البعثية الأسدية"، التي عجزت عن أن تقود العرب إلى حرب 1973 كما فعلت "مصر الساداتية" التي أثبتت أنها السباقة، ما كانت لتقبل بأن تكون تابعة لمصر السادات في الحرب وتابعة لها في السلام أيضا.


فإذا كانت كاريزما "عبد الناصر" من جهة أولى، والظروف الموضوعية التي تجسَّدت حياته السياسية من خلالها من جهة ثانية، أكبر من أن تتيح لأحدٍ منازعته على الريادة حربا وسلاما، فإن السادات يختلف. وبالتالي فمصر السادات تختلف عن مصر عبد الناصر، ولقد كانت الحقبة الساداتية فرصة للضباع كي تتنازع على ريادة الغابة في ظل غياب الأسد الملك.


لقد كانت سوريا "الأسدية" تريد أن تفرض على العرب أن يسيروا إلى سلام مع إسرائيل تكون هي رائدته، وليس مصر السادات التي كانت رائدةً في خوض الحرب. ولهذا السبب كانت ضد التسوية الساداتية، وتهافتت على التسوية المدريدية، لأن الأولى جاءت ولسان حالها يقول: "السادات بطل الحرب والسلام معا"، وهو ما لا تحتمله الأيديولوجية السورية الأسدية التي ناضلت كي ترث التركة الناصرية. بينما جاءت الثانية ولسان حالها يقول: "صحيح أن الحرب بدون مصر ما كانت لتُخاض، لكن السلام بدون سوريا ما كان ليبدأ". فتحققت لها معادلة الريادة في الحل السلمي الذي لن يتم عربيا على صعيد المجموع بدونها، بعد أن فقدت الريادة في الحرب التي لم تخطط لها، ولا كانت ستخوضها أصلا.


والخلاصة، أن إتحافَنا بجعجعةٍ لا يتجاوز طَحْنُها القولَ بأن ممانعة سوريا تتجلى في الامتناع عن توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل حتى الآن خلافا لكل انبطاحيي العرب، دون أخذ حيثيات التحليل السابق في الاعتبار، هو قول لا قيمة له، ولا هو يؤسِسُ لفكرة متماسكة، لأنه يفصل الأحداث عن سياقاتها الموضوعية، فلا يمكنها من ثمَّ – أي تلك الأحداث – أن تُفْهَمَ فهما صحيحا يؤصِّل لأيديولوجية حرب أو سلام من حيث المبدأ. والأجدى بهؤلاء أن يصمتوا وأن يتعلموا قبل أيِّ جعجعة أبجديات السيرورة التي حدثت وما تزال تحدث في الإقليم.


إذن فحجم التناقضات في الممارسة السياسية للنظام السوري البعثي الأسدي، أكبر وأوضح من أن ينجحَ المساندون للنظام ولممانعته في القفز عليها لإثبات أوهامِ تلك الممانعة بشكل موضوعي ومتماسك. وهنا نجد أنفسنا مدفوعين قسرا إلى البحث في طبيعة الاختلافات بين مقاومتين، هما "حزب الله" منذ عام 1982 و"حماس" حاليا من جهة، و"فصائل المقاومة الفلسطينية واللبنانية" قبل عام 1982 من جهة أخرى، لنضع أيدينا على السِّرِ الذي جعل النظام السوري الأسدي يدعم اليوم ما عاداه بالأمس، علَّنا نفهم سِرَّ ما يحدث في هذه الأيام في الساحة السورية وحولها إقليميا ودوليا.


لماذا تبنى النظام السوري مقاومة حزب الله وحماس وعادى مقاومة منظمة التحرير والقوى الوطنية اللبنانية (؟!)
بالتدقيق نستطيع أن نتبين الفروق الجوهرية التالية بين مدرستي المقاومة اللتين دعم النظام السوري إحداهما وعادى وحارب الأخرى..


1 – برنامج مقاومة "حزب الله" لبناني فقط، بينما برنامج المقاومة الفلسطينية واللبنانية قبل عام 1982، لبناني فلسطيني قومي إنساني إلى حدِّ بعيد.


2 – برنامج مقاومة "حماس" وإن كان يشترك مع برنامج مقاومة ما قبل عام 1982 في أنه فلسطيني، إلا أنه يختلف معها في مسألة هامة، هي أنه برنامج يفتقد إلى أيِّ عمق إستراتيجي يُمَكِّنُه من خلق القاعدة الآمنة التي تحرره من سطوةِ الغول السوري الأسدي وأجنداته الاحتوائية التحكميَّة، حتى بعد إثبات جدارته في مقاومة الحملة الصهيونية على قطاع غزة في شتاء عام 2008، وفي حرب الأيام السبعة الأخيرة عام 2013. بينما المقاومة ما قبل عام 1982، كانت تمتاز بالتحرك فيما يشبه مشروعَ قاعدةٍ آمنة قيدَ التَّحَقُّق، ما يجعلها مقاومةً قادرة على خلق عناصر تحررها من ذلك الغول ومن أجنداته الخاصة. وحتى رغم فشلها في تخليق هذه القاعدة بسبب الجهدين المتوازيين السوري الأسدي والإسرائيلي، فإن منبع قوتها وخطورتها بالنسبة للأجندة السورية الأسدية والصهيونية أيضا، هو سعيها لتحقيق هذا الأمر وإنجازه.


3 – برنامج مقاومة "حزب الله" برنامج تابع وليس برنامجا أصيلا. ولا يغير من هذه الحقيقة أيُّ شيء، بما في ذلك صموده الأسطوري في مواجهة الآلة العسكرية الإسرائيلية في تموز عام 2006، بل ودحره لها إلى ما وراء الحدود اللبنانية الفلسطينية. فهو قد نشأ تابعا في قلب أجندة النظام السوري الأسدي، وبالتالي فهو "برنامج ورقة" قد يكون بمثابة "جوكر" أحيانا، ولا يمكنه أن يكون "برنامجا حليفا" يشارك في صنع الأجندات والسياسات التي لا يريدها النظام السوري حتى داخل الساحة اللبنانية، على اعتبار أن ما يقع خارج تلك الساحة لا يقع أصلا ضمن برنامج مقاومة "حزب الله". بينما برنامج المقاومة ما قبل 1982، هو برنامج مستقل وأصيل من حيث حرصه الدائم والدؤوب على التحرر من عباءة كل الأجندات العربية التي يراها لا تتوافق مع أجندته، والتي لم يخضع لمعظمها ولا هو استسلم لها إلا بعد أن تمَّ هز أركانه وتمت خلحلة أساساته في لبنان من قبل النظام السوري نفسه.


في ظل هذه الفروق بين المقاومة التي دعمها النظام السوري وغذاها وقواها، وتلك التي حاربها وعاداها، نستطيع أن نفهمَ وجهة الممانعة التي يقف على أعتابها ذلك النظام، كي نضعَه في المربع الذي يستحقه، وكي يدرك المؤيدون لممانعته المفروضة علينا مفهوما هلاميا مائعا لا يفهمونه حتى هم أنفسهم، أن أوان التوقف عن الحديث غير المؤصَّل قد هلَّ، وعلى الجميع أن يضع الأمور في نصابها والنقاط على حروفها.


النظام السوري الأسدي عندما دعم المقاومة "حزب الله" وعادى "مقاومة ما قبل عام 1982"، إنما عبَّر عن جوهر أجندته المتمثل في رغبته في مقاومةٍ شعبية قُطْرِيَّة لا تتجاوز حدود لبنان، كي تتيح له اللعب بها كورقة في ساحةٍ هي ساحته. وإذا كان لابد من أن تظهر بعض جوانب "فلسطين" في المقاومة التي يدعمها، فلتكن من النوع العاجز عن تحويل هذه "الفلسطينية" إلى قاعدة آمنة، فكانت "حماس". أي أننا عندما نورد القُطْرِيَّة اللبنانية كمبرر لدعم النظام لحزب الله، فإن الرد علينا بدعم حماس لا يفي بالغرض المضاد، لأن دعم حماس هنا يُكْسِبُ النظامَ نقاطا على محور الإحداثيات الفلسطيني، دون السماح لهذا المحور بالخروج عن الأجندة الخاصة به، مادامت حماس شأنها شأن حزب الله ستبقى عاجزة عن اتخاذ القرار المقاوم الحر بعيدا عن عباءة النظام السوري.
في ظل يقينٍ إسرائيلي ومن ورائه يقين أميركي بأن حزب الله ليس أكثر من ورقة سورية محصورة في البعد اللبناني ومُحَرَّرَة من أيّ برامجية أقليمية أو قومية أو إنسانية، تهدد أمنَ إسرائيل في هذه الأبعاد، خلافا لما كان عليه حال المقاومة الفلسطينية واللبنانية قبل عام 1982، فإن حزب الله كذراع لبناني مقاوم ومسلح بغرض المقاومة، ليس بذي أهمية في ذاته من هذا الباب، مادامت مبررات الإبقاء على حزب الله أو إنهائه بصفته تلك الورقة، في يد إسرائيل عندما تقرر حل مشكلة "مزارع شبعا" كأرض لبنانية.


لا أحد يستطيع تخيُّلَ أن حزب الله قد يبقى قادرا على التماسك الأخلاقي والبنيوي والقانوني والسياسي، لو أن إسرائيل قررت أن تنسحب من مزارع شبعا. أي إذا قررت ألا تبقي على أرضٍ لبنانية محتلة. إن هذا الحل يربك حزب الله داخليا، فلا يعود يجد له مبررات للتواجد كقوة مسلحة خارج نطاق الجيش اللبناني النظامي، ولا يجد أمامه إلا أن يتحول إلى حزب سياسي لبناني. وفي حال رفضه التجاوب مع متطلبات هذا الحل، فلن يكون أمامه إلا أن يعلن – كي يبرر لنفسه الإبقاء على نفسه تنظيما مسلحا ومقاتلا – أنه أعاد بناء مشروعه المقاوم على أسس قومية وإنسانية، وهذا ما يتعارض مع الأجندة السورية، وهو ما يجعل النظام السوري الأسدي يفقد القيمة الأخلاقية التاريخية لدعم تنظيم لبناني مقاوم. هذا إذا افترضنا أن حزب الله قادر أصلا على تبني مشروع المقاومة الإقليمية والقومية التي ما أُعِدَّ ليتبناها أساسا، وهو الذي أعلنه أمينه العام "حسن نصر الله" في أكثر من مناسبة عندما كان يؤكد على أن الحزب هو بمثابة مقاومة لبنانية تستهدف تحرير الأرض اللبنانية فقط (!!!)


في ظل حقيقة سايكولوجية يعرفها كل المختصين عن طبيعة البناء النفسي للإنسان الإسرائيلي، والقائم على ازدواجية غريبة وهشَّة مفادها، أن المجتمع الإسرائيلي لا يمكنه أن يتماسك أو أن يحس بكونه مجتمعا واحدا، إلا إذا تعرض بشكل دائم لتهديدٍ خارجي يخيفه على أمنه ولا يهدد مصيرَه ووجودَه، وفي الوقت نفسه، إلا إذا هاجم أعداءَه بشكل مستمر وهزمهم في معارك محدودة دون الإجهاز عليهم، ليمثلوا بالنسبة إليه على الدوام صورة العدو الأبدي الذي يهدده ولا يقدر على إفنائه، فيحاربه هو ولا يقدر على التخلص منه..


نقول.. في ظل هذا البناء التفسي للإنسان الإسرائيلي، كان من الطبيعي أن يبقى هناك تهديد خارجي يحقِّق هذه المعادلة، وفي ظل حقيقة أن النظام السوري لم يمثل هذا التهديد منذ أكثر من أربعين عاما، ولن يمثله بحسب طبيعته وبنيته وإستراتيجياته التي أسهبنا في شرحها سابقا، فقد كان لابد من وجود عناصر مُهَدِّدَة تُحَقِّق هذه الغاية السايكولوجية، فكان "حزب الله" في الشمال وكانت "حماس" في الجنوب.


وإلا فمن حقنا أن نتساءل بمنتهى الجدِّيَّة والبراءة في الوقت ذاته: لماذا تنسحب إسرائيل في عام 2000 من كامل الجنوب اللبناني وتُبقي على مزارع شبعا محتلة، مع أنها منطقة عديمة القيمة بعد الانسحاب من كامل الشريط الحدودي اللبناني؟! إن حزب الله، وهو فصيل مقاوم لا يشكِّكُ أحد في وطنيته وفي وطنية برنامجه، كان من الضروري في المنظور الإسرائيلي من أن يبقى، كي يكون بمثابة صمام الأمان الذي تستخدمه القيادة الصهيونية في إسرائيل لإحداث التوازنات في النفسية الإسرائيلية عندما تتعرض هذه النفسية للشرخ المهدد للتماسك المجتمعي، على أن تفعل إسرائيل ما بوسعها لتبقيه داخل عباءةِ حجمٍ تتحقق من خلاله هذه الغاية السايكولوجية.


ورغم أن إسرائيل تعلم جيدا أن حزبَ الله لن يطلقَ عليها رصاصةً واحدة لو هي انسحبت من مزارع شبعا، لأن ذلك سيعطيها كلَّ المبررات لاستخدام أشد أنواع الثأر ضد لبنان، بما يعني أنها لو كانت تقلق فعلا على أمن الإسرائيليين من وجوده المسلح، لانسحبت من تلك المزارع عديمة القيمة والتي لا تمنحها أيَّ ميزة إستراتيجية لينتهيَ الأمر..


ورغم أنها تعلم أيضا أن حزبَ الله سيواجه أزمةَ مشروعية داخل الساحة السياسية اللبنانية لو هي فعلت ذلك، أي لو انسحبت من "شبعا"، أزمة يمكنها أن تهدد وجودَه وبقاءَه بشكله الحالي، مادام لا يستطيع تبرير انفصال ترسانته العسكرية عن الجيش اللبناني النظامي إلا بمقاومة عدو ما يزال يحتل الأرض، بما يعني أن انسحابَها من تلك المزارع سيحاصر الحزب بالشرعية اللبنانية الداخلية ذاتها، ما يسبِّب له مأزقا ليس من السهل تجاوزه بدون حل الحزب عسكريا، أو إعادة إنتاج مشروعياته بشكل قد يفقده الكثير من قوته التي تكمن في وضعه الحالي في مشروعية مقاومته للاحتلال الإسرائيلي للبنان..


ورغم أن إسرائيل تعلم جيدا أيضا، أن سوريا الأسد لن تحاربَها، ولن تستطيع بالتالي الاستفادة من وجود حزب الله ومن ترسانته، كقوات أنصار مفترضة تدعم القوات السورية من خلف قوات العدو في حربٍ بين الدولتين لن تنشب، مع أن هذه الفرضية في ذاتها تتطلب مشروعية جديدة لحزب الله غير مشروعية المقاومة لو انسحبت إسرائيل من كامل الأراضي اللبنانية، لأن إسرائيل هذه تعلم أن النظام السوري لن يكون بحاجة لهذا الوكيل القتالي، إلا من خلال قيامه بدور الوكالة عبر حيثيات صراع تتعلق بالساحة اللبنانية ذاتها، بحيث تفقد هذه الوكالة أيَّ قيمة لها في حال الانسحاب مما تبقى من الأراضي اللبنانية المحتلة..


نقول.. رغم كل ذلك فإن عدم تعريض حزب الله لمخاطر الانتهاء كقوة مُهَدِّدة للأمن الإسرائيلي، دون أن تكون قادرة على تهديد الوجود والمصير الإسرائيلي ذاته، كان هو الأولى في الإستراتيجيات الإسرائيلية.


ومن هنا فإننا ندعو إلى عدم المبالغة في تصوير أهمية وإستراتيجية وقدسية المقاومة "حزب الله" – هذا إن كات قد بقيت له قداسة بعد تدخله المشين جانب القوات النظامية السورية لقتل السوريين في بادة "القصير" وفي غير بلدة "القصير" – بشكلٍ يتمُّ معه تزوير الحقيقة وافتراض الممانعة في النظام السوري لمجرد أنه يدعم مقاومةً، ما تزال إسرائيل نفسها غير حريصة على تغييبها عن الساحة بشكل نهائي، إلا ضمن ظروف خاصة وذلك لاعتبارات علمية لا يفهمها إلا علماء النفس والفلاسفة وخبراء السايكولوجيا. فيما لا يفهم منها غيرهم شيئا على الإطلاق.


وبالتالي فإننا نستطيع التأكيد على أن حزب الله الذي تستطيع شطبه من الساحة السياسية كلها مبادرة إسرائيلية تتعلق بما تبقى من الأراضي اللبنانية المحتلة، لا يمكنه أن يكون ولا بأيِّ حال بندا من بنود الأجندات والتحولات التي تحدث في سوريا وفي الإقليم.


ولا قيمة حقيقية لذلك الردِّ الذي ينطوي على مزعم أن إسرائيل لا تريد الخروجَ من مزارع شبعا، كي لا تفقد المناورة على الجبهة السورية، لأنها تريد أن يكون الحل على الجبهتين اللبنانية والسورية ضمن حزمة واحدة، لأن سياسة إسرائيل هي في الأصل عقد الاتفاقيات المنفردة مع كل دولة على حده. كما أنه لا قيمة لذلك الردِّ الذي ينطوي على مزعم أن اللبنانيين حتى لو انسحبت إسرائيل من شبعا، لن يتبرعوا بعقد اتفاقية سلام منفردة مع إسرائيل تكون منفصلة عن الحل على الجبهة السورية، لأن اللبنانيين ليس لهم رأي في هذا الموضوع من حيث المبدأ، ولأن الرأي هو رأي سوريا أولا وآخرا. وبالتالي فإن إسرائيل عندما تقرر البتَّ في مزارع شبعا، فإنها تعرف أن الصفقة بهذا الشأن يجب أن تعقد مع سوريا لا مع لبنان، وبالتالي لترتيب وضع الترسانة السورية وليس ترسانة حزب الله.


إن على هؤلاء الذين يظنون أن العالم قام ولم يقعد ضد سوريا، وأن الصهيونية والإمبريالية تتآمران عليها، لأنها تدعم "حزب الله" ذلك الدعم الذي لا يخرجه عن كونه ورقة سورية، في الوقت الذي تثبت كل الوقائع أن حزب الله يمكن التخلص منه سياسيا دونما حاجة إلى عمليات عسكرية تدرك إسرائيل قبل غيرها أنها لن تؤدي إلى القضاء عليه.. نقول.. إن على هؤلاء أن يتعلموا ألف باء السياسة، وأبجديات ما يحدث في المنطقة، قبل التصدي لمسائل مصيرية وحساسة كالذي يحدث في سوريا، بتلك الآراء والمواقف والرؤى العاجزة عن تقديم تفسير متماسك حتى للمصطلحات والمفاهيم التي يستخدمونها وعلى رأسها مفهوم "الممانعة" ذاته.


المعنى الحقيقي للممانعة السورية هو أنها ممانعة بالوكالة لحساب إيران فقط لا غير..


والآن، بعد كل هذا التحليل..


فما لا شك فيه أن الممانعة التي تعادَى لأجلها سوريا من قبلِ الصهيونية والإمبريالية ومن ورائهما الوظيفية العربية، ليست هي تلك المتعلقة بالشأن الإسرائيلي في بعده التقليدي الذي نعرفه جميعا، والمتمثل في مقاومة الاحتلال، والعمل على تحرير الأرض المحتلة، ورفد مشروع التحرير بعناصر القوة، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وتجسيد هوية الشعب الفلسطيني.. إلخ.. فكل ما أوردناه من معلومات وحقائق وتحليلات يثبت ذلك بلا أدنى شك. وإذن، فما هو جوهر هذه الممانعة التي تُعادَى لأجلها سوريا (؟!)
مادام الصلح بين سوريا وإسرائيل، ومادامت مقاومة إسرائيل بسبب احتلالها للجولان ولجنوب لبنان، ومادام حزب الله كنموذج من نماذج المقاومة، ومادامت حماس كنموذج آخر من نماذجها، أمورا ليست هي التي تقف وراء جوهر السيرورة في سوريا أو في الإقليم بسبب تداعيات الحالة السورية، وهو ما تبين لنا بوضوح في تحليلنا السابق. فما هو على وجه الحقيقة جوهر تلك السيرورة (؟!)


إن الإقليم بدأ يشهد تحولات عميقةً منذ سقوط نظام الشاه في إيران، وتجلِّي النهج الإيراني الجديد متمثلا في إستراتيجية الاستقلال عن الفضاء الإمبراطوري الأميركي، وفي العمل على تقاسم النفوذ فعليا في الإقليم مع القوى النافذة فيه، والتي على رأسها "إسرائيل"، والتي من بينها "العراق" سابقا و"تركيا" حاليا، والتي لم تكن "سوريا" من بينها على الإطلاق، بسبب افتقارها رغم حساسية ودقة وضعها الجيوسياسي لمواصفات الدولة النافذة إقليميا.


وجد رواد النزعة الإمبراطورية الأميركية ممثلين بالدرجة الأولى بالمحافظين الجدد الذين تجسَّدوا سياسيا في أول إدارة فاعلة على هذا الصعيد، هي إدارة الرئيس الجمهوري "رونالد ريغن"، وجد هؤلاء أنفسهم أمام واقع إقليمي تدور من مُكَوِّناته دولتان قويتان في فلك الفضاء الإمبراطوري الأميركي، هما "تركيا" و"إسرائيل"، فيما تدور من مُكَوِّناته دولتان أخريان خارج أفلاك ذلك الفضاء الإمبراطوري، دولتان إن لم تكونا قويتين بالفعل مع بداية تلك الحقبة، فهما مشروعا دولتين أكثر من قويتين، هما "إيران" و"العراق".


المفارقة العجيبة التي ساعدت المشروع الإمبراطوري الأميركي على عدم التضرر كثيرا من هذا الوضع المربك الذي فرضته على ذلك المشروع كلٌّ من "إيران" و"العراق"، أن هاتين الدولتين كانتا متنافرتين، فبدأت كل منهما مشروعَها الإقليمي وهي على تناقض تام وكامل مع الدولة الأخرى، فكان صراع كلُّ واحدة منهما مع الأخرى جزءا من مشروعها الإقليمي الخاص بها، خلافا للدولتين الأخريين "تركيا" و"إسرائيل" اللتين لم تطفُ على سطح واقعهما وعلاقاتهما أيُّ منغصات من النوع الذي قد يضر بكونهما تدوران في فلك فضاء المشروع الإمبراطوري الأميركي ككل. كانت القضية الفلسطينية، وكان الموقف الراديكالي من المشروع الصهيوني، هما الحاضنتين السياسيتين اللتين استخدمهما الطرفان لتقوية مواقفهما أمام كل القوى الداخلية والإقليمية في الصراع الدامي الذي نشب بينهما واستمر 8 سنوات، للتغطية على المبررات القومية "الفارسية" من جهة، و"العربية" من جهة أخرى كجوهر أعمق لذلك الصراع.


وبالتالي، وأمام عدم الخلاف بين أيِّ عربيين أو مسلمين على القضية الفلسطينية، وعلى الموقف من المشروع الصهيوني، غدا الموقف من هذه الدولة أو من تلك، في هذا الصراع أو في ذاك، يتحدد بناء على بوصلة القرب أو البعد، من تلك القضية ومن هذا المشروع. ولهذه الأسباب تحديدا، فقد النظام السوري البعثي الأسدي مزاياه التي كان يتاجر بها على صعيد "فلسطين" و"إسرائيل" و"المقاومة".. إلخ.. لأنه أصبح معنيا بتحديد موقفه من الصراع الدائر على الجبهة الشرقية بين دولتين قويتين جدا تتاجر كل منها – صدقا أو كذبا – بما كان مساحة خاصة به وحده يلعب فيها كيف يشاء.. وهو – أي النظام السوري الأسدي – كان معنيا بتحديد مواقفه بشكل لا يتناقض مع ادعاءاته القومية من جهة، ومع ادعاءاته بشأن إسرائيل وفلسطين من جهة أخرى.


راحت مواقع النظام السوري الأسدي في الأوساط الشعبية العربية تتآكل مع كل يوم يمر في عمر الصراع بين العراق وإيران، لأن الشعوب العربية إذا كانت قد التبست عليها الأمور من الموقف السوري المعادي للعراق في بداية الأمر بسبب البريق الإسلامي الذي كانت تحظى به إيران في بداية عهدها، وبسبب ظهور الحرب وكأنها بسبب اعتداء عراقي على إيران، فتفهمت تلك الشعوب موقف البعث السوري المتناقض مع البعث العراقي، فإن تطور الموقف الشعبي العربي خاصة بعد إبداء العراق استعداده لإنهاء الحرب وبدء التفاوض فورا رغم أنه كان هو المنتصر، ورفض إيران لذلك، ليصبح موقفا أكثر تعاطفا مع الجانب العراقي، أفقد الموقف السوري الذي أصر على البقاء مساندا لإيران رغم كل شيء، كل مواقعه الشعبية العربية.


انتهت الحرب بين الدولتين بواقعٍ كشف عن تضخمٍ في الجانب العراقي عسكريا، وما يكاد يكون شبه انهيار عسكري في الجانب الإيراني. أي أن المشروع الإمبراطوري الأميركي بدا له أنه تخلص من إحدى الدولتين وما بقي عليه إلا أن يعمل على التخلص من الدولة الثانية، كي تُرسَم خرائط الإقليم وفق ما تفرضه متطلبات الفضاء الإمبراطوري الأميركي المستهدف. فكانت السنوات الخمس عشرة التي تلت انتهاء تلك الحرب هي سنوات التفرغ للعراق حتى انهار ودار في فلك الفضاء الأميركي نهائيا.


استفاد الذكاء الإيراني مما يدور حوله، فتعاملت إيران سياسيا بشكل براجماتي بالغ الدهاء، لتتمكن من فرض نفسها مجددا طرفا إقليميا فاعلا فرض أجنداته على الولايات المتحدة، لتعود من جديد القوة الإقليمية الثالثة التي ما فتئت تبعث برسائل إلى الغول الأميركي مفادها: "أن الإقليم الشرق أوسطي لا يمكن لأحد أن يرسم مستقبله، أو يعيد تلوين خرائطه بدون اللمسة الإيرانية المتناغمة مع مصالح إيران، التي تصر على أن يكون الإقليم أقليما ثلاثي النفوذ يقوم على القوائم الثلاث "إيران" و"تركيا" و"إسرائيل"، وليس على قائمتين فقط هما "تركيا" و"إسرائيل".


أثبت النظام السوري الأسدي بمشاركته في مؤتمر مدريد بعد حرب الخليج الثانية أو ما سمي بـ "حرب الكويت"، عقب مشاركته في التحالف الدولي ضد العراق، وإن يكن صوريا، أنه لا يعترض على أن يكون الفضاء الأميركي هو حاضنة الخرائط المقبلة لهذا الإقليم فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي. لكن العشرين سنة الأخيرة التي تلت تلك الحرب ومن ثمَّ ذلك المؤتمر بمختلف تطوراتها، جعلت ذلك النظام يتحول إلى ورقة مهمة في الأجندة الإيرانية الإقليمية التي راح جميع المتنافسين فيها يتاجرون بالقضية الفلسطينية ومكوناتها للحظوة بمواقع متقدمة في خرائط الإقليم المرتقبة. ومن هذه النقطة المركزية تنطلق الأهمية الجيوسياسية الإقليمية لسوريا تحت حكم النظام البعثي الأسدي.


إن إيران بتحالفها مع سوريا بكل الثقل الطبيعي لسوريا في الإقليم العربي المشرقي، يجعلها قادرة على عدم التنازل عن مطالبها الإقليمية في ولائم تقاسم النفوذ في الإقليم مع كلٍّ من إسرائيل وتركيا. أي أن الممانعة التي تجسِّدها "سوريا البعث الأسدي" تتمثل في قدرتها على تقوية الموقف الإيراني أو إضعافه في معركة تقاسم النفوذ الإقليمي.


لم تعد الولايات المتحدة معنية بالقضاء على إيران وتحطيمها بالصورة التي حدثت مع العراق، لأن هذا أمر غير مقدور عليه من النواحي الإستراتيجية، ولأن أيَّ عمل عسكري من أيِّ نوع في ظل الطبيعة الحساسة لإيران نفطيا وعسكريا.. إلخ، لن يحقق أهدافه، ولن يخرج منه الأميركيون إلا بتخفيف المطالب الإيرانية في معادلات الهيمنة المقبلة على الإقليم، دون ضمان نتائجه، وليس بإخراج إيران من اللعبة نهائيا كما تم إخراج العراق سابقا، بسبب اختلاف الظروف والملابسات بين الحالتين. ومن هنا، ومادام المُرْتَجى من أيِّ تغييرات إقليمية يتم السعي إليها، في اتجاه تحجيم إيران، لن يتحققَ إلا في اتجاه تحجيم مطالبها وليس في اتجاه إلغاء تلك المطالب وإزاحتها نهائيا، فإن أنجع الطرق لتحقيق المراد هو إضعاف الحلقة السورية "الممانعة إيرانيا"، لضمان معادلة إقليمية لن تحصل فيها إيران على أكثر مما يحتمله الفضاء الإمبراطوري الإقليمي، ضمانا لبقاء كل من تركيا وإسرائيل في وضعيهما الطبيعيين في بنية ذلك الفضاء.


ولأن إضعاف الحلقة السورية بمواجهاتٍ مباشرة من قبل إسرائيل مع القوة العسكرية السورية ما كان ليتم، مادامت سوريا الأسد أصلا لا تقاتل إلا بالوكالة عبر كل من "حزب الله" و"حماس"، ومادامت سياساتها لا تمثل خطرا على جبهة الجولان بحكم إستراتيجيتها في توجيه الصراع عبر الركائز الست التي أشرنا إليها فيما مضى، ومادامت تقاليد وأعراف الأربعين سنة الماضية، جعلت إسرائيل نفسَها لا تملك أيَّ مبررات لخوض صراع آمن ضد سوريا، لا بسبب قوة سوريا ذاتها، وإن كانت هذه القوة عنصرا مهما، ولكن بسبب أن سوريا هي المحطة الأخيرة المتبقية في مسار الصراع العربي الإسرائيلي، والتي لو انفرطَ عقدُها بشكل تراجيدي خارج نطاق الأطر السياسية، فإن كل شيء سينقلب في الإقليم، ما يستدعي الحفاظ على عناصر الإستراتيجية السورية التاريخية ذاتها في إدارة الصراع قائمة كما هي دون المساس بها..


نقول.. بسبب أن اللجوء إلى إضعاف الحلقة السورية، بالشكل الصدامي، يعدُّ أمرا غير صائب إستراتيجيا من المنظورين الأميركي والإسرائيلي على حد سواء، فقد كانت هذه الحلقة، عقدةً مفصلية في مواجهة تلك الأجندة في ظل قناعة الولايات المتحدة بضرورة التفكير ألف مرة قبل اتخاذ أيِّ قرار بالحسم مع إيران عسكريا. وهو ما أوقع السياسة الأميركية والإسرائيلية في مأزق حقيقي، فلا هما قادرتان على إضعاف الأجندة الإيرانية بمواجهةٍ مباشرة مع إيران، في ظل تقلص الهيمنة الأميركية على مجلس الأمن بشأن القرارات المتعلقة بخوض الحروب الإقليمية والتدخلات العسكرية هنا وهناك، وفي ظل عدم قدرتها على المبادرة بصدامات عسكرية غير مسنودة عالميا بعد تجارب كل من أفغانستان والعراق المريرتين. ولا هما قادرتان على إضعاف سوريا بالصدام المباشر معها لانعدام كلِّ المبررات الدافعة باتجاه ذلك، فضلا عن الأسباب ذاتها المتعلقة بعجزهما عن الفعل إزاء إيران نفسها.
أما الآن وقد تأكدت استحالة انتصار أحد الطرفين المتنازعين في سوريا على الآخر انتصارا حاسما عبر الخيار العسكري. وبعد أن تغيرت بشكل واضح مراكز القوى في إيران على نحوٍ أوصلَ إلى السلطة السياسية الفريق الذي يعتنق عقيدة تخفيف حدَّة الصدام مع الغرب فيما يتعلق بالملفات الخاصة بالمصالح الإيرانية في الإقليم، وعلى رأسها الملف النووي، وملف تقاسم النفوذ، والتدخل في الدول الخليجية.. إلخ. فقد تقلَّصَت أهمية النظام السوري "الممانع إيرانيا"، وآن الأوان ليتحولَ هذا النظام إلى نظام قابل للتكيُّف مع الإستراتيجيات الجديدة للدولة الإيرانية ومع خياراتها الإقليمية.


وهذه رسالة وصلت بوضوح إلى كل من الروس والأميركان والأوربيين، ومن ورائهم إلى الكتل الوظيفية الخليجية. فلم يعد مهما من هذا الباب أن يستمرَّ النظام السوري في القتال نيابة عن إيران داخل سوريا، كما أنه لم يعد مجديا أن تستمر المعارضة المسلحة السورية في القتال نيابة عن الخليجيين والأتراك والناتو، مادموا سيتوصلون إلى حلول مع إيران تفقدَ فيها سوريا قدرتَها على تقوية الموقف الإيراني الذي لم يعد بحاجة حقيقية لمثل هذه التقوية مادامت قياداته الجديدة تمتلك حلولها الخاصة للملفات العالقة مع الغرب ومع الخليجيين بفعل دبلوماسي سياسي، يقلص المكاسب المتوخاة، لكنه يخفف الخسائر المتوقعة من كل أشكال المواجهة والصدام، لأجل التفرغ للتعاطي مع المشكلات الإيرانية الداخلية وما أكثرها (!!!)


إن حادثة "الغوطة الشرقية"، وتحركات القطع الحربية الأميركية في المتوسط، واجتماعات رؤساء هيئات أركان "الناتو الجديد" في عمان، ومواقف الروس المتراجعة في دعمها للنظام السوري في تصريحات "لافروف" الأخيرة، واللهجة الإيرانية التي تغيرت حدتها، جاءت كلها لتقول للنظام السوري بكل وضوح:


"إن الجميع بما في ذلك إيران، قد وافقوا على أن الحلَّ يجب أن يكون سياسيا، لن تكون فيه الخاسر الوحيد، ولن تكون فيه الكاسب الوحيد، فاستعد لقبول هذه المعادلة، وإلا فستحاربنا جميعا وحدك. إن الغطاء الروسي والإيراني سيدعمانك إذا اخترت الحل السياسي، ولن يدعماك في أيِّ حل عسكري. أي أن أيَّ ضربة قد توجه إليك ستضطر لمواجهتها وحدك، لأنها ليست ضربة تستهدف إسقاطك بل إجبارك على الجلوس على طاولة الحل السياسي الذي وافقنا عليه جميعا لتكون الدولة السورية القادمة دولة تتفقون عليها في ضوء ما وصلت إليه مستويات نزاعاتكم الداخلية، ولكن بشكل آخر ليس هو هذه الحرب. أما ورقة "الجوكر" فلا تنشغلنَّ بها لا أنت ولا أحد غيرك، لأن إيران نفسها قبلت بفكرة تحجيمها، فقد أدت دورها وانتهى أمرها، فيكفيها من العمر ثلاثين عاما. إن ثورة الفلسطينيين التي تعتبر بكلِّ المقاييس أعظم منها وأهم، شاخت وهرمت وانهارت، قبل أن تصل إلى ذلك العمر المتقدم، ولم تعش سوى ما يقارب نصفه فقط" (!!)