السلام عليكم


عبد الرحمن سليمان
الشبكة العنكبوتية والمثقفون العرب


كان المثقفون العرب في الماضي قابعين في حبس القطرية الضيق الذي فُرض عليهم مثلما فرض على سائر المواطنين العرب. وكانت الصحافة القطرية الرديئة والمجلات الدورية المتفاوتة في الجودة المتنفسَ الوحيدَ للمُتَمَخْزِنِين منهم الذين كان يسمح لهم بالنشر ... وكانت صناعة الكتب عند العرب ـ ولا تزال ـ صناعةً تحكمها قوانين وأعراف لا تمت لصناعة الكتب المتحضرة بصلة مهما كانت ضئيلة. إنها صناعة قابعة بين مطرقة الرقابة الحكومية على الكُتّاب وما يكتبون، وسندان دور النشر التي لا تقيم لغير الربح المادي وزناً مهما كان.

وكان من المتوقع أن تحدث الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) ثورة لدى أمة عانى كتابها أكثر من غيرهم من رقابة الدولة الصارمة عليهم وعلى فكرهم، ومن استغلال مافيا الكتب لهم. لكن هذه الثورة لم تقم بعد. إنها حقيقة مرة أن نرى أن الشبكة العنكبوتية أحدثت في كل اللغات والثقافات والبلاد المتحضرة ثورة معرفية إلا في بلادنا. وقد يعود السبب في ذلك لأسباب كثيرة أهمها حداثة عهد أكثر العرب بالشبكة العنكبوتية ـ لأن بعض الأنظمة العربية كان يمنعها حتى وقت قليل مضى ـ والرقابة السياسية المضروبة عليها التي تجعل المثقفين الجادين يعدون للألف قبل نشر شيء من أعمالهم عليها، والحالة الاقتصادية التي تحول بين الكثير من العرب وبين عالم الشبكة العنكبوتية، وأخيراً الجهل المستشري في الأمة. فبدلاً من إحداث ثورة معرفية في العصر الرقمي، أظهرت الشبكة العنكبوتية العيوب المزمنة في الثقافة العربية وفي المثقفين العرب على السواء، وكشفت عن قدراتهم الحقيقية، إيجابيةً كانت أم سلبيةً، وعرَّت ـ في كثير من الأحيان ـ أكثرهم!

وإذا كانت الشبكة العنكبوتية عرَّت المثقفين العرب الذين يستعملونها ـ لأن هنالك طائفة كبيرة من المثقفين العرب لم تدخل عالم الشبكة بعد ـ فإن المنتديات التفاعلية التي يُتواصل عليها هنا وهناك عرَّت، أكثر من غيرها من قنوات الشبكة مثقفينا، لأن تلك المنتديات أصبحت بمثابة المرآة التي تكشف للجمهور المستعمل للإنترنت مواطن الحسن والقبح في وجوه المثقفين العرب وفي الثقافة العربية على السواء، وبوضوح لا يحتمل محاولات التستر عليه تحت مسميات أخرى، مهما كانت. إن المنتديات التفاعلية، على الرغم من أهميتها، تبقى أقل قنوات الشبكة العنكبوتية فائدة في نشر المعرفة، مع ذلك أصبحت تلك المنتديات أكثر قنوات الشبكة العنكبوتية استعمالاً عند العرب، وغدت ـ أكثر من غيرها من القنوات ـ مجالاً خصباً للمثقفين العرب لتفريغ ما بجوفهم من إبداع وإحباط على السواء وبدقة ما كانت تتوفر لهم في الماضي بسبب عدم وجود قناة مثل الشبكة العنكبوتية تضمن للمُتَمَخْزِنِين منهم الاستمرار في ظهورهم النرجسي، وللخائفين منهم الاختفاء خلف الأقنعة والأسماء المستعارة. لقد كشفت الشبكة العنكبوتية عموماً والمنتديات العربية التفاعلية خصوصاً عن مدى تأثير نصف قرن من الدكتاتورية العربية على أذهان المثقفين العرب، وأبرزت عجزهم التام عن التخلص من عقلية الخوف والتصاغر والمصالح الشخصية، وعن المواجهة، سواء مواجهة جبهات التخلف والاستبداد الداخلية، أو جبهات الغزو الفكري وتحدي الحرب الإلكترونية الخارجية، وذلك في زمن بات عدوهم الثاني ـ دولة إسرائيل ـ واحداً من ثلاثة أو أربعة أو ربما خمسة أكبر منتجين للتكنولوجيا في العالم.

أجل، صحيح أن هنالك مواقع محترمة ومفيدة جداً مثل موقع الوراق الذي ينشر بين الناس الآلاف المؤلفة من كتب التراث ويضعها في متناول المُحَوْسَبين منهم ـ وهذا عمل جليل بحد ذاته ـ إلا أن موقعاً مثل الوراق عادي وطبيعي ومتوقع له أن يكون في لغة مثل العربية، خصوصاً وأن إطلاقه وصيانته لا يكلفان أولياء الأمر أكثر مما يكلفهم مهرجان صيفي أو استجمام شهر واحد في بلاد الروم؛ ـ ومثل موقع إسلام أونلاين، وإطلاقه من أضعف الإيمان. ولكن النقلة النوعية لأمة فُرض عليها أشد أنواع الحصار الفكري الذي تحطم بوجود الشبكة العنكبوتية، لم تحدث بعد. كما لم تستغل إمكانيات الشبكة العنكبوتية كما ينبغي حتى في البلاد التي لا تعاني من أزمة اقتصادية تحول دون اقتناء الحاسوب واستعمال الشبكة العنكبوتية التي يمكن لنا في ـ هذا السياق ـ مقارنتها بالتلفزيون أو أية قناة أخرى متعددة الوظائف، لم يستغل العرب منها إلا أقلها فائدة كما يبدو من إدمان الكثيرين على غرف الشات والماسنجر وغيرها من قنوات "طق الحنك" قتلاً للوقت الحر!

أتابع منذ أشهر مواقع كثيرة تشتغل باللغة والأدب والثقافة بمفهومها الأوسع. إن أكثر ما يثير عجب المراقب لتلك المواقع والمنتديات هو ظاهرة النحل دون حياء، وظاهرة سرقة المقالات وإجراء تعديلات طفيفة عليها ثم نشرها من جديد. إلا أن المشكل الذي أريد أن أعالجه في هذه المقالة ليس قضية النحل، فهذه مسألة ترد في كل مكان وزمان، إنما أريد أن أثبت ملاحظاتي العامة على ثقافة التواصل في الكثير من المنتديات العربية التي يفترض فيها الجدية والمهنية، لأن بين أعضائها طائفة كبيرة من اللغويين والأدباء والأساتذة والمترجمين والأساتذة الجامعيين والدكاترة المتخصصين، الشيء الذي يجعل المراقب يتوقع نتائج أخرى من تلك المواقع، غير النتائج الحالية.

إن أول ما يلفت انتباهك وأنت تطالع تلك المنتديات وتقرأ فيها هو انعدام ثقافة الحوار الحقيقي. أما مظاهر الأدب الزائف والمجاملات والمديح المنتشرة في منتديات الشبكة العنكبوتية على اختلاف مستوياتها ومشاربها، فإنها لا تعني بحال من الأحوال "ثقافة حوار" بقدر ما تعني نفاقاً شرقياً مسشترياً في والنفوس بسبب عقلية "هرمية التصاغر العربية" إن جاز التعبير، وهي الهرمية التي تجعل تقريبا كل واحد من العرب يتصاغر لمن هو فوقه بقدر ما يتصاغر هذا الأخير لمن هو فوقه أيضاً، فينتج عن ذلك لغة مبتذلة تتميز بالنفاق الاجتماعي الذي لا دواء له إلا بإزالة الأسباب التي أدت إلى وجود تلك العقلية، التي أنتجت بدورها ذلك النفاق الاجتماعي، ولغته معه.

والظاهرة الثانية التي تلفت أنظار القارئين هي ظاهرة المحاضرات والإجابة على أسئلة غير مطروحة للأدلجة إن صح التعبير. فهذا قارئ يطرح سؤالاً أدبياً يتعلق ـ على سبيل المثال ـ بقصيدة لابن الفارض، فيجيب عليه آخر بمحاضرة منقولة من موقع آخر للشيخ فلان الفلاني يكفر فيها الصوفية، والشيعة معهم، ويثير فتنة في الموقع لا تنتهي إلا بحذف السؤال وجميع الأجوبة، وحرد طائفة من الأعضاء يغادرون الموقع!

وأخرى هي ظاهرة صرف الحوار إلى المشاكل الاجتماعية وتمييعه ـ مثل مشكلة العنوسة غير الاختيارية ـ وغيرها من المواضيع المكبوتة التي تمزق النسيج الاجتماعي العربي تمزيقاً. صحيح إن هذه مشاكل معقدة لا ينبغي تجاهلها لأنها تتعلق بوجودنا ومستقبلنا، ولكنها مواضيع لا تعالج في منتديات يفترض أن تكون ذات طابع علمي ومتخصص. إنها قضايا تتطلب معالجتها حكمة كبيرة ودقة عالية في الطرح وتحليلاً جدياً للأسباب المؤدية إلى نشوء تلك المشاكل التي لم يعد السكوت عنها يطاق. إن الحديث في القضايا الاجتماعية في موقع يشتغل باللغة، على سبيل المثال، هو دليل صارخ على وجود الكبت في النفوس، الذي يجعل صاحبه يستغل أي منتدى، بغض النظر عن أهدافه، للحديث في مشاكله الخاصة. فالحديث في مسائل اجتماعية مثل العنوسة وما أشبه العنوسة ليس عيباً بحد ذاته ـ بل هو واجب كما أسلفت ـ لكنه حديث له حساسيته المفرطة عند أمة لا يزال بعض رجالها يردفون ذكرهم نساءَهم بـ "أعزك الله" و"حاشا قدرك"، وكأنهم يذكرون بهائم نجسة!

ومن تلك الظواهر السلبية ظاهرة تمييع الأدب واللغة. لقد بات كل من هب ودب يكتب نثراً وشعراً ورواية وينشر ذلك في مواقع تشتغل باللغة والأدب وبلغة لا تكاد تفهم لجهل أصحابها بالأدب ولغته. إن "كتاباً" مثل هؤلاء غالباً ما يتذرعون بحجة وجود قاموس إبداعي مخصوص بهم ... إن التجريب والبحث عن لغة مخصوصة بصاحبها ليسا عيباً، بل هما وسيلة لاختبار القدرات الذاتية، ولكن العيب يكون عندما نتمترس وراء "الإبداع" لتبرير الجهل باللغة وبأساليبها الإنشائية، فنميع اللغة والأدب معها بحجة الإبداع.

ومن ذلك ظاهرة الإفلاس الفكري الرهيب التي تجعل كثيراً من الأساتذة والأعضاء يحولون المنتديات الجدية إلى غرف دردشة لأنهم لا يستطيعون كتابة كلمة واحدة مفيدة، لا في مجال اختصاصهم ولا خارجه! ونحن إذا تفهمنا عدم قدرة الأساتذة المتخصصين على الإتيان بما هو مفيد خارج مجال اختصاصهم، فإن عجزهم عن المشاركة الفعالة في مجال اختصاصهم ظاهرة باتت تثيرالقلق الشديد بخصوص قدرة أساتذة الجامعات العربية على تخريج طلاب ناجحين من جهة والمشاركة في الحياة العلمية والثقافية من جهة أخرى، ذلك أن المراقب لأكثر المنتديات التي ينشرون عليها يرى أن اجتهادهم لا يتعدى الاشتغال بِمُتَجاوَزِ العِلم! حتى المجلات العلمية المتخصصة لا ترى فيها علماً بقدر ما ترى فيها اجتراراً لأقوال الأوائل أو نحلاً عن كتاب غربيين أو عرضاً لنظريات حديثة يدل في أحايين كثيرة على عدم فهم لتلك النظريات.

أما ظاهرة الانتهازية والنفاق فتعود إلى قوانين الجامعات العربية العجيبة والفساد المستشري فيها الذي يضطر الأساتذة ـ للأسف الشديد ـ إلى النفاق ومسح الجوخ من أجل التعيين أو الترقية بحيث أصبحت المناصب الجامعية تمتلئ بأساتذة عُيِّنوا بالواسطة أو بالقضاء والقدر. لقد أدت هذه الظاهرة السلبية جداً إلى إقصاء الكفاءات من الكثير من الجامعات العربية بوضعها في الهامش أو تهجيرها إلى الخارج.

ومن أشد الظواهر سلبية وخطراً على ثقافتنا ظاهرة عدم القدرة على الرد على المواقع المشبوهة لانعدام التخصص وفقدان القدرة على البحث والتقصي بشأن المعلومات المشبوهة ... لقد كثرت المواقع الموجهة ضد العرب والمسلمين. إن بعض تلك المواقع علمي المادة والطرح وبعضها الآخر ديماغوجي لكنه يبث معلومات تثير الشكوك والشبهات إثارةً لا يجدي معها الرد بالأدلة النقلية أو القول إن أصحابها كفار زنادقة أو بمجرد السكوت! لا بد من الرد على أصحاب الشبهات رداً علمياً مبنياً على البراهين العقلية والأدلة العلمية لتفنيد الشبهات قبل الانطلاق إلى تبيين فساد معتقد مطلقيها لأن في السكوت عنها تسليم بها!

ومن أشد الظواهر سلبية في المواقع العربية ظاهرة العلمانية المتطرفة التي نواجهها في المنتديات. إن العلمانية مذهب من مذاهب الغرب الفكرية، ولها في الغرب تياران رئيسيان تيارٌ معتدل ويمثل الأكثرية العلمانية وآخر متطرف ويمثل الأقلية. إلا أن العلمانيين العرب متطرفون فكراً وطرحاً وجميع أقوالهم وأفعالهم ـ بلا استثناء ـ محكومة بكرههم المسبق للدين، شأنهم في ذلك شأن التيار العلماني المتطرف في الغرب الذي ينتمي أكثر أعضائه إلى المحافل الماسونية بسبب كراهية أعضائه المسبقة للأديان والمعتقدات الدينية. إن جميع العلمانيين العرب ـ الذين نقرأ لهم ـ من أتباع التيار العلماني المتطرف، وهم لا يستطيعون، مهما زعموا، التحرر من تطرفهم في اعتقادهم العلماني ومن حكمهم المسبق على الأديان عموماً والإسلام خصوصاً وذلك بحكم تركيبتهم النفسية والعقلية غير المتزنة!

وأخيراً وليس آخراً ظاهرة التشدد الديني، وأكثره تشدد في غير موضوعه. فمن مُكَفِّر للصوفية من أهل السنة، إلى مُفَسِّق للنساء اللواتي يقدن السيارات، إلى مُحَرِّم لظهور المرأة بالحجاب الشرعي كما يعرفه الأحناف والشافعيين والمالكيين، إلى مُحَرِّم للتجمع إلى، مُثِير للخلاف الطائفي وتكفير الطوائف الإسلامية الأخرى التي لا يثبت كفر أتباعها، إلى مستغل للدين لتبرير مواقف سياسية مخذولة لأنظمة مخذولة الخ، إلى الشطط في الحكم على الأئمة والعلماء الكبار ... لقد انتشرت المواقع التي يكثر فيها مثل هذا التشدد كثيراً في وقت تتراجع فيه أساليب الدعوة تراجعاً كبيراً بسبب عدم تأهيل الدعاة تأهيلاً يمكنهم من الدعوة في عصر العولمة ...


فإلى أي مدى عرَّتنا الشبكة العنكبوتية؟!