30/3/2010
اللواء نمر حجاج . . عشر سنوات من الغياب
بقلم: محمد العجلة
كاتب صحفي/ غزة
االمرحوم نمر حجاج





بكل هدوء، رحل اللواء نمر يوسف حجاج، عن دنيانا ذات مساء ربيعي يميل إلى الحرارة قليلاً. ثلاثة أيام من العزاء مرت بسرعة البرق لتتأكد بعدها الحقيقة القاسية (وهل هناك أقسى من مصيبة الموت؟) لكنه قضاء الله على الجميع. رحل في الأول من نيسان عام 2000، عن عمر ناهز الثالثة والستين عاماً، في مدينة غزة التي أحب ناسها وهواءها وترابها وبحرها وتمنى أن ُيدفن فيها بعد رحلة طويلة من العمل الفدائي والعسكري والمطاردة والغربة والمرابطة في البلاد العربية المحيطة بفلسطين.
جنازته التي تقدمها آنذاك القائد العام لقوات الأمن الوطني، شقت طريقها نحو مقبرة الشهداء. وداع حزين لفدائي عنيد وعسكري محترف، رصيده في هذه الدنيا عهد ووفاء لوطنه، وحب عارم للناس ومن الناس.
ووري جثمانه الطاهر الثرى على صوت واحد وعشرين طلقة، وسط الدعاء له بالرحمة والمغفرة. بيت عزاء "أبو زهير" كان مناسبة فريدة من نوعها لجمع كل هذا الحشد من أصدقائه وزملائه العسكريين الأوائل، خريجي الكلية الحربية المصرية وغيرهم، ومعظمهم من كبار ضباط السلطة الوطنية، ويا ليت يومها كان هناك مؤرخ لكتابة ذلك التاريخ الشفوي الذي نطق به هؤلاء الضباط عن مراحل حياة مناضل فلسطيني قدم الكثير بصمت، وهي في الحقيقة تاريخ أيضاً لكل واحد منهم وتاريخ لمرحلة فلسطينية.
أفواج الناس العاديين الذين أموا بيت عزائه، تحدثوا أيضاً عن ذكرياتهم مع نمر حجاج قبل النكسة عام 67 حينما كان مسئولاً عن التدريب الشعبي كضابط في جيش التحرير الفلسطيني، عن إخلاصه وحزمه ومهنيته. قصص كثيرة كلها تجمع على قوة شخصيته وجديته.
وقعت حرب حزيران، حيث شنت دولة الاحتلال الإسرائيلي عدواناً واسع النطاق على مصر وسوريا والضفة والقطاع. كان ضابطاً برتبة نقيب. ورغم الهزيمة المدوية التي تلقاها العرب في تلك الحرب المشئومة، إلاّ أنه دار قتال شرس مع القوات الغازية في أجزاء من قطاع غزة، وخاض "أبو زهير" تلك المعارك إلى جانب زملائه ووحدات الجيش المصري، ولا زال أهل غزة وخانيونس يتذكرون تلك الأيام.
ومع إحكام السيطرة على القطاع من قبل المحتلين، تحول ضباط وجنود جيش التحرير إلى العمل السري المقاوم ضمن "قوات التحرير الشعبية" التي أرّقت ليل الاحتلال. اختفى نمر حجاج عن الأنظار وعيون الأعداء، كما فعل آخرون من زملائه في قيادة المقاومة، لكن أثرهم كان موجوداً في كل حي ومخيم وشارع وزقاق في غزة. تصاعدت المواجهات وسقط الشهداء والجرحى من بين المقاومين واشتدت الملاحقة عليهم وخاصة على قيادات المقاومة.
غادر أبو زهير القطاع في الخفاء إلى مدينة القدس المحتلة، حيث مكث هناك متنكراً لعدة شهور، ليغادر بعدها إلى الأردن في مهام جديدة ليس بعيداً عن أرض الوطن. كانت المقاومة الفلسطينية وفي مقدمتها حركة فتح بقيادة الزعيم الوطني التاريخي الشهيد ياسر عرفات رحمه الله، منهمكة في إنشاء قواعد لها على الحدود وخاصة في بلدة الكرامة، التي ما لبثت أن شهدت المعركة البطولية الخالدة بين المقاومة الفلسطينية والجيش العربي الأردني من جهة والقوات الإسرائيلية من جهة أخرى في 21 مارس 1968، وكان الرائد نمر حجاج يقود مقاتلي قوات التحرير الشعبية فيها.
واصل طريقه النضالي الذي بدأه والده (يوسف) أحد ثوار عام 1936، وانتقل إلى محطة جديدة، ليست بعيدة عن فلسطين أيضاً. هذه المرة على الحدود المصرية، وفي خط المواجهة الأول مع القوات الإسرائيلية أثناء حرب الاستنزاف، فها هو المقدم نمر حجاج القائد في كتيبة عين جالوت يرابط على قناة السويس، حتى إذا ما اندلعت شرارة حرب أكتوبر المجيدة عام 1973 فإذا به في قلب المعركة وبقية إخوانه الفلسطينيين، جنباً إلى جنب مع القوات المصرية الباسلة التي حققت مفخرة العبور العظيم.
المحطة التالية كانت لبنان، أيضاً قريباً من الحبيبة فلسطين. عام 1975 تم تعيين العقيد نمر حجاج رئيساً لمحكمة أمن الثورة العسكرية العليا التابعة لمنظمة التحرير (في بيروت) وبقي في هذا الموقع حتى أوائل الثمانينات، شهد وعايش خلالها الأوقات العصيبة التي واجهها الفلسطينيون في لبنان آنذاك سواء بسبب الحرب الأهلية أو بسبب المواجهات مع إسرائيل، وشاءت الأقدار أن يصاب بذبحة صدرية وهو لا يزال في بداية الأربعينات من عمره، تماثل بعدها للشفاء، وغادر لبنان ليقيم مع أسرته في مصر.
عام 1994 حقق حلمه الكبير بلمس تراب فلسطين ولقاء غزة، عانقها بقلبه وأحاسيسه ودموعه ومسح بيده على وجهها. سبعة وعشرون عاماً من الفراق القسري. جاءها زائراً بتصريح! لكنه أخذ قراره النهائي (ضمن مشيئة الله سبحانه وتعالى) أن ُيدفن في أرض غزة، وكأني بالإمام الشافعي رحمه الله وهو يقول:
وإني لمشتاق إلى أرض غـزة وإن خانني بعد التفرق كتماني
سقى الله أرضاً لو ظفرت بتربها كحلت من شدة الشوق أجفاني
وهذا ما كان، ففي أيلول 1996 عاد أبو زهير وجميع أفراد أسرته إلى قطاع غزة، ليقيموا فيها، حتى وافته المنية وهو مخلص للعهد والقسم والحب الأبدي لفلسطين.
هذه بالتأكيد ليست تأريخاً لبطل من أبطال فلسطين، ولكنها كلمة حب ووفاء انطلاقاً من العلاقة الوثيقة التي ربطت هذا الرجل بأسرتي، وتعمقت بالنسب والمصاهرة، وهي مناسبة أيضاً لدعوة المهتمين والمثقفين والمؤرخين إلى الاهتمام بالتاريخ الفردي لمثل هؤلاء الأبطال الذين يموتون وتُدفن معهم آلاف القصص والحكايات التي لو جُمعت لشكلت ثروة هائلة من المعلومات لجيلنا وللأجيال القادمة.
***