1-
استراتجية اختيار العنوان القصصي الذي يختلف كل الإختلاف عن عنوان المقال ، أو القصيدة ، أو النص النثري ، فإن للعنونة القصصية قواعدها التي تشد عليها خيوط النص القصصي بداية من العنوان نفسه حتى نقطة النهاية ، فالعنوان القصصي لابد وأن
يمتاز بالتالي :
1
- المراوغة ، التي تساعد على إقامة الفكرة ولا تحرقها منذ لحظة البداية .
2- الإحتواء الخيالي (الأضداد ، التشبيهات المقلوبة )وذلك لعمل نوع من الومضة الإعلانية الجذابة لدى القارىء .
3- التجانس مع النص القصصي ، فلا يجوز أن يكون العنوان بعيداً كل البعد عن فكرة القصة الأساسية مثلاً ، وكذلك لا يجوز أن يكون العنوان أضعف من النص القصصي نفسه .
وإليكم مقال كتبه الناقد والمترجم والشاعر السوري (عابد اسماعيل) عن كتاب( في نظرية العنوان) لخالد حسين ، والمنشور بمجلة السفير اليوم 05/09/2007 - العدد 10792 :
عتبـة أم ملحـق أم مـداواة لجـرح فـي الكـلام؟
عابد اسماعيل
[size=4][align=justify]يمثّل العنوان نواة دلالية تؤسّس للنص، وتهبه مشروعية الوجود. منه تنطلق الشرارة الأولى لفعل القراءة، وبه تبدأ رحلة البحث عن المعنى. وبصفته بؤرة دائمة لتوليد الدلالات، يحدّد العنوان العلاقة بين القارئ والنص، فإما أن يجذبه إلى مداره، ويضرم فيه متعة التذوق، وإما أن يقصيه بعيداً، ويلغي عقد التفاوض الخفي معه. والعنوان، بما يمثله من بنية رحمية كامنة، لا يقل أهمية عن عتبات نصية أخرى، مثل المقدمة، والتمهيد، والإهداء، والاستهلال، التي لم يعد يُنظر إليها بوصفها عتبات مرافقة أو ملحقة أو محاذية، بل ركائز محورية ينهض عليها كلّ نص. وقد ظل العنوان طي الإهمال نقدياً، حتى انبلج فجر التفكيك، وبدأ يعيد الاعتبار لكلّ ما هو هامشي ومنسي ومنبوذ في العملية الإبداعية. فالعنوان للنص هو بمنزلة الاسم للكائن، لكونه يسمّي ويصف ما قد دُوّن، ويمنحه كينونته.
نظرية العنوان
في كتابه (في نظرية العنوان)، الصادر عن دار التكوين في دمشق (2007)، ينخرط الناقد السوري خالد حسين في ما يسمّيه مغامرة تأويلية في تفكيك أصول ظاهرة العنونة وتاريخها في الثقافة العربية، مركزاً على العلاقة الجدلية بين العنوان والنص، وكيف أنّ كل منهما يضيء الآخر ويفضي إليه. وتبدأ الدراسة بمدخل عام، مسهب، ينتظم فيه فصلان، في الأول يركز الباحث على إمكانية التأسيس لنظرية متكاملة لعلم العنونة، وفي الثاني يقدم استراتيجية منهجية للقراءة النصية، وهنا يعترف حسين بفضل دراسات نقدية سابقة، عربية وأجنبية، على بحثه، يذكر منها كتاب الناقد المصري محمد فكري الجزار بعنوان «العنوان وسيميوطيقيا الاتصال الأدبي ـ 1998» وكتاب الباحث المغربي عبد الفتاح الحجري بعنوان «عتبات النص، البنية والدلالةـ 1996»، فضلاً عن إضاءات الناقد الفرنسي جيرار جينيت النصية، ودراسته للعنوان الفرعي، والعناوين الداخلية، والمقدمات والملحقات والذيول والتقديم والفاتحة، وغير ذلك. من المدخل العام، ينتقل الناقد إلى معترك بحثه الأصلي، فيقسّمه إلى أبواب ثلاثة رئيسة، كل باب يتفرّع إلى فصول. في الباب الأول يدرس ظاهرة العنونة في الخطاب الشعري العربي، ويفرد فصولاً تطبيقية ثلاثة، يتحدّث في الأول عن قصيدة الشاعر رياض صالح الحسين «غرفة الشاعر» التي تفتتح مجموعته (وعل في الغابة)، ويدرس أهمية العنوان في كونه النواة التي تتناسل منها باقي نصوص الديوان، وفي الثاني يقدّم دراسة تفكيكية معمّقة لقصيدة محمود درويش «يطير الحمام»، عبر ربط عنوان القصيدة بحركتها الدلالية، وربط هذه الأخيرة بنص «نشيد الإنشاد»، والتركيز على تقنية تكرار العنوان في النص، وفي الفصل الثالث يدرس الناقد عنوان ديوان الشاعر سليم بركات (بالشباك ذاتها، بالثعالب التي تجرّها الريح)، حيث يمثل العنوان هنا تميمة أو تعويذة تغوي القارئ بالإقامة دوماً على تخوم الاستعارة. في الباب الثاني من الدراسة ينتقل الباحث إلى دراسة ظاهرة العنونة في الخطاب السردي العربي، ويتفرع هذا الباب إلى فصلين اثنين، في الأول يدرس الناقد ظاهرة العنونة في القصة القصيرة، ويتناول فيه خطاب العنونة في سرديات زكريا تامر، وفي الثاني ينتقل إلى الرواية، ويتتبع مسار العنونة من حدّ التسمية إلى حدّ النصية، وفيه يقدم قراءة نصية شاملة لرواية حيدر حيدر «وليمة لأعشاب البحر». في الباب الثالث والأخير، يدرس الناقد ظاهرة العنونة في الخطاب الدرامي العربي، ويكرس فصلين اثنين للموضوع، في الأول يدرس تحولات العنونة لدى سعد الله ونوس، وفي الثاني يأخذ مسرحية ونوس (ملحمة السراب) أنموذجاً للعنونة القائمة على الانزياح، وهي من النصوص الأخيرة لونوس التي عرفت كيف تتخلّص من ثقل الأيديولوجيا، وتركز على البعد الجمالي والرمزي للكتابة. ويختم الناقد بسلسلة من الإضاءات النقدية التي تلخّص أهم النتائج التي توصل إليها، مشهراً حرصه على عدم الركون إلى خاتمة نهائية.
إن خطورة العنونة، كما تبرزها دراسة خالد حسين، تكمن في كونها العتبة الأولى التي تشهد المفاوضات بين القارئ والنص. فالمعنى لا يكتمل إلا عبر تلك التسمية التي تطل على النص في هيئة عنوان معلق في الفراغ، وتهب المدوّن مشروعية البقاء. وتاريخ العنونة مرتبط بتاريخ الكلمة، يمثّله الانتقال من فضاء الصوت إلى فضاء الحرف، أو من الشفوية إلى الكتابية، التي جاءت لتنقذ المعنى من براثن النسيان. فالصوت يتلاشى في الهواء ويختفي، أما الحرف فيحفر نفسه فوق الصفحة البيضاء، ويفرض منطق المراجعة والاختلاف والمعاينة. وهنا جاءت الكتابة لتأسر الصوت في سياق لغوي ونحوي وتركيبي، وتجعله، بحسب دريدا، يتسم بالانحراف والإرجاء، أي إرجاء حضور المعنى، وغياب المتكلم أو المؤلّف. فالكتابة تتيح للصوت أن يستعيد تمركزه «ِوَُُكمَُّْىٍَّ» في سياق علاقة اختلافية تعيد دوماً إنتاج المعنى، على خلاف النص الشفوي الذي يمنح نفسه كلّياً لقارئه. وقد واكبت استراتيجية العنونة هذا التحول من الشفوي إلى الكتابي، من حيث أن النصوص العربية القديمة كالقصائد في الشعر الجاهلي مثلاً، كانت تفتقر للعنونة، وتنتشر سماعياً بين الناس، وتأخذ من المطلع أو حرف الروي مؤشراً على كينونتها، حتى جاء النص القرآني، ورسم خطاً فاصلاً بين الشفوي والكتابي. وفي هذا السياق يميز الناقد بين مراحل ثلاث للعنونة، أوّلها العنونة الشفاهية التي طغت على حقبة ما قبل التدوين، حيث شهدت مجد «اللغة ـ الصوت» واللجوء إلى التسمية غير المباشرة، فعاشت القصيدة العربية الكلاسيكية من دون عنوان، لكونها سليلة الحضور الصوتي، تلزمها علاقة المشافهة بين الشاعر والسامع، المتكئة أصلاً على «الإنشاد»، ما ألغى الحاجة إلى عنونة القصيدة. وثانيها العنونة الكتابية التي انتشرت بعد مرحلة التدوين، وتجلت في النص القرآني ذاته الذي افتتح عصر العنونة. وكان القرآن، الذي يشار إليه أيضاً بالكتاب، قد نقل الخطاب العربي من عصر القصيدة المتكئة على الإنشاد، إلى عصر النص المتكئ على الكتابة. وهنا يستنتج الناقد بأن النص القرآني أضحى المحرق المولدّ لحدَثَي القراءة والكتابة، فاتسم الزمن اللاحق، وخاصة العصر العباسي، بأنه زمن الكتابة والافتتان بالعنونة. وثالثها العنونة الطباعية التي تسم حالياً الكتابة الحديثة. وفي هذه المرحلة تم الإعلان عن طريقة مغايرة ومختلفة عن ثقافتي الكلام والكتاب، حيث الانتقال من عصر المخطوطة إلى عصر الكتاب المطبوع. وهكذا، مع الطباعة، قفزت العنونة هندسياً من بداية الكتاب، أو المخطوطة، إلى واجهة الكتاب، حيث الموطن الجديد: الغلاف. ودخلت العنونة الطباعية في تحالف سري مع الفن التشكيلي، مستفيدةً من تقنيات الخطّ والتلوين والمونتاج والهندسة.
حارس النص
ويؤكد الناقد حسين أن العنوان، وبعد مرحلة مخاض طويلة، أضحى حارساً للنص أو العتبة التي يجري على حافتها التفاوض إيذاناً بالدخول إلى ردهات النص ودهاليزه. أي أن المتن بات يحتاج إلى الهامش، والنص إلى العنوان، والأصل إلى الفرع، فالعنوان ليس مجرد أيقونة معلقة في فراغ النص، أو زخرفة برانية تضاف إلى هامش التدوين. بل يتسم العنوان بخاصية الانفصال والاتصال معاً. أي أنه يرتبط بالنص وينفصل عنه في الآن عينه. فالنص يظل فقيراً من دون تسمية، ناقصاً من دون عنونة. لكن العنوان ليس تابعاً للنص، أو عبداً له. وهو ليس مجرّد إضافة ثانوية، بل يأتي ليسدّ عوزاً كامناً. وكما يؤكّد ديريدا: «تفترض الزيادة المضافة إلى الشيء إكماله وإتمامه، لكنها تكشف في الآن ذاته عن نقص فيه، وهوة تأتي هي لتردمها». من هنا يأتي العنوان ليردم هوة في بنيان النص، ويداوي جرحاً في جسد الكلام. وكما يقول جان كوهين، ينال النص مشروعيته من العنوان، فوجوده مرهون بوجوده، وهو يقي الخطاب الأدبي من الاندثار. وهنا يستنتج الناقد حسين أنّ العنوان يمكن انتشاله من الخاصية الإلحاقية، التي تنبذه إلى فضاء الطارئ والإضافة والتتمة، وتعيد إليه نصّيته، التي تجعل منه نصاً آخر، محورياً، محكوماً بآليات التناص والاختلاف والانتشار «لisseminatioَ». أي أن العنوان يستحضر نصوصاً أخرى، ويدمج في ثناياه طبقات دلالية متعدّدة، يؤثر ويتأثّر بها. وعلى هذا الأساس، يثور العنوان على تاريخه، وينتفض على هامشيته. إن عناوين مثل «شهوة تتقدم في خرائط المادة» لأدونيس أو «طيش الياقوت» لسليم بركات، أو «يقين العطش» لإدوارد الخراط، وغيرها، ترمي القارئ في بحر متلاطم من الإحالات، بفضل ما تختزنه من تكثيف واقتصاد وإيحاء، وبما تقوم به من وظائف دلالية ورمزية تضيء نسيج النص ككل. وهنا يميز حسين بين وظائف عدّة للعنوان، منها الوظيفة القصدية التي تنبئ بقصد المؤلف وما ينطوي عليه ذلك من أحاسيس، والوظيفة التأثيرية التي تحدّد طبيعة العلاقة الإغوائية بين المرسل والمتــلقي، والوظيفة التفكيكية التي تسعى إلى تقــويض مفهوم خارجية العنوان، وأفضلية المتن على الهــامش، والوظيفة الإحالية القائمة على قوة العــنوان في استشراف واستبطان نصوص أخــرى، والوظيفة الشعرية التي تنسف العلاقة التقـليدية بين الدال والمدلول، وتركّز على الطاقة الرمزية للعنوان، حيث الدال لا يكف لحظة عن الانزلاق والتحوّل والانتشار.
إنّ دراسة الناقد خالد حسين، الشيّقة والمركّزة، تعيد الاعتبار للعنوان بصفته عتبة نصية مركزية تؤسس لفعل القراءة، وتحدّد الكينونة الدلالية للنص. وفي هذا السياق، تكتسب العنونة، شعرياً وسردياً ودرامياً، شرعيتها النصية، وتثور على قدرها كهامش منبوذ، ليصبح وجود النص مرتبطاً بوجود العنوان، في علاقة جدلية حية قوامها الاختلاف وليس التناقض.
]