الرحلة إلى الدار الآخرة

--------------------------------------------------------------------------------




الإوديسا ...لهوميروس (1)

سأحاول الحديث عن الرحلة إلى الدار الآخرة ، هذا المجهول الذى أتعب العقل البشرى وأشقاه ولايزال .فمنذ وجد الإنسان على الأرض وهو يبحث وينقب عن معنى الحياة وعن معنى الموت ، صار بحثه الدؤوب ومحصلة حياته ، ولم تهدأ روحه القلقة بعد إلى الركون إلى حل لتلك المعضلة الأبدية 0وتؤكد الملاحم بدءً من الأوديسا والإلياذة ، على سعى الإنسان إلى إختراق ستر الغيب والنفاذ إلى المجهول ، بل أزعم لنفسى أن حضارة الإنسان هى قهر الموت والصمود فى وجه الفناء المتربص به فى كل لحظة ، إنه النضال السرمدى ...

وإذا ما تأملنا الحضارة المصرية القديمة لحسبناها حضارة مقاومة الموت والسعى للخلود ،وكافة الحضارات تسير فى هذا السبيل وبلا إنقطاع ، عساها تصل لحل يشفى الثورة المتأججة بالإنسان .....إلى أين تذهب أرواح الموتى ???وماذا بعد الموت ??????

إن وثبات العقل البشرى لم تهد أ ولن تهدأ.

الحيرة واستشراف المجهول والبحث عن حلول ، الهاجس المدوى و السؤال الذى يظل بلا إجابة ?????


ولنبدأ بالمحاولة .....خالد الذكر هوميروس وملحمته (الأوديسا) وهى أقدم نص أدبى جاء فيه ذكر العالم الآخر ووصف الجحيم والجنة وما بينهما من مطهر ، والأوديسا كما أثبتت الدراسات قد نظمت بين عام 1000و800قبل الميلاد ، وفى هذه الملحمة يبدأ هوميروس بالبطل {أوديسيوس}ومغامراته المتعددة وزيارته للجنة والجحيم ،بعد نجاته ورجاله من بلاد العمالقة اللستروجون ثم جزيرة ايايا حيث كانت تحكم الملكة الساحرة سيرسا اوكيركا ذات الضفائر الشقراء بنت هليوس رب الشمس من برسا بنت اوقيانوس رب البحر ، وكانت الجماعة فد هدها الجوع والعطش ومشرفة على الهلاك ، وسعوا إلى الوصول لقصر الملكة ، فوجدوا حول القصر السباع والذئاب تتجول فى الأجمة وقد سحرتها هذه الساحرة بالعقاقير ولكنها تتمسح بهم وكأنها الكلاب المستأنسة ، ودخلوا القصر وقد استقبلتهم وهى تغنى وأدخلتهم إلى أجنحة القصر الباذخة والأطعمة الشهية ، وسرعان ما تحولوا إلى قطيع من الخنازير ومع إحتفاظهم بعقولهم البشرية ، وعندما عرف أوديسيوس بما حدث لرجاله ، ذهب فى كامل سلاحه إلى القصر لإنقاذ إخوانه ، وفيما هو يخترق الأدغال والوديان المقدسة ويقترب من باب القصر استوقفه الرب هرميز ذو القضيب الذهبى محذرا إياه قائلا :
مامن أحد يذهب إلى قصر هذه الساحرة ويعود أبدا ، وسلحه بعشب الفضيلة الذى يبطل مفعول سحر الساحرة ، ويدخل أوديسيوس القصر ويقابل الساحرة وتصنع معه ما صنعته مع إخوانه ولكن يسلم من سحرها بفضل العشب ، وتؤكد له على البر بالقسم الذى أخذته على نفسها أن تعيده ورجاله للعودة لو طنهم وتقول له ::""أى أوديسيوس ، يابن لايرتيس وسبط زيوس ياصاحب الحيل الكثيرة ، لا بقاء لك الآن فى دارى بعد اليوم على غير رغبة منك 0ولكن لابد لك أولا من رحلة أخرى تقطعها حتى تبلغ الدار الأخرى دار هاديس وبرسيفون الرهيبة ، حيث تسكن أرواح الموتى ، لتبحث فبها عن روح تيرسياس بن طيبة ، العراف الأعمى الذى لايزال يحتفظ بعقله ، فقد وهبته برسيفون الحكمة حتى فى الموت ليكون وحده بين الموتى رب الفهم الثاقب ، أما بقية الأرواح فهى تموج كالظلال ""فلما سمع أوديسيوس هذا الكلام بكى بكاءامرا واستبد به الشقاء حتى تمنى الموت ، وسأل الساحرة :ومنذ الذى يكون دليلى إلى الآخرة ????وتجيب الساحرة لن تجد دليلا ....."ويبدأ أوديسيوس رحلته فى الجحيم إلى هاديس مملكة الموتى عالم الظلمات والعالم السفلى ويرى الأرواح المحتشدة الصارخة والضارعة ويقابل أمه والتى تتعرف عليه ، ورأى أجاممنون سيد الأغريق الأعظم المظفر فى حرب طروادة ، ورأى سيزيف وهو يتعذب عذابا أليما وهو يمسك بحجر هائل يدفعه إلى أعلى فيتدحرج به الحجر إلى السفح فيعيد الكرة إلى مالا نهاية وهو يلهث وينضح عرقا ، وقدتعفر وجهه......ويقابل هرقل الجبار والكثير من رجالات عصره .....



هكذا كانت البداية الهوميرية لمحاولة الإجابة عن السؤال المتجدد ، عن عالم أرواح الموتى ، وماذا بعد الموت ....وتأتى بعد ذلك مسرحيات أوسخليوس ،وتتواصل الكتابات عن عالم الموتى .


















الإنيادة .......لفرجيليوس (2)


تعتبر الإنيادة من الأعمال الملحمية الراقية ومن تراث الإنسانية الخالد ، وشاعرها فرجيليوس أمير الشعر اللآتينى والمولود فى اكتوبر عام 70 قبل الميلاد ،
وكم كنت سعيداً سعادة غامرة فى بداية الصبا ،أن أطلب وبإلحاح شديد من والدى رحمة الله عليه ،هذه الملاحم الخالدة ،وشاءت الظروف آنذاك أن أصدرت الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر (الهيئة المصرية العامة للكتاب) حالياً سنة 1970م ،الجزء الأول من الإنيادة والذى ضم بين دفتيه ستة كتب ،وفى سنة 1977 م ،صدر الجزء الثانى الذى يحتوى على باقى الملحمة ستة كتب ،إذ أن الملحمة إثنى عشر كتاباً،بترجمة ممتازة ورصينة ،للأساتذة كمال ممدوح حمدى ود. عبدالمعطى شعراوى وآخرين ،وقام على المراجعة والتقديم د.عبدالمعطى شعراوى .

ويتناول فرجيليوس فى ملحمته التاريخ الرومانى ، وبطلها آينياس بطل طروادة ... و بعد سقوطها وهروبه منها بأمر الآلهة ومعه والده أنخيسيس وإبنه أسكانيوس وآلهة الببناتيس الطروادية ، تبدأ هبوب عاصفة ورياح قاصمة ألقت بسفن آينياس على الساحل الأفريقى واستقبال الملكة ديدو له ولمن معه وتعلقها به وحبها له ومحاولة إرغامه على الزواج بها والعيش معها ، لكن هناك من الأمور ما تستدعى النضال والمقاتلة ،وتشييد طروادة الجديدة ، ولكن آينياس يترك كل هذا النعيم ويرحل ولم تجد الملكة ديدو مفرا سوى الإنتحار يأسا من رحيل حبيبها ومعشوقها .

وتستمر الإنيادة فى مواصلة قص رحلة الطروادى الشريد آينياس وحلمه بطروادة الجديدة ، وفى الكتاب السادس من الملحمة، وبعد رسو أسطول آينياس فى كوماى فى إيطاليا تقوده الكاهنة السيبيلينية بعد أن تزوده بالغصن الذهبى السحرى حيث يدخل إلى العالم السفلى ،عالم الآخرة ، عند بحيرة أفيرنوس ، وهناك يلتقى بالكثيرين ومنهم حبيبته الملكة ديدو والتى إنتحرت حزنا ويأسا من فراقه لها وعدم زواجه منها ،ويلتقى بوالده فى الإليسيوم مقام السعداء والمباركين ، ويطلعه أبوه على الأرواح التى ستولد يوما فى روما ثم تنمو وتكبر وتصبح رجالات روما العظام،بدءا من تأسيس المدينة وحتى تاريخ عصر أوغسطس ....

وحين قرأت الإنيادة وقت صدورها ،ومشاعرى غضة تفيض حباً وولهاً والفوران العاطفى يجتاحنى ،كنت أهتز إهتزازاً عنيفاً مع قصة حب الملكة ديدو وإينياس بالكتاب الرابع ص202

وبص 223أذكر ما قالته الملكة ديدو وهى مقبلة على الموت:
( فليكتب عليه أن يستجدى المعونة ،مثقلا بالحرب وبأسلحة شعب جسور ،منفيا عن وطنه محروما من عناق أبنه يولوس،وأن يشهد بعينيه مصرع رجاله ،غير مأسوف عليهم،وأن لايستمتع بمملكته أوبرغبته فى الحياة _ بعد أن يستسلم تحت ضغط شروط مجحفة للصلح_بل يسقط صريعاً قبل الآوان،ويظل غير مقبور وسط الصحارى ،هذه كلماتى الأخيرة ،أنزف معها دمى ).

وفى معرض القول، لاأنسى ملحمة جلجاميش ، وكل الأعمال الأدبية والمسرحية التى تتحدث عن العالم السفلى ، عن العالم المجهول ،عن الدار الآخرة ، عن الجنة والنار ، عن العذاب والثواب ، عن الدركات السفلى من الجحيم وعن درجات السعادة والنعيم ، عن الخونة والقتلة ، وعن الشرفاء والأبطال ،عن الرفاهية فى العيش والتمتع بكل ما تشتهى الأنفس ، وعن أساليب العقاب وألوان العذاب
.




















يقول الأستاذ " توماس بلفنش " 1796 -1867 " : للفلاسفة عن الأساطير نظريات كثيرة :
أ - أن جميع الأساطير مشتقة من الكتب المنزلة ، وان تكن الحقائق الأصلية قد بدلت ، أو أخفيت معالمها فليس ديو كاليون الا اسما آخر من أسماء نوح ، كما أن هرقل هو نفسه شمشون وآريون هو يونان الخ .../ يقول السير والتر رالي في كتابه " تاريخ العالم " أن جوبال ، وثوبان ، وتوبال قابين هي الأسماء لمركيوري - أي هرمز اليوناني - وفلطان وأبوللو أرباب المراعي والحدادة والموسيقى - وأن التنين الذي كان يسهر على حراسة التفاحات الذهبية هو الأفعى التي خدعت حواء ، وثمة بلا شك طائفة من المتشابهات الي اتفق وقوعها في عصر واحد الا انها لا يمكن أن تشمل الأساطير كلها .
ب_ اما النظرية التاريخية فتقول أن أبطال الأساطير وآلهتها ما هي في أصلها الاّ أبطال البشر ، والقبائل البدوية القديمة ، والتي كلما جاء جيل وذهب آخر أضيفت اليها الزيادات والحواشي ، حتى ارتفع هؤلاء الأبطال في أذهان الناس الى مصاف الآلهة ، فايولوسaeolus رب الرياح مثلا ليس الا ملكا من ملوك الجزائر في البحر التيراني ، وقد حكم بالعدل وعلّمهم فنون السفر في البحر ومعرفة مهاب الريح وتقلبات الجو ونحو ذلك قدموس الذي تذكر الأساطير أنه زرع أسنان التنين فأنبتت جيلا من المحاربين المسلحين ، وما هو الاّ أحد المهاجرين الفينيقيين الذي نقل الى بلاد اليونان أحرف الهجاء وعلّمها للأهالي هناك ،فكان علمه القبس الأول للحضارة اليونانية .
ج- أما النظرية المجازية فتقول : أن جميع أساطير القدماء ليست الاّ رموزا ومجازات تنطوي على مغزى أدبي ، أو غاية دينية أو معنى فلسفي ، أو حقيقة تاريخية ... ثم انتهى ذلك كله ويمضي الزمن الى مادة أدبية صرفة في أذهان الناس ، فساتورن saturn هذا الهولة الذي يزدرد أبناءه
ان هو الا رمز للزمن الذي يسميه اليونان كرونوس cronos والزمن لا يعفي الدمار شيئا من آلاف الموجودات التي يأتي بها الوجود ، وهذه الفتاة " يو " ما هي الا رمز للقمر ، وما الوحش آرجوس الا رمز للسماء ذات البروج التي لا تفتأ تحرس القمر ... القمر المسكين الذي لا يفتأ بذرع السموات هائما لا يدري الى أين ينتهي ...
د- أما النظرية الطبيعية تقول : بأن العناصر الأربعة ( التراب والماء والهواء والنار ) كانت في الأزمان السحيقة أصل العبادات الأولى ، وأن الآلهة الرئيسية لم تكن الا رموزا ، لقوى الطبيعة ، ولم يكن أيسر من الانتقال من تجسيم العناصر الى تصوّر آلهة عليا مسيطرة على الظواهر الطبيعية . وهكذا تصورت قرائح اليونان المرحة أن كل شيء في هذا الوجود ... من شمس أو قمر أو نجم أو شجر أو نبع أو نهر ... يخضع لأله خاص به ، لا تراه الأعين وهو يرى كل شيء .
ولكل من هذه النظريات نصيب كبير من الصحة ،ويظهر أن كثيرا من تلك الأساطير كان مصدره رغبة الناس في تعليل أصول الخليقة ، فكانت هذه الأساطير ، ثم جاء الشعراء فأطنبوا في خصائص الأرباب ووصف قواهم وتصوير ملامحهم ... وبهذا فتح الميدان للفنانين من مثّالين ومصورين ، فأبدعوا في نحت التماثيل ، وتصوير الصور ، لأرباب الأولمب ، وكان أعظمهم جميعا المثّال العبقري الخالد ,
" فدياس " الذي نحت تمثال " زيوس " سيد الآلهة ، فكان آية الآيات في تماثيل اليونان القديمة .
ربما أطنبت في مساهمتي هذه ولكن الأمر قائم للحوار والمناقشة بين الاخوة / وشكرا لكما
أخي عبد الرؤوف النويهي على طرحك الذي أسعد قلبي ، والدكتور جمال لاهتمامه في الموضوع ، فهو موضوع فلسفي قبل كل شيء .
عن
عبد الرؤوف النويهي/هيام قبلان