سورة النور
( 3- كظلمات في بحر لجي..)
د.ضياء الدين الجماس
أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ 40 .
يبين هذا المثل سبب فشل أعمال الكافر ( لأنها تتم بجهالات في الظلمات):
الصورة الثانية لأعمال الذين كفروا ، تهدف إلى سبر السبب في ضلالة عمل الكافر ، إنها أعمال تتم من أعمى أصم ضالّ الإدراك ، تسحبه شهواته فترديه في ظلمات المهالك والعثرات التي تغضب الله تعالى وتؤذي خلقه.
إنه تصوير لحقيقة قلب الكافر الغارق في الظلمات بلا نور يهتدي به .
وهنا يتبادر للذهن سؤال :
لماذا لم ترد كلمة الظلمات في القرآن الكريم إلا بصيغة الجمع بينما لم ترد كلمة النور إلا بصيغة المفرد؟.
إنه تنبيه على أنه لا يوجد نور حقيقي يدل على طريق النجاة والسلامة إلا هدى الطريق المستقيم (الصراط المستقيم) وهو طريق واحد منور لا يتشعب ونوره من نور الله الواحد (هدايته الواضحة ) التي تهدي إلى هدف واحد وهو معرفة الله وطاعته ومحبته .
وأما ما سوى هذا الطريق فهي سبل متشعبة متعددة الاتجاهات والنهايات، تردي سالكها في الظلمات (مهالك الشهوات المتعددة – سلطان ومال وبطن وفرج...وقتل ودمار وإجرام..)
وهنا في هذا المثل يشير تعدد الظلمات إلى تعدد المنافذ الغارقة في الظلمات، والتي يمكن للنور الإلهي أن ينفذ منها إلى القلب فينيره، إذ نعلم أن القلب النفسي يحتوي على المراكز الأساسية النفسية التي تحقق مطالب النفس في الحياة كمركز الدوافع التي تدفع لعمل ما تطلبه النفس ، ويتأثر هذا المركز بمركز البصيرة ومركز الإدراك ( السمع) ومركز العواطف ( الشهوات) ، وبناء على محصلة ما تحدده هذه المراكز سيتكون الدافع لعمل الإنسان (ومصدره القلب إجمالاً)، فإذا كان أحد هذه المراكز مفتوحاً لنور الله كالبصيرة أو السمع أو الإدراك لتعاليم الله في آياته وضبط شهواته على الحلال منها فسيكون عمله مستنيراً منضبطاً بما يرضي الله تعالى ويكون نافعاً له . وأما إذا كانت هذه المراكز لا تعمل بشكل صحيح (في الظلمات) فستكون النتيجة مضطربة فلا رؤية صحيحة واضحة وبالتالي تكون النتيجة بالتردي في المهالك.
فتعدد الظلمات لتعدد منافذ النور ، ولو دخل النور من أي منفذ منها لسرت الإنارة منه للقلب واستنارت باقي المنافذ لوجود الاتصال بينها.
وتتقرر الحقيقة النهائية بأن لا مخرج من هذه الحالة إلا بالإيمان بالله تعالى ومحبته وبالتالي يتم دخول نوره (هداه) للقلب فتصبح الأذن مصغية لكلام الله وتعاليمه مدركة لها (يعمل الإدراك) وتنفتح البصيرة وتنضبط الشهوات على ما يحله الله تعالى ويرضاه وعندئذ سيكون العمل هادفاً مفيداً له وزنه ثقيل في ميزان السريع الحساب سبحانه وتعالى. ويكون معنى المثل باختصار :
أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ (قلب الكافر أو لبه) يَغْشَاهُ مَوْجٌ (يغطي سمعه- إدراكه) مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ ( يغطي بصيرته)، مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ (الشهوات التي تسحبه للمهالك)، ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ (متراكمة على مراكز التوجيه بالعمل) إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ (ليعمل بها) لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا (فإذا كان بالكاد يرى يده فكيف له أن يعمل بها عملاً دقيقاً مقبولاً، إنه لن يستطيع العمل ولن يرى نتائجه ، إنه عمل أعمى في ظلمات دامسة )، وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا (هدى ، بالإيمان بالله ومحبته وطاعته) فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ (فما له من هدى، فلا إله غير الله ومن أين يأتي النور بدونه سبحانه وتعالى؟،وهنا دليل وحدانية الله لعدم وجود نور من غيره، ومن يعمل بغير هدى الله فعمله يتم في الظلام يتردى بصاحبه في المهالك الجهنمية).
ملاحظة : استنبط بعض المحققين المتدبرين لقول الله تعالى : موج من فوقه موج ، لفت النظر للحقيقة العلمية الحديثة أن للبحر موج باطني دون الموج الظاهر. والله أعلم