السلام عليكم
عن الزميلة
حوية البحر-منتديات العز
اقتبست حكايا نقلتها عربية من التراث

رغيـف بألف دينـار


‏ في أيام المستنصر الفاطمي، وقع بمصر الغلاء الذي فَحُش أمرُه، وشنع ذكره.
وكان أمده سبع سنين، وسببه ضعف السلطنة، واختلال أحوال المملكة، واستيلاء الأمراء على الدولة، واتصال الفتن بين العربان، وقصور النيل.. ‏
‏ وقد استولى الجوع لعدم القوت حتى بيع الإردب من القمح بثمانين دينارًا، وأُكِلت الكلاب والقطط، فبيع كلب ليؤكل بخمسة دنانير.
وتزايدت الحال حتى أكل الناسُ بعضهم بعضًا. ‏
‏ وكانت طوائف تجلس بأعلى بيوتها ومعهم حبال فيها كلاليب، فإذا مرَّ بهم أحد ألقوها عليه، ونشلوه في أسرع وقت، وشرّحوا لحمه وأكلوه. وجاء الوزير يومًا إلى الخليفة على بغلته، فأكلتها العامة، فشنق طائفة منهم، فاجتمع عليهم الناس فأكلوهم. ‏
‏ ومن غريب ما وقع أن امرأة من أرباب البيوتات أخذت عِقدًا لها قيمته ألف دينار، وعرضته على جماعة في أن يعطوها به دقيقًا.
وكان يُعتَذَرإليها إلى أن رحمها بعض الناس، وباعها به كيس دقيق.
فلما أخذته أعطت بعضه لمن يحمله ويحميه من النهّابة في الطريق.
فلما وصلت إلى باب زويلة، تسلّمته من الحُماة له ومشت قليلاً. فتكاثر الناس عليها وانتهبوه نهبًا. فأخذت هي أيضًا مع الناس من الدقيق ملء يديها، لم ينُبها غيره.
ثم عجنته وشوته، فلما صار قرصة أخذتها معها، وتوصَّلت إلى أحد أبواب القصر، ووقفت على مكان مرتفع، ورفعت القرصة على يديها بحيث يراها الناس،
ونادت بأعلى صوتها: ‏ ‏ يا أهل القاهرة!
ادعوا لمولانا المستنصر الذي أسعد اللّهُ الناسَ بأيامه حتى تقوّمت عليّ هذه القرصة بألف دينار!

‏ من كتاب"إغاثة الأمـّة بكشف الغُمـَّـة" للمقريزي.
--------------------------------------------------------------------------------

شَـرْطُ نظـْمِ الشِّـعر

استأذن أبو نواس خلفًا الأحمر في نظم الشعر،
فقال له:‏ ‏ لا آذن لك في عمل الشعر إلا أن تحفظ ألف مقطوع للعرب ما بين أرجوزة وقصيدة ومقطوعة.‏
‏ فغاب عنه مدة وحضر إليه،
فقال له:‏ ‏ قد حفظتُها.‏
‏ فقال له خلف الأحمر: أَنشِدْها.‏
‏ فأنشده أكثرها في عدة أيام.
ثم سأله أن يأذن له في نظم الشعر،
فقال له:‏ ‏ لا آذن لك إلا أن تنسى هذه الألف أرجوزة كأنك لم تحفظها.‏
‏ فقال له:‏ ‏ هذا أمرٌ يصعب عليَّ، فإني قد أتقنت حفظها.‏
‏ فقال له:‏ ‏ لا آذن لك إلا أن تنساها.‏
‏ فذهب أبو نواس إلى بعض الأديرة، وخلا بنفسه، وأقام مدّة حتى نسيها.
ثم حضر فقال:‏ ‏ قد نسيتها حتى كأن لم أكن حفظتها قط.‏
‏ فقال له خلف:‏ ‏ الآن انظم الشِّعر!

‏ من كتاب "أخبار أبي نواس" لابن منظور. ‏
خبـز القاضـي

قال ابن الزراد: ‏ ‏ كان عندنا بقرطبة قاض يعرف بمسرور،
وكان من الزهاد، استأذن من حضره من الخصوم يوماً في أن يقوم لحاجة فأذنوا له،
فقام عنهم نحو منزله، ولم يلبث أن خرج وفي يده خبزة نية، فتوجه بها إلى الفرن لتخبز له. ‏ ‏ فقال له بعض من رآه: ‏ ‏ أنا أكفيك أيها القاضي.
‏ ‏ فقال له: ‏ ‏ فإذا أنا عزلت عن القضاء، أتراني أجدك كل يوم تكفيني حملها؟
لا أظنك ستفعل ذلك، بل الذي حملها قبل القضاء يحملها بعد القضاء.‏

من كتاب "المقتبس من أنباء أهل الأندلس" لابن حيان القرطبي.

رجاحـة عقــل

حـُكي أن أم جعفر، عاتبت الرشيد يوماً، على تقريظه للمأمون دون ولدها الأمين،
فدعا خادماً
وقال له:‏ ‏ وجـِّه إلى الأمين والمأمون من يقول لكل منهما على الخلوة،
ما تفعل بي، إذا أفضت الخلافة إليك؟
‏ ‏ فأما الأمين فقال:‏ ‏ أقطـِعـُك وأعطيك،
وأما المأمون فقال:‏ ‏ تسألني عما أفعل بك يوم يموت أمير المؤمنين؟ وخليفة رب العالمين!!‏ ‏ إني أرجو أن نكون جميعاً فداء له،
فقال الرشيد لأم جعفر، كيف ترين؟‏
‏ فسكتت عن الجواب. ‏
.
.
شكايـة صريحــة

قدم أمير المؤمنين المنصور مكة حاجاً، فكان يخرج للطواف ليلاً، وبينما هو يطوف إذ سمع رجلاً يقول: اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الظلم والطمع،
فاستدعاه المنصور وسأله: ما هذا الذي تقوله؟ لقد حشوت مسامعي ما أمرضني وأقلقني، فأجابه الرجل: إنما عنيتك بقولي، وقصدتك لا سواك،
قال المنصور:‏ ‏ وكيف يدخلني الطمع، والصفراء والبيضاء في يدي، والحـُلو والحامض في قبضتي،
قال الرجل: وهل دخل أحد من الطمع ما دخلك يا أمير المؤمنين؟ إن الله تعالى استرعاك أمور المسلمين وأموالهم، فأغفلت أمورهم، واهتممت بجمع أموالهم، وجعلت بينك وبينهم حجاباً، واتخذت لك أعواناً ووزراء ظلمة آثمين، إن نسيت لم يذكروك، وإن ذكرت لم يعينوك، وقويتهم على ظلم رعيتك، وابتزاز أموالهم، فلما رأتك حاشيتك هذه قد استخلصت أفرادها لنفسك، وآثرتهم على أمتك، قالوا هذا خان الله، فلماذا لا نخونه؟ فأتمروا على ألا يصل إليك شيء من أخبار الناس، إلا ما أرادوا، ولا يخرج لك عامل فيخالف لهم أمراً إلا أقصوه، حتى امتلأت بلاد الله بالطمع بغياً وفساداً، وأنت تنظر ولا تنكر، وترى ولا تغير، فماذا تقول إذا انتزع الملك الحق المبين الدنيا من يدك، ودعاك إلى الحساب؟ هل يغني عنك عنده شيء مما كنت فيه؟‏
‏ فبكى المنصور حتى نـَحـِب، ثم زهد وتنسك، واستبدل بحاشيته الأئمة الأعلام المرشدين، فصلحت بهم الرعية واستقامت أمورهم.
.
--------------------------------------------------------------------------------

شيرلـوك هولمـز العـرب

‏ نظر إياس بن معاوية، قاضي البصرة، يومـًا إلى رجل لم يره قط،
فقال: ‏ ‏ هذا غريبٌ، من بلدة واسط، معلـّم كتـّاب، هرب له غلام.
‏ ‏ فلما وجدوا الأمر كذلك، سئل عن ذلك،
فقال: ‏ ‏ رأيتُه يمشي ويلتفت في الأماكن والطرق، فعلمتُ أنه غريب.
ورأيت على ثوبه حـُمرة تراب واسط، فعلمت من أهلها.
ورأيته يمرّ بالصبيان فيسلـّم عليهم ولا يسلـّم على الرجال، فعلمت أنه معلم.
‏ ‏ ورأيته إذا مرّ بذي هيئة لم يلتفت إليه، وإذا مرّ بأسود ذي أسـْمال تأمـّله، فعلمت أنه يطلب عبدًا هاربـًا.

‏ من كتاب "شرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون" لابن نباتة.
.
.
__________________
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

قطـر النـدى


كانت قطر الندى بنت خمارويه أكمل نساء عصرها في الجمال والأدب.
وقد اتفق لها مع زوجها الخليفة المعتضد حكايات يجب أن تؤرّخ:
‏ ‏ وضع رأسه يوماً في حجرها فنام حتى غطّ في نومه.
فتلطّفت في ميل رأسه من حجرها، ووضعته على مخدة، وقامت.
وانتبه المعتضد من نومه فوجد رأسه على مخدة ولم يجد قطر الندى معه.
فاشتد غيظه واستدعاها
وقال لها: ‏ ‏ ما هذا الذي صنعت؟ أضع رأسي في حجرك فتتركيني؟‏
‏ فقالت: إن فيما أوصاني به أبي ألا أجلس بين النيام، ولا أنام بين الجلوس فأعجب ذلك المعتضد
وقال: ‏ ‏ نِعم ما أوصاك به أبوك.‏ ‏ وصارت الأمثال في قصر الخليفة تُضرب بأدب قطر الندى.
‏ وناولها المعتضد يوما قدح خمر لتشربه،
فقالت: ‏ ‏ يا أمير المؤمنين، ما شربتُه قط، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول عن النساء: ناقصات عقل ودين، والرجال إن شربوا الخمر ففي عقولهم وأديانهم ما يحتمل حيفها، والنساء بضدّ ذلك.‏
‏ فاشتد ولعه بما سمع منها وأعفاها.
‏ ولما قُتل أبوها خمارويه، اتصل خبرُ ذبحه بالمعتضد قبل أن يتصل بقطر الندى.
واتفق أن دخل المعتضد على قطر الندى في أثر ذلك، فأحست فتوراً منه في معاملته إياها.
فقالت:‏ ‏ أحسن الله عزاءك يا أمير المؤمنين في خمارويه، وجعل من غلمانك خير خلف منه.
‏ ‏ فقال لها: أبلغك قتلُه؟
‏ ‏ قالت: لا والله. ما يدخل إليّ خبر من غير جهتك.
‏ ‏ قال: فمن أين عرفت ذلك؟
‏ ‏ قالت: يعفيني أمير المؤمنين من هذا.
‏ ‏ قال: لا بد من ذكر ذلك.
‏ ‏ قالت: كان أمير المؤمنين طول حياة أبي يُبدي لي برّاً وتلطفاً، فأعلم باتصال ذلك رعية لمكان أبي. فلما رأيتك اليوم قد عاملتني بفتور ولم أعلم لي ذنباً أستوجب به ذلك، خطر بخاطري أن أبي مات. ‏ ‏ فاستحيا المعتضد واعتذر.
ثم قال لها: ‏ ‏ فما بالك لا يظهر عليك أثر الحزن عليه؟
‏ ‏ قالت: فرحي بك يغلب على حزني عليه، والرضا بحياتك يقهر السخط بموته.
‏ ‏ فقبّل رأسها وحلف لها أنه يرعاها في موت أبيها أكثر من رعيه لها في حياته.
.
.

‏ من كتاب "المُغْرِب في حُلى المغرب" لابن سعيد الأندلسي. ‏
__________________
كُتُب المُبَشـِّر بن فاتـِك


كان الأمير المبشر بن فاتك من أعيان أمراء مصر، وأفاضل علمائها، دائم الاشتغال، محبّ للاجتماع بالعلماء من أمثال ابن الهيثم وابن رضوان الطبيب.‏
‏ وقد اقتنى المبشـّر كتبًا كثيرة جدًا، فكان في أكثر أوقاته لا يفارقها، وليس له دأب إلا المطالعة والكتابة، ويرى أن ذلك أهم ما عنده.‏
‏ وكانت له زوجة كبيرة القدر أيضًا من أرباب الدولة.
فلما توفـّى، رحمه الله، نهضت هي وجواريها إلى خزائن كتبه، وفي قلبها الحقد على الكتب لأنه كان يشتغل بها عنها، فجعلت تندبه، وفي أثناء ذلك ترمي الكتب في بركة ماء كبيرة في وسط الدار، وجواريها يساعدنها!

‏ من كتاب "طبقات الأطباء" لابن الأصيبعة.
.
.

حورية البحر
استعراض الملف الشخصي
رسالة خاصة إلى : حورية البحر
البحث عن كافة مشاركات : حورية البحر
إضافة حورية البحر إلى قائمة الصداقة

خبرُ الحجـّام مع الحجّـاج


احتجم الحجـّاج ذات يوم، فلما ركّب المحاجم على رقبته
قال له: ‏ ‏ أُحبّ أيها الأمير أن تخبرني بخبرك مع ابن الأشعث وكيف عصا عليك
فقال له: ‏ ‏ لهذا الحديث وقت آخر، وإذا فرغتَ من شأنك حدَّثتك.
‏ ‏ فأعاد الحجّام مسألته وكرّرها، والحجّاج يدفعه ويعده ويحلف له على الوفاء له.
‏ ‏ فلما فرغ ونزع المحاجم عنه وغسل الدم،
أحضر الحجّام وقال له: ‏ ‏ إنّا وعدناك بأن نحدّثك حديث ابن الأشعث معنا، وحلفنا لك، ونحن محدِّثوك. ‏ ‏ ثم نادى: يا غلام، السيـّاط! ‏
‏ فأُتي بها. فأمر الحجاج بالحجام فجُرِّد، وعَلَتـْه السياط،
وأقبل الحجاج يقصّ عليه قصة ابن الأشعث بأطول حديث.
فلما فرغ استوفى الحجامُ خمسمائة سوط، فكاد يتلف.
‏ ‏ ثم رفع الضرب وقال له: ‏ ‏ قد وفـَّينا لك بالوعد،
وأيّ وقت أحببت أن تسأل خبرنا مع غير ابن الأشعث على هذا الشرط أجبناك!

‏ من كتاب "الوزراء" للهلال بن المحسن الصابئ. ‏
كبريـاء الوزيـر

كان سليمان بن وانشوس من رؤساء البربر، ووزيراً لأمير الأندلس عبد الله بن محمد.
دخل يوماً على الأمير
فقال له:‏ ‏ اجلس يا بربري!‏
‏ فغضب وقال:‏ ‏ إنما كان الناس يرغبون في الوزارة طلباً للشرف،
وأمّا إذا صارت جالبَة للذُّل فقد غنينا عنكم. ثم خرج من غير أن يسلّم.
فغضب الأمير وأمر بعزله.‏
‏ ثم إن الأمير عبد الله حزن لفقده لأمانته ونصيحته وفضل رأيه.
فقال للوزراء:‏ ‏ لقد وجدتُ لفقد سليمان تأثيراً. غير أني لو طلبتُ منه الرجوع لكان ذلك غضاضة علينا، ولَوَددتُ أن يبتدئنا هو بالرغبة.‏
‏ فقال الوزير محمد بن الوليد بن غانم:‏ ‏ إن أذنتَ لي في المسير إليه اسْتَنهضْتُه إلى هذا. فأذن له. فنهض ابن غانم إلى دار سليمان فاستأذن.
وكانت رتبة الوزير بالأندلس أيام بني أمية ألا يقوم الوزير إلا لوزير مثله، فإنه كان يتلقاه وينزله معه إلى مرتبته ولا يحجبه لحظةً.
فأبطأ الإذن على بن غانم حيناً ثم أذن له.
فدخل عليه فوجده قاعداً، فلم يتزحزح له ولا قام إليه.
فقال له ابن غانم:‏ ‏ ما هذا الكِبْر؟
عهدي بك وأنت وزير للسلطان وفي أبهة رضاه تتلقاني واقفاً وتتزحزح لي عن صدر مجلسك.
وأنت الآن في غضبه بضد ذلك!‏
‏ فقال سليمان:‏ ‏ نعم. لأني كنتُ حينئذٍ عبداً مثلك، وأنا اليوم حرّ!‏
‏ فخرج ابن غانم ولم يكلمه، ورجع إلى الأمير فأخبره،
فأرسل الأمير إليه يرجوه العودة إلى الوزارة، وردّه إلى أفضل ما كان عليه.

‏ من كتاب "الحُلّة السِّيراء" لابن الأبّار. ‏
--------------------------------------------------------------------------------

كُـتُب وليّ العهـد


اختارني نصر الحاجب مؤدباً لوليّ عهد الخليفة المقتدر (وهو الراضي)، فرأيته ذكياً فطناً عاقلاً إلا أنه خالٍ من العلوم فحبّبت العلم إليه، واشتريت له من كتب الفقه والشعر واللغة والأخبار قطعةً حسنة. وقرأ علّي من كتب اللغة كتباً كثيرة منها "خلق الإنسان " للأصمعيّ.
فمضى خَدَمٌ سمعوا ذلك إلى المقتدر وإلى والدته
فقالوا لهما:‏ ‏ إن الصولي يعلّمه أسماء الفرج والذّكر!‏ ‏ فدعا المقتدر نصر الحاجب فعرّفه ذلك.
ودعاني نصر - وكان من أحسن الناس عقلاً - فسألني عن ذلك، فعرّفته أن هذا من العلوم التي لا بد للفقهاء والقضاة منها،
فقال:‏ ‏ جئني بالكتاب. فجئته به. فأخذه وأدخله إلى المقتدر وعرّفه ما عرّفته.‏ ‏ وإني لأذكر يوماً وهو يقرأ علّي شيئاً من شعر بشّار، وبين يديه كتب لغة وكتب أخبار، إذ جاء خدم من خدم جدّته السيدة، فأخذوا جميع ما بين يديه من الكتب، فجعلوه في منديل كبير كان معهم، وما كلّمونا بشيء، ومضوا. فرأيته قد وجم لذلك واغتاظ، فسكّنت منه
وقلت له:‏ ‏ ليس ينبغي أن يُنكر الأمير هذا، فإنه يقال لهم إن الأمير ينظر في كتب لا ينبغي أن ينظر في مثلها، فأحبوا أن يمتحنوا ذلك.
وقد سرّني هذا ليروا كل جميل حسن.‏ ‏ ومضت ساعات أو نحو ذلك، ثم ردّوا الكتب بحالها.‏
‏ فقال لهم الراضي:‏ ‏ قولوا لمن أمركم بهذا: قد رأيتم هذه الكتب، وإنما هي حديث وفقه وشعر ولغة وأخبار وكتب العلماء، وليست من كتبكم التي تمترحونها مثل عجائب البحر وحديث سندباد والسنور والفأر!‏ ‏ وخفت أن يؤدي الخادم قوله
فيقال: من كان عنده؟ فيذكرني، فيلحقني من ذلك ما أكره. فقمت إلى الخدم فسألتهم ألا يعيدوا قوله، فقالوا:‏ ‏ والله ما فهمناه، فكيف نعيده؟!

‏ من كتاب "الأوراق" للصولي. ‏
لا شـيء يعـدل العافيــة


دخل ابن السماك يوماً، على أمير المؤمنين هارون الرشيد، فوافق أن وجده يرفع الماء إلى فمه ليشرب
فقال:‏ ‏ ناشدتك الله يا أمير المؤمنين أن تنتظر به قليلاً. فلما وضع الماء
قال له:‏ ‏ أستحلفك بالله تعالى، لو أنك مـُنعت هذه الشربة من الماء، فبكم كنت تشتريها؟
قال:‏ ‏ بنصف ملكي،
قال:‏ ‏ اشرب هنأك الله، فلما شرب
قال:‏ ‏ أستحلفك بالله تعالى، لو أنك منعت خروجها من جوفك بعد هذا، فبكم كنت تشتريها؟
قال:‏ ‏ بملكي كله.
فقال:‏ ‏ يا أمير المؤمنين إن ملكا تربو عليه شربة ماء، وتفضله بولة واحدة، لخليق ألا يـُنافس فيه، فبكى هارون الرشيد، حتى ابتلت لحيته.
فقال الفضل بن الربيع، أحد وزرائه، مهلاً يا ابن السماك، فأمير المؤمنين أحق من رجا العاقبة عند الله بعدله في ملكه،
فقال ابن السماك، يا أمير المؤمينن، إن هذا ليس معك في قبرك غداً، فانظر لنفسك، فأنت بها أخبر، وعليها أبصر، وأما أنت يا فضل، فمن حق الأمير عليك، أن تكون يوم القيامة من حسناته، لا من سيئاته، فذلك أكفأ ما تؤدي به حقه عليك.‏ ‏
لا شيء أجل من العافية، ولا يدوم ملك إلا بالعدل، ولا ينفع نفساً إلا ما قدمت، يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً، ويوم لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم. ‏
--------------------------------------------------------------------------------

حيـــاء


قال عمرو بن بحر الجاحظ:‏ ‏
الحياء لباس سابغ، وحجاب واق، وستر من العيب،
وأخو العفاف، وحليف الدين، ورقيب من العصمة،
وعين كالئة، تذود عن الفحشاء،
وتنهى عن ارتكاب الأرجاس، وسبب إلى كل جميل.‏

‏ وقال حكيم:‏
‏ لا ترض قول امرئ حتى ترضى فعله،
ولا ترض فعله حتى ترضى عقله،
ولا ترض عقله حتى ترضى حياءه،
فإن ابن آدم مجبول على أشياء من كرم ولؤم،
فإذا قوي الحياء قوي الكرم،
وإذا ضعف الحياء، قوي اللؤم.‏

‏ وقال آخر:‏
‏ لا يزال الوجه كريماً ما دام حياؤه،
ولم يـُرق باللجاجة ماؤه،

وقال شاعر:‏
ورب قبيحة ما حال بينـي وبيـن ركوبهــا إلا الحيــاء
فكان هو الدواء لها ولكن إذا ذهــب الحيـاء فـلا دواء
.
.
--------------------------------------------------------------------------------

كتـابُ توصيـة


قال أبو العيناء للجاحظ:‏
‏ طلب مني صديق لي أن أسألك أن تكتب له خطاب توصية إلى والي البصرة.‏
‏ فقال الجاحظ:‏ ‏ نعم. أكتبه ثم أبعثه إليك.‏
‏ وكتب له الجاحظ الخطاب وختمه ثم أرسله إلى أبي العيناء.
فلما تسلـّمه أبو العيناء أحبّ أن يرى ما كتبه الجاحظ،
فقال لرجل عنده:‏ ‏ اِفتحـْه واقرأه عليّ.‏
‏ فإذا فيه:‏ ‏ "كتابي إليك طلبه مني من أخافه لمن لا أعرفه. فافعل في أمره ما تراه، والسلام".‏
‏ فغضب أبو العيناء ونهض إلى الجاحظ،
فقال:‏ ‏ أعرّفك باعتنائي بهذا الصديق فتكتب له مثل هذا؟!‏
‏ فقال الجاحظ:‏ ‏ لا تنكر ذلك، فإنها أمارة بيني وبين والي البصرة إذا عُنيت برجل.‏
‏ قال أبو العيناء:‏ ‏ بل أنت ولد زنا.‏
‏ قال: أتشتمني؟‏
‏ قال: لا. إنها أمارة لي عند الثناء على إنسان!

‏ من كتاب "جمع الجواهر في المُلـَح والنوادر" للحُصْري.

كتمـان المعـروف


أراد جعفر البرمكي يومًا حاجة كان طريقه إليها على باب الأصمعي.
‏ ‏ فدفع إلى خادم له كيسًا فيه ألف دينار،
وقال له: ‏ ‏ سأنزل إلى الأصمعي، وسيحدّثني ويضحكني فإذا رأيتني قد ضحكت فضع الكيس بين يديه. ‏ ‏ فلما دخل رأى جَرَّة مكسورة العُروة، وقَصعةً مُشَعَّبة، ورآه على مُصَلّى بالٍ، وعليه بركان أجرد.
فغمز جعفر غلامه بعينه ألا يضع الكيس بين يديه، ولا يدفع إليه شيئًا.
فلم يدع الأصمعي شيئًا مما يُضحك الثكلان والغضبان إلا أورده عليه، فما تبسَّم جعفر.
‏ ‏ فقال له إنسان: ‏ ‏ ما أدري من أي أمرَيك أعجب:
أمِن صبرك على الضحك وقد أورد عليك ما لا يُصبر على مثله،
أم من تركك إعطاءه وقد كنتَ عزمتَ على إعطائه؟ ‏
‏ قال جعفر: ‏ ‏ ويلك! إني واللّه لو علمتُ أنه يكتُم المعروف بالفعل لما احتفلتُ بنشره له باللسان.
وأين يقع مديحُ اللسان من مديح آثار الغنى على الإنسان؟
فاللسان قد يكذب، والحالُ لا تكذِب.
فلستُ بعائد إلى هذا بمعروفٍ أبداً. ‏

‏ ‏ من كتاب "البخلاء" للجاحظ ‏
كم لك من السنين؟


قال رجل لهشام بن عمرو القوطي:‏ ‏ كم تَعُدّ؟‏
‏ قال: من واحد إلى ألف ألف وأكثر.‏
‏ قال: لم أُرِدْ هذا.‏ ‏
قال: فما أردتَ؟
‏ ‏ قال: كم تَعُدُّ من السِّنّ؟
‏ ‏ قال: اثنتين وثلاثين سِنَّة، ستة عشر من أعلى وستة عشر من أسفل.‏
‏ قال: لم أُرِد هذا.‏
‏ قال: فما أردت؟
‏ ‏ قال: كم لك من السنين؟
‏ ‏ قال: مالي منها شيء، كلها لله عزّ وجلّ.‏
‏ قال: فما سِنُّك؟‏
‏ قال: عَظْم.‏
‏ قال: فابن كم أنت؟
‏ ‏ قال: ابن اثنين، أبٍ وأم.‏
‏ قال: فكم أتى عليك؟
‏ ‏ قال: لو أتى عليّ شيءٌ لقتلني.
‏ ‏ قال: فكيف أقول؟
‏ ‏ قال: قل كم مضى من عمرك؟

‏ من كتاب "أخبار الظراف والمتماجنين" لابن الجوزي. ‏
ما براهينـك؟


حدّث ثمامة بن أشرس
قال:‏ ‏ شهدتُ مجلساً للمأمون وقد أُتِيَ برجل ادعى أنه إبراهيم الخليل.
فقال له المأمون:‏ ‏ ما سمعت بأجرأ على الله من هذا.
‏ ‏ قلت: إن رَأَى أمير المؤمنين أن يأذن لي في كلامه.‏
‏ قال: شأنك وإياه.‏
‏ قلت: يا هذا، إن إبراهيم عليه السلام كانت له براهين.‏
‏ قال: وما براهينه؟‏
‏ قلت: أُضْرِمَتْ له النار وأُلقِيَ فيها فكانت عليه برداً وسلاماً.
فنحن نُضْرِمُ لك ناراً ونطرحك فيها فإن كانت عليك برداً وسلاماً آمنّا بك وصدّقنَاك.‏
‏ قال: هات ما هو أَلْينُ من هذا.‏
‏ قلت: فبراهين موسى عليه السلام.‏
‏ قال: وما هي؟‏
‏ قلت: ألقى العصا فإذا هي حية تسعى تَلْقَفُ ما يأفكون،
وضرب بها البحر فانفلق، وبياض يده من غير سوء.
‏ ‏ قال: هذا أصعب. هات ما هو أَلْين.‏
‏ قلت: فبراهين عيسى عليه السلام.‏
‏ قال: وما براهينه؟‏
‏ قلت: إحياء الموتى.‏
‏ قال: جئت بالطّامّة الكبرى! دعني من براهين هذا.‏ ‏
قلت: فلا بدّ من براهين!‏
‏ قال: ما معي من هذا شيء.
قلتُ لجبريل: "إنكم توجّهونني إلى شياطين فأعطوني حجة أذهب بها وإلا لم أذهب"،
فغضب جبريل عليّ
وقال: "اذهب أولاً فانظر ما يقول لك القوم"!‏
‏ فضحك المأمون وقال:‏ ‏ هذا من الأنبياء التي تصلح للمنادمة! ‏

من كتاب "مروج الذهب" للمسعودي. ‏
لو صبـروا حتـى يرجـع

دخل محمد بن واضح دار المأمون وخلفه أكثر من خمسمائة راكب،
كلهم راغب إليه، وراهب منه، وهو إذ ذاك يلي أعمالاً من أعمال السـَّواد.
فدعا به المأمون،
فقال:‏ ‏ يا أمير المؤمنين، أَعفـِني من عمل كذا وكذا، فإنه لا قوة لي عليه.‏
‏ فقال:‏ ‏ قد أعفيتك.‏
‏ واستعفى من عمل آخر، وهو يظن أنه لا يـُعفيه، فأعفاه حتى خرج من كل عمل في يده في أقل من ساعة، فخرج وما في يده شيء من عمله.
فقال المأمون لسالم الحوائجي:‏ ‏ إذا خرج فانظر إلى موكبه، وأَحـْصِ من معه.‏
‏ وكان المأمون قد رآه من مـُستشرَف له حين أقبل .
فخرج سالم وقد شاع الخبر بعزله عن عمله، فنظر فإذا هو لا يتبعه أحد إلا غلام له.
فرجع إلى المأمون فأخبره.
فقال:‏ ‏ ويلهم! لو صبروا حتى يرجع إلى بيته كما خرج منه!

‏ من كتاب "المحاسن والمساوئ" للبيهقـي
مـا المخــرج؟


‏عن علي رضي الله عنه قال:‏
‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها ستكون فتن"
قلت:‏ ‏ فما المخرج منها يا رسول الله؟
قال:‏ ‏ "كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، هو الذي من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، فهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخـْلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء،

وفي رواية "ولا تختلف به الآراء".‏
‏ وهو الذي لم ينته الجن إذا سمعته أن قالوا:‏
‏ "إنا سمعنا قرآناً عجباً"
هو الذي من قال به صدق ومن عمل به أُجر، ومن دعا إليه هـُدِيَ إلى صراط مستقيم".
.
. ‏
بسـاط الخليــفة

--------------------------------------------------------------------------------

بسـاط الخليــفة
حُكي عن أحمد بن أبي داود أنه
قال: ‏ ‏ ما صحب السلطان أصلب ولا أخبث من عمر بن فرج الرّخجي. غضب عليه الخليفة المعتصم يومـًا وهمّ بقتله وأمر بإحضاره، فجاءوا به وقد نزف دمه.
‏ ‏ فقال المعتصم: السيف يا غلام! ‏ ‏ فجعلت رُكـْبتا عمر بن فرج تصطكـّان.
‏ ‏ فقلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يسأله عن ذنبه، فلعلـّه أن يخرج منه بعذر.
‏ ‏ فقال المعتصم له: ‏ ‏ يا ابن الفاعلة، هل أمرتـُك بالتجسس على العلويين وأن تتعرّف خبر منازلهم؟ ‏ ‏ قال: لا. ‏
‏ قال: فلم فعلت ذلك؟
‏ ‏ قال عمر: إنما فعلت ذلك لأنه بلغني عن واحد منهم أن أهل "قـُمْ" يكاتبونه فأردت أن أعلم ما في الكتب الواردة عليه. ‏ ‏ وكان عمر في خلال حديثه يلمس البساط الذي كان المعتصم يجلس عليه، فزاد ذلك في غضب الخليفة،
فصاح به: ‏ ‏ يا ابن الفاعلة، ما شـَغـَلـَكَ ما أنت فيه عن لمس البساط، كأنك غير مكترث بما أريده بك؟ ‏ ‏ قال عمر: ‏ ‏ لا والله يا أمير المؤمنين. ولكن العبدَ يـُعـْنـَى دائمـًا بكل شيء من أمر سيده وعلى جميع الأحوال. وقد رأيت هذا البساط خشنا لا يليق بخليفة.
‏ ‏ فقال المعتصم: ‏ ‏ ويلك، هذا البساط كلـّفنا خمسين ألف درهم.
‏ ‏ قال عمر: ‏ ‏ يا سيدي، عندي خير منه قيمته سبعمائة دينار. ‏ ‏ فما كان إلا أن ذهب عن الخليفة غضبه، وقال: ‏ ‏ وَجـِّه الساعة من يـُحضره من دارك. ‏ ‏ فجاءوا ببساط كان عمر قد اشتراه، فيما أظن، بأكثر من خمسة آلاف دينار. فاستحسنه المعتصم واستلانه.
وقال: ‏ ‏ هذا والله أحسن من بساطنا وأرخص، وقد أخذناه منك بما دفعته فيه. فوالله ما ترك عمر القصر ذلك اليوم حتى نادم الخليفة ونال جوائزه.

‏ من كتاب "الوزراء والكُتّاب" للجهشياري. ‏
__________________
مـُرِي خيَالَك أن يطرقـَني

--------------------------------------------------------------------------------

مـُرِي خيَالَك أن يطرقـَني
كانت زادمهر جارية بارعة الجمال، طيـّبة الغناء.
ورآها يومـاً فتى من بغداد فعشقها، وأخذ في استعطافها بالمراسلات والمكاتبات،
وهي لا تعرف إلا الدنيا والدينار.
وجعل يصف لها في رقاعـِه عشقـَه، وسهره في الليالي، وتقلـّبه على حرّ المقالي، وامتناعه من الطعام والشراب، وما يشاكل هذا من الهذيان الفارغ الذي لا طائل فيه ولا نفع.‏
‏ فلما أعياه أمرها، ويئس من تعطـّفها عليه، كتب إليها في رقعة:‏
‏ وإذ قد منعتني زيارتك، فمـُري بالله خيالـَك أن يطرُقـَني ويبرد حرارة قلبي.‏
‏ فقالت زادمهر لرسولته:‏ ‏ ويحك، قولي لهذا الرقيع: أنا أعمل ما هو خير لك من أن يطرقك خيالي، أرسـِل إليّ دينارين في قرطاس حتى أجيئك أنا بنفسي!

‏ من "حكاية أبي القاسم البغدادي" لأبي المُطـَهـَّر الأزْدِي
المغـفّل وحمـاره

كان بعض المغفلين يقود حماراً.
فقال رجل لرفيق له:‏ ‏ يمكنني أن آخذ هذا الحمار ولا يعلم هذا المغفل.‏
‏ فقال: كيف ومقوده بيده؟‏
‏ فتقدّم فحلّ المقود ووضعه في رأسه هو، وأشار إلى رفيقه أن يأخذ الحمار ويذهب به، فأخذه ومضى.‏ ‏ ومشى ذلك الرجل خلف المغفل والمقود في رأسه ساعة، ثم وقف، فجذبه فلم يمش.
فالتفت المغفل فرآه،
فقال:‏ ‏ أين الحمار؟‏
‏ فقال: أنا هو.‏
‏ قال: وكيف هذا؟‏
‏ قال: كنت عاقاً لوالدتي فمُسِخْتُ حماراً، ولي هذه المدة في خدمتك.
والآن قد رَضِيت عني أمي فعُدتُ آدمياً.‏
‏ فقال المغفل: لا حول ولا قوة إلا بالله! وكيف كنتُ أستخدمك وأنت آدمي؟!‏
‏ قال: قد كان ذلك.‏
‏ قال: فاذهب في حفظ الله.‏ ‏ فذهب.‏ ‏ ومضى المغفل إلى بيته فقصّ على زوجته القصة،
فقالت له:‏ ‏ اذهب غداً إلى السوق واشترِ حماراً آخر.‏
‏ فخرج إلى السوق فوجد حماره معروضاً للبيع، فتقدّم منه وجعل فمه في أذن الحمار
وقال:‏ ‏ يا أحمق، عُدْتَ إلى عقوق أمك؟!

‏ من كتاب "أخبار الحمقى والمغفلين" لابن الجوزي.‏
عظـــات


قال حكيم أديب، وناصح أمين:‏
‏ إِياك وصحبة الملوك، فإنك إن لازمتهم ملوك، وإن تركتهم أذلوك، يستعظمون في الثواب رد الجواب، ويستصغرون في العتاب ضرب الرقاب.‏

‏ وقيل لحكيم من الذي لا يخاف أحداً؟‏
‏ فقال:‏ ‏ الذي لا يخافه أحد، فمن عدل في حكمه، وكفَّ عن ظلمه، نصره الحق، وحسنت لديه النـُّعمى، وأقبلت عليه الدنيا، فتهنـَّى بالعيش، واستغنى عن الجيش، وملك القلوب، وأمن الحروب، وصارت طاعته فرضاً، وظلت رعيته جنداً، وإن أول العدل أن يبدأ الرجل بنفسه، فيلزمها كل خلة زكية، وخصلة رضية، في مذهب سديد، ومكسب حميد، ليسلم عاجلاً، ويسعد آجلاً. وأول الجور، أن يعمد إليها فيجنبها الخير، ويعوِّدها الشر، ويـُلبسها الآثام، ويغبغبها المدام، ليعظم وزرها، ويقبح ذكرها. ‏
حكاية الإخشيد مع المُطَمِّع


أمر الإخشيد بهدم المواخير ودور المقامرين والقبض عليهم.
وأُدخِل عليه جماعة من المقامرين وعُرضوا عليه، وفيهم شيخ حسن الهيئة.
فقال الإخشيد:‏ ‏ وهذا الشيخ مقامر؟!!‏
‏ فقالوا له:‏ ‏
هذا يُقال له "المُطَمِّع".‏ ‏
فقال الإخشيد: وما المُطَمِّع؟‏ ‏
قالوا: هو سبب رواج حال دار القمار، وذلك أن المقامر إذا خسر ما معه من مال،
قال له المُطَمِّع:‏ ‏ "العب على ردائك فلعلك تغلب"، فإذا ذهب رداؤه
قال له: "العب على قميصك حتى تغلب به"، وهكذا حتى يبلغ نعليه، بل وربما اقترض له مالاً حتى يخسره. ولهذا الشيخ من صاحب دار القمار جراية يأخذها كل يوم لقاء صنعه هذا.‏
‏ فضحك الإخشيد وقال:‏ ‏ يا شيخ، تُب إلى الله من هذا.‏
‏ فتاب الرجل، فأمر له الإخشيد بثوب ورداء وألف درهم
وقال:‏ ‏ يُجْرَى عليه في كل شهر عشرة دنانير.‏ ‏ فدعا له الشيخ وشكره وخرج.
فقال الإخشيد:‏ ‏ رُدُّوه!‏ ‏ فلما لحقوا به وردُّوه
قال الإخشيد:‏ ‏ خذوا منه ما أعطيناه، وأبطحوه، واضربوه ستمائة جلدة.‏
‏ ثم قال للشيخ:‏ ‏ تطميعنا خير أم تطميعك؟

‏ من كتاب "المُغْرِب في حُلَى المَغْرب" لابن سعيد الأندلسي. ‏
حـوار طـريــف


حـُكي أن أعرابياً مرَّ بآخر
فقال له: من أين أقبلت يا ابن عم؟‏
‏ فقال: من الثـَّنية،
قال: هل أتيتنا بخير؟‏
‏ فقال: سل عما بدا لك.‏
‏ قال: كيف علمك بحيي؟‏
‏ قال: أحسن العلم.‏
‏ قال: هل لك علم بكلبي نـَفاع.‏
‏ قال: حارس الحي؟‏
‏ قال: فبأم عثمان.‏
‏ قال: ومن مثل أم عثمان؟‏
‏ قال: فبعثمان؟‏
‏ قال: وأبيك إنه جرو الأسد.‏
‏ قال: فبجملنا السقاء؟‏
‏ قال: والله إن سنامه ليخرج من الغبيط.‏
‏ قال: فبالدار؟‏
‏ قال: وأبيك إنها لخصيبة الجناب عامرة الفناء،

ثم قام عنه ناحية وقعد يأكل ولا يدعوه، فمر كلب فصاح به،

وقال: يا ابن العم أين هذا الكلب من نفاع.
‏ ‏ قال: يا أسفا على نفاع. مات.‏
‏ قال: وما أماته؟‏
‏ قال: أكل من لحم الجمل السقاء فاغتص بعظم منه فمات.‏
‏ قال: إنا لله، أو قد مات الجمل، فما أماته؟‏
‏ قال: عثر بقبر أم عثمان فانكسرت رجله.‏
‏ فقال: ويلك أماتت أم عثمان؟‏
‏ قال: أي والله علمت أنه أماتها لأسف على عثمان.‏
‏ قال: ويلك أمات عثمان؟‏
‏ قال: أي وعهد الله قد سقطت عليه الدار.‏
‏ فرمى الأعرابي بطعامه، وأخذ ينتف لحيته،
ويقول إلى أين أذهب؟‏
‏ فيقول الآخر: إلى النار،
وجعل يلتقط الطعام ويأكله ويهزأ به ويضحك

ويقول: لا أرغم الله إلا أنف اللئام. ‏

حورية البحر
استعراض الملف الشخصي
رسالة خاصة إلى : حورية البحر
البحث عن كافة مشاركات : حورية البحر
إضافة حورية البحر إلى قائمة الصداقة

بيـن أبي حيان التوحيدي ومـسكويه


قال لي مسـْكَوَيْه مرّة: ‏ ‏ أما ترى إلى خطأ صاحبنا الوزير ابن العميد؟
يـُعطي فلان ألف دينار ضـَربةً واحدة؟!
لقد أضاع هذا المال الخطير فيمن لا يستحق.‏
‏ فقلت له:‏ ‏ أسألك عن شيء واحد، فاصدُق فإنه لا مـَدَبَّ للكذب بيني وبينك.
لو غـَلـِط الوزير فيك بهذا العطاء، وبأضعافه وأضعاف أضعافه، أكنتَ تراه في نفسك مخطئـاً ومبذّراً ومفسداً أو جاهلاً بحق المال؟
أو كنتَ تقول ما أحسن ما فعل، وليتـَه أَرْبـَى عليه؟
إنما هو الحسد، أو شيء آخر من جنس الحسد، ما دفعك إلى قول ما قلت.
وأنت تدّعي الحكمة وتكتب عن الأخلاق. فافطـِن لأمرك واطـّلـِعْ على سـِرِّك.

‏ ‏ من كتاب "أخلاق الوزيرين" لأبي حيان التوحيدي.
--------------------------------------------------------------------------------

الرشيد والرجل الأندلسيّ

حكي أن رجلاً من الأندلس قدم على هارون الرشيد،
فقال له الرشيد:‏ ‏ يُقال إن الدنيا بمثابة طائر، ذَنَبُه الأندلس.‏
‏ فقال الأندلسيّ:‏ ‏ صدقوا يا أمير المؤمنين، وإنه طاووس.‏
‏ فضحك الرشيد، وتعجّب من سرعة جواب الرجل وانتصاره لبلده. ‏

من كتاب "نفح الطيب" للمقَّرى التِّلمساني
--------------------------------------------------------------------------------

المنـام

كان الإخشيد، والي مصر، إذا توفى قائد من قوّاده أو كاتب، صادر ورثته وأخذ أموالهم.
وكذلك كان يفعل مع التجار المياسير.
ثم حدث أن قبض على أبي بكر الماذرائي وأبى أن يطلقه حتى يدفع له ما مبلغه ثلاثة وثلاثون أردبا دنانير.
فما صار الماذرائي في الحبس حتى وقع أمر عجيب.
وذلك أن رجلاً من أهل العراق صعد فوق زمزم بمكة
وصاح:‏ ‏ معاشر الناس، أنا رجل غريب، وقد رأيت البارحة في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول لي: سِرْ إلى مصر والقَ الإخشيد، وقل له عني أن يطلق أبا بكر الماذرائي.
‏ ‏ ثم سار الرجل ووصل إلى مصر.
فلما بلغ الإخشيد خبره، أحضره
وقال له: ‏ ‏ إيش رأيت؟‏
‏ فأخبره.
فقال الإخشيد:‏ ‏ كم أنفقت في مسيرك إلى مصر؟‏
‏ قال: مائة دينار.‏
‏ فقال: هذه مائة دينار من عندي، وعد إلى مكة، ونم في الموضع الذي رأيت فيه رسول الله، فإذا رأيته فقل له: قد أديت رسالتك إلى الإخشيد
فقال: إذا دفع الماذرائي لي ثلاثة وثلاثين أردبا دنانير أطلقه.‏
‏ فقال له الرجل:‏ ‏ ليس في ذكر رسول الله هزل. وأنا أخرج إلى المدينة وأنفق من مالي، وأسير إلى رسول الله وأقف بين يديه يقظان بغير منام،
وأقول له: يا رسول الله، أدّيت رسالتك إلى الإخشيد فقال لي كذا وكذا.‏ ‏ وقام الرجل، فأمسكه الإخشيد وقال:‏ ‏ قد صرنا الآن في الجدّ، وإنما ظننتك في البدء كاذباً.
فلا تبرح حتى أطلق الماذرائي من حبسه. ‏

من كتاب "الاغتباط في حلي مدينة الفسطاط" لابن سعيد الأندلسي. ‏
- بأمـر أميـر المؤمنــين !!

--------------------------------------------------------------------------------

بأمـر أميـر المؤمنــين

صعد خالد بن عبد الله القسري المِنْـبَرَ في يوم جمعة، وهو إذ ذاك على مكة،
فذكر الحجـّاج بن يوسف فأثنى عليه ثناءً عظيماً وحمد طاعته للخليفة عبد الملك بن مروان، وترحّم عليه.‏
‏ فلما كان في الجمعة الثانية ورد عليه كتاب أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك يأمره فيه بشتـْم الحجاج ونشر عيوبه وإظهار البراءة منه.
فصعد خالد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه،
ثم قال:‏ ‏ "أيها الناس، إن إبليس كان مَلـَكاً من الملائكة، وكان يُظْهـِر من طاعة الله ما كانت الملائكة ترى له به فضلاً.
وكان الله قد علم من غـِشّه وخـُبثه ما خَفـِيَ على ملائكته.
فلما أراد الله فضيحته أمره بالسجود لآدم، فظهر لهم ما كان يـُخفيه عنهم، فلعنوه.‏
‏ "وإن الحجاج كان يـُظهر من طاعة أمير المؤمنين ما كُنـّا نرى له به فضلاً، وكأنّ الله أَطـْلـَعَ أمير المؤمنين من غشه وخبثه على ما خفي علينا، فلما أراد الله فضيحته أجرى ذلك على يديْ أمير المؤمنين فلعنه.
فالعنوه لعنه الله.‏ ‏ ثم نزل.

‏ من كتاب "العقد الفريد" لابن عبد ربه. ‏
--------------------------------------------------------------------------------

الــوزيـر

يوم الخميس أول شهر ربيع الآخر سنة ثمانمائة وتسعة وخمسين هجرية،
طلب السلطان إينال ثلاثة ليختار منهم مـَن يوليه الوزارة.
‏ ‏ استدعى أولاً ابن البخار،
فقيل له: هرب من القاهرة واختفى. فطلب ابن الهـَيـْصـَم،
فقيل له: مات في هذه الليلة وإلى الآن لم يـُدفن. فطلب فرج بن النحـّال، فحضر. فكلـّمه السلطان أن يستقرّ وزيرًا فامتنع واعتذر بقلـّة مـُتـَحـَصـِّل الدولة.
فلما زاد تمنـُّعـُه، أمر به السلطان فحـُطَّ إلى الأرض وضـُرِب نحو ثلاثمائة عصا إلى أن كاد يهلك.
ثم عـُمـِلت مصالحة وتولـّى الوزارة.
‏ ‏ ولو مـَنَّ الله سبحانه وتعالى بأن يبطل اسم الوزير من الديار المصرية في هذا الزمان
(كما أبطل أشياء كثيرة منها)، لكان ذلك أَجـْوَدَ وأجملَ بالدولة.
لأن هذا الاسم عظيم، وقد سـُمـّي به جماعة كبيرة من أعيان الدنيا قديمـًا وحديثـًا في سائر الممالك والأقطار، مثل جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي وغيره، إلى الصاحب إسماعيل ابن عبـّاد، وهلمّ جرّا، إلى القاضي الفاضل عبد الرحيم ثم بني حـِنـّاء وغيرهم من العلماء والأعيان، إلى أن تنازلت ملوك مصر في أواخر القرن الثامن حتى وليها في أيامهم أوباش الناس، فذهبت أُبّهة هذه الوظيفة الجليلة التي لم يكن في الإسلام بعد الخلافة أجلّ منها ولا أعظم، وصارت بهؤلاء الأصاغر في الوجود كـَلا شيء، إذ يباشرونها بعجز وضعف، وظلم وعسف.‏ ‏ فلا قوة إلا بالله!

‏ من كتاب "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" لابن تعزى بردى.
--------------------------------------------------------------------------------

بكم تبيع هـذين البيتين؟

قال مروان بن أبي حفصة الشاعر:‏
‏ خرجتُ أريد مـَعـْنَ بن زائدة أمدحه بقصيدة لي، فلقيت أعرابيـًا في الطريق،
فسألته: أين تريد؟‏
‏ فقال: هذا الملك الشيباني (يعني ابن زائدة).‏
‏ قلت: فما أهديتَ إليه؟‏
‏ قال: بيتين.‏
‏ قلت: فقط؟!‏
‏ قال: إني جمعتُ فيهما ما يسرّه.‏
‏ فقلت: أنشدهما.‏ ‏ فأنشدني:

‏ معنُ بن زائدةَ الذي زيدتْ بـه شرفا على شرفٍ بنو شيبان
إنْ عُـدّ أيـــام الفَعــال فإنّمــا يومـاه يـومُ ندًى ويوم طعانِ

وكنتُ قد نظمت قصيدتي بهذا الوزن.
فقلت للأعرابي:‏ ‏ تأتي رجلاً قد كثـُر الشعراء ببابه بيتين اثنين؟!‏
‏ قال: فما الرأي؟‏
‏ قلت: تأخذ منـّي ما أَمَّلـْتَ بهذين البيتين وتعود أدراجك.‏
‏ قال: فكم تبذل؟‏
‏ قلت: خمسين درهماً.
‏ ‏ قال: لا والله، ولا بالضـِّعف.‏ ‏ فلم أزل أرفـُق به حتى بذلتُ له مائة وعشرين درهمـاً. فأخذها وانصرف.‏ ‏ وأتيتُ معن بن زائدة، فأنشدته قصيدتي بعد أن جعلت البيتين في وسط الشعر. فوالله ما هو إلا أن بلغتُ البيتين فسمعهما، فما تمالك أن خرّ عن فـَرْشـِه حتى لصق بالأرض.
ثم قال:‏ ‏ أعد البيتين.‏ ‏ فأعدتهما.
فنادى:‏ ‏ يا غلام، ائتني بكيس فيه ألف دينار وصُبـّها على رأسه، وأعطه دابة وبغلاً وعشرين ثوباً من خاصّ كـُسـْوَتي!

‏ من كتاب "الموشـَّح" للمَرْزُباني. ‏
امرأة أبـي رافـع والصيرفـيّ ...

--------------------------------------------------------------------------------

امرأة أبـي رافـع والصيرفـيّ
كان أبو رافع مولى رسول الله.
وقد حدث أن رأته امرأته في نومها بعد وفاته،
فقال لها:‏ ‏ أتعرفين فلانـاً الصـَّيـْرفيّ؟‏
‏ قالت له: نعم.‏
‏ قال: فإن لي عليه مائتي دينار.‏ ‏
فلما انتبهت من نومها غدت إلى الصيرفي فأخبرته الخبر، وسألته عن المائتي دينار.
فقال:‏ ‏ رحم الله أبا رافع. والله ما جرت بيني وبينه معاملةٌ قط.‏ ‏ فأقبلتْ إلى مسجد المدينة، فوجدت مشايخ من جائزي الشهادة، مقبولي القول.
فقصـّت عليهم الرؤيا، وأخبرتهم خبرها مع الصيرفي وإنكاره لما ادعاه أبو رافع.
فقالوا:‏ ‏ ما كان أبو رافع ليكذب في نوم ولا يقظة. قومي بصاحبك إلى السلطان ونحن نشهد لك عليه.‏ ‏ فلما رأى الصيرفي عزم القوم على الشهادة لها، وعلم أنهم إن شهدوا عليه لم يبرح حتى يؤدّيها،
قال لهم:‏ ‏ إن رأيتم أن تـُصلحوا بيني وبين هذه المرأة على ما ترونه فافعلوا.‏
‏ قالوا : نعم، والصلح خير، ونـِعـْم الصلح الشـِّطر، فأدِّ إليها مائة دينار من المائتين.‏
‏ فقال لهم: أفعل، ولكن اكتبوا بيني وبينها كتابـاً يكون وثيقة لي.‏
‏ قالوا: وكيف تكون هذه الوثيقة؟‏
‏ قال: تكتبون لي عليها أنها قبضت مني مائة دينار صـُلحـاً على المائتي دينار التي ادّعاها أبو رافع عليّ في نومها، وأنها قد أبرأتني منها،
وشرطتْ على نفسها ألا ترى أبا رافع في نومها مرة أخرى!

‏ من كتاب "العقد الفريد" لابن عبد ربه
--------------------------------------------------------------------------------

بستـان الخليـفة

لمّا قُبض على الخليفة العباسي القاهر وسُمِلت عيناه وأفضت الخلافة إلى الراضي، طولب القاهر بأمواله الكثيرة التي خبأها، فأنكر أن يكون عنده شيء.
فأوذي وعُذِّب بأنواع من العذاب، وكل ذلك لا يزيده إلا إنكاراً.‏ ‏ فأخذه الخليفة الراضي وقرّبه، وطالت مجالستُه إياه وإكرامه له، ولاطفه وأحسن إليه غاية الإحسان.‏
‏ وكان للقاهر بستان في بعض الحصون قد غرس فيه النّارنج، اشتبكت أشجاره ولاحت ثماره كالنجوم من أحمر وأصفر، وبين ذلك أنواع الرياحين والزهر، وأنواع الأطيار من الشَّحارير والببغاء مما قد جُلب إليه من الممالك والأمصار.
وكان ذلك في غاية الحسن، وكان القاهر كثير الجلوس فيه.‏
‏ ثم إن الراضي رَفَق بالقاهر، وأعلمه بما هو فيه من حاجة إلى الأموال، وسأله أن يُسعِفه بما خبأه منها، وحلف له بالأيمان المؤكدة أنه لا يسعى في قتله ولا الإضرار به ولا بأحد من ولده.
فقال له القاهر:‏ ‏ ليس لي مال إلا في بستان النارنج.‏
‏ فصار الراضي معه إلى البستان، وسأله عن الموضع،
فقال القاهر:‏ ‏ قد ضاع بصري فلستُ أعرف موضعه.
ولكن مُرْ بحفره فإنك تظهر على المكان.‏ ‏ فحفر البستان،
وقلع تلك الأشجار والغروس والأزهار، حتى لم يبق منه موضع إلا حفره، وبولغ من حفره فلم يجد شيئاً.
فقال له الراضي:‏ ‏ ما ههنا شيء مما ذكرتَ، فما الذي حملك على ما صنعت؟‏
‏ فقال القاهر:‏ ‏ إنما كانت حَسْرَتي على جلوسك في هذا البستان وتمتّعك به، وقد كان لَذَّتي من الدنيا، فتأسّفتُ على أن يتمتع به بعدي غيري.‏

من كتاب "مروج الذهب" للمسعودي.‏
--------------------------------------------------------------------------------

كَـمْ عِنـدك؟


قال رجل لإبراهيم بن أدهم الزّاهد:‏ ‏ يا أبا إسحاق، أُحِبُّ أن تقبل مني هذه الجُبَّة كُسْوَةً.‏
‏ قال إبراهيم:‏ ‏ إن كنت غنياً قبِلتُها منك، وإن كنت فقيراً لم أقبلْها.‏
‏ قال: فإني غنيّ.‏
‏ قال: كم عندك؟‏
‏ قال: ألفان.‏
‏ قال: فَيَسُرُّك أن تكون أربعة آلاف؟‏
‏ قال: نعم.‏
‏ قال: أنت فقير، لا أقبلُها.
من كتاب "عيون الأخبار" لابن قتيبة.
__________________
--------------------------------------------------------------------------------

تعريـف الغوغـاء

يُطلق "الغوغاء" على هؤلاء الذين لا عبرة بهم.
قال الأصمعي:‏ ‏ والغوغاء الجراد إذا ماج بعضهم في بعض.
وبه سُمي الغوغاء من الناس.‏
‏ وقال آخر: هم الذين إذا اجتمعوا غلبوا، وإذا تفرقوا لم يُعرفوا.‏
‏ ومن علاماتهم ما تضمنته حكاية الخطابي عن أبي عاصم النبيل.

وذلك أن رجلاً أتاه فقال:‏ ‏ إن امرأتي قالت لي: يا غوغاء!
فقلت لها: إن كنتُ غوغاء فأنتِ طالق ثلاثاً. فما عساي أصنع؟‏
‏ فقال له أبو عاصم:‏ ‏ هل أنت رجلٌ إذا خرج الأمير يوم الجمعة جلست على ظهر الطريق حتى يمرّ فتراه؟‏
‏ فقال: لا.‏
‏ قال أبو عاصم: لستَ بغوغاء، إنما الغوغاء من يفعل هذا. ‏

من كتاب "طبائع المُلك" لابن الأزرق. ‏
سياسـة وكياســة


بلغ بعض الملوك سياسة ملك آخر.‏
‏ فكتب إليه:‏ ‏ قد بلغتَ من حسن السياسة مبلغاً لم يبلغه ملك في زمانك، فأفدني الذي بلغت به ذلك.‏ ‏ فكتب إليه:‏ ‏ لم أهزل في أمر ولا نهي،
ولا وعد ولا وعيد،
واستكفيت أهل الكفاية.‏
‏ وأَثـْبتُ على الغـَناء لا على الهوى.‏
‏ وأودعت القلوب هيبة لم يشبها مقت،
ووُدَّا لم يشبه كذب، وعممت القوت، ومنعت الفضول.
بـلاء أعظـم مـن بـلاء

قدم رجل من بني عبس، وكان ضريراً محطوم الوجه، على الوليد بن عبد الملك، فسأله الوليد، عن سبب ذلك،
فقال:‏ ‏ بـِتُّ ليلة في بطن وادٍ ولا أعلم في الأرض عبـْسيا يزيد ماله على مالي، فطرقنا سيل، فذهب بما كان لي من أهل وإبل ومال وولد، إلا صبياً وبعيراً، فنفر البعير، والصبي معي، فوضعته واتبعت البعير، فما جاوزت ابني قليلاً، إلا ورأس الذئب في بطنه يفترسه، فتركته.‏
‏ واتبعت البعير فرمحني رمحة حطـَّم بها وجهي، وأذهب عيني، فأصبحت لا مال عندي ولا ولد، حتى بصري قد فقدته كما ترى،
فقال الوليد:‏ ‏ اذهبوا به إلى عروة بن الزبير، وكان قد أصابه بلاء متتابع، ليعلم أن في الناس من هو أعظم بلاء منه. ‏
بـُلينا بـكم يـا متعطـّلين!


كان أبو الحسين بن أبي البغل واليـاً على إصبهان. فقدم عليه شيخ من الكتـّاب يطلب عملاً، وأتى معه برسائل كثيرة من الحضرة، يذكرون فيها طول عطلته، ويثنون على كفاءته، ويسألونه أن يوليه عملاً. فاستكثرها أبو الحسين، وفضّ منها واحداً فقرأه، ثم أقبل على شغله من غير أن يقرأ باقي الكتب.‏

‏ فقال له الرجل:‏ ‏ إن رأيتَ أن تقف على باقي الكتب.‏ ‏ فضجر أبو الحسن وتغيـّظ
وقال:‏ ‏ أليس كلها في معنى واحد؟ قد والله بـُلينا بكم يا متعطـّلين!
كل يوم يصير إلينا منكم واحد يريد عملاً. لو كانت خزائن الأرض لي، لكانت قد نفدت.
يا هذا! ما لك عندي تصرّف ولا عمل شاغر، ولا في مالي فضل فأبرّك. فدبـّر أمرك بنفسك.‏
‏ هذا والرجل ساكت.‏ ‏ فلما سكت أبو الحسين،
قام الرجل وقال: أحسن الله جزاءك.‏ ‏ وأسرف في الشكر والدعاء له، وولى منصرفـاً.‏
‏ فصاح أبو الحسين: ردّوه! فرجع.‏
‏ فقال له:‏ ‏ يا هذا، أتسخر مني؟ على أيّ شيء تشكرني؟ على إياسي لك من التصرّف، أو على قطع رجائك من الصلة، أو قبيح ردّي لك، أو ضجري عليك؟ أم أنك تريد خدعتي بهذا الفعل؟‏
‏ قال الرجل:‏ ‏ والله ما أريد خداعك. وما كان منك من قبيح الرد فـَغير مـُنكـَر، لأنك سلطان، ولحقك الضجر، ولعل الأمر كما ذكرته من كثرة الواردين عليك، وقد ضقتَ بهم.
واتـّفق لقوّة نحسي أَنْ كان هذا الرد القبيح في شأني. ولم أشكرك إلا في موضع الشكر، لأنك صـَدَقـْتني عما في نفسك من أول وهلة، وأعتقت عنقي من رق الطمع، وأرحتني من التعب بالغدو والرواح إليك، وخدمة قوم أستشفع بهم إليك، ولم تعدني بما لا تنوي الوفاء به.
ومعي بقية نفقة، لعلي أسافر بها إلى بلد آخر، وأطلب العمل من أحد سواك.‏
‏ فأطرق أبو الحسين. فلما مضى الرجل، رفع رأسه واستدعاه، واعتذر إليه، وأمر له بصلة،
وقال له:‏ ‏ خذ هذه إلى أن أقلـّدك ما يصلح لك، فإني أرى فيك مـُصـْطـَنـَعـاً.‏ ‏ فلما كان بعد أيام قلـّده عملاً جليلاً.

‏ من كتاب "الفرج بعد الشدّة" للتنوخي. ‏