إطلالة من مراكب الموت!!
ــــــ ـــــــ ــــــــ
خصتني أمي الفاضلة فايزة عبد الله سقباني ( نور الهدى خليل ) بقصيدة فريدة مؤثرة لها، دلَّتني على شاعرة مميزة متخفية في ثيابة قارئة باسم مستعار!!
أنشرها لكم هنا مع قراءة في بعض أبياتها أرجو أن تبلغني مبلغ الرضا في اللغة والفهم والتذوق، ومبلغ البر بالأم الكريمة، مع فتح الباب لأهل التذوق في استبانة معاني القصيدة وقراءتها بما يليق بالقصيدة والموضوع وصاحبتها..
ـــــــــــــــــــــــــــ
القصيدة كما يدل عليها العنوان هي صورة مقربة من قوارب الموت التي يركبها أهلنا في الشام هروبا من جحيم الحرب الظالمة إلى ما يشبه الأمل في حياة هي في كل الأحوال خير من الجحيم الذي صنعته الحرب ومن خَلْفَها وما خلَّفته..
لن أقول إن القصيدة على لسان أحد راكبي هذه القوارب، فإني إن فعلتُ فقد نزعت القلب من صاحبة القصيدة، ونزعت العاطفة من كل أم، ونزعتُ الإنسانية من كل قلب.. إنما هي النظرة عن كثب وما تخلفه من أثر في نفس من رأى، وليس من رأى كمن سمع.. لقد رأت أمنا الموتَ على عرشه متربعا، ورأت الأمواج بين يديه تقدم فروض الطاعة والولاء، وتقدم لها قرابين من هؤلاء الهاربين من الموت إليه!! نعم.. رأت ذلك كله، فرأت نفسها المسافرة على ظهر الموت.. لا تدري هل تسلم منه أم تُسلم القياد له.. ثم نظرت، فإذا أغلب الراكبين من فلذات كبد الشام، فتحركت فيها عاطفة الأم، ورأت أن كل راكب من هؤلاء الشباب إنما هم أبناؤها، وكل ما يصيب الأبناء إنما هو مصيب أمهم لا محالة.. فهي إن كتبت القصيدة فإنما كتبتها لأن قلبها هناك، ومن أرسل قلبه مع المخاطرين فقد ركب الخطر معهم.. وتلك لعمري حالة لا نستطيعها نحن ولو زعم الناس أنا قد بلغنا من الشعر مبلغا مُرضيا، ولو توهمنا نحن أننا صرنا من أهل الشعر وخاصته الذين يختصهم بفضائله ويغمرهم بشمائله.. فهذا وهم إذا قيس بهذه الأشياء مجتمعة: المعاينة وملامسة الخطر وملابسته، وعاطفة الأم ودقة إحساسها، وخوفها على أبنائها وتفطر قلبها على كل شيء يصيبهم أو يهدد حياتهم، وحسن البيان وقوة الشاعرية!! وأين أنا وأنت من كل هذا؟؟!!

فإذا فرغتُ من هذا البيان الموجز، فأنا قائل كلمات في بعض الأبيات استوقفتني حين قرأت القصيدة:
1- ركبنا الموجة الحمرا.. فررنا من مراسينا!!
لا تكون الموجة حمراء حتى يصبغها الدم، ولا يتمكن منها الدم حتى يتمكن الموت من رقاب العباد ويكشر عن أنيابه يفترس أرواحهم في هذا البحر الذي لا يرحم.. فالموجة إنما احمرَّت بدماء من ماتوا قبلُ، وقد كانوا كلما ماتت منهم طائفة صبغوا الموجة التي حملتهم، فلما تغوَّلَ الموت واحمرت الأمواج، صار البحر أحمرَ ابتداء.. فلا يلوح منه إلا الموتُ والموت في أبشع صوره، وقد كان مخيفا حين كان موجه كموج كل بحر.. فكيف يكونُ وقد تميزَ بأن صار عرش الموت منصوبا عليه؟
وانظر كيف يفر المرء من مرساه.. أ ليس إنما ينطلق من مرسى ليستقر في آخر، ثم لا يزال به الحنين حتى يعودَ إلى مرساه الأصلي؟ فكيف صار هذا المعذب في هذا العالم المتوحشِ يفر من مرساه إلى غير وجهة؟ وكيف صار لا يطمع إلا في الفرار من المرسى؟ والمرسى هو الوطنُ والبيتُ والأرض.. وما الحياة إلا سعادةٌ في البيت، وخروج منه من أجله، وشوق إليه لا ينطفئ إلا حين العودة إلى كنفه، وهل في الأرض جنة غير هذه، وهل فيها جحيم أقسى من الخروج من الجنة؟ فكيف تكون الحياةُ حين تصير الجنة جحيما، ويصير الذي كان جحيما أرحم من جحيم جنة الأمس على كل حال؟

2- تظللنا غيوم الموت.. أحلك من مآسينا
لقد صارت غيوم الموت المنذرة بالطوفان كثيفةً.. وهي أحلك من كل المآسي وأشد ظلمة منها.. إذ الطريقة التي نموتُ بها أشد قسوة من الموت نفسه.. وهل هناك مأساة أكثر من الموت إلا أن تكون بشاعة القتل؟ وهل هناك أبشع من أن تموت مرارا قبل أن يكون لك البحر قبرا متحركا.. يموتُ الوطنُ فتموت من أرضك بالقوة، ثم تقتلك الغربة بكل أسلحتها، ثم تقتلك الحيرة والشك والألم، ثم يقتلك صمت الناس من حولك وهم يرونك تموت، ثم يقتلك اليأسُ.. ثم يلوح لك أمل ضئيل في النجاة من شر الموت إلى موت أقل بشاعة.. فتجاهد نفسك في سبيله ثم يقتلك البحر قبل بلوغ مأملك..
3- ألا يا موتُ هل تصحو؟.. فنمضي مثل ماضينا
وهل كان الموتُ نائما؟ وهل كان القتل غافيا وهو كما قلتُ:
القتلُ أعْظَمُ حُرٍّ في البِلاَدِ لَهُ == في كُلِّ وَادٍ نَوَادٍ.. حَيْثُ يَنْتَزِهُ

كلا، ما نام يوما.. بل إن الشاعرة/ الأم تسأله: أ لا تصحو من سكرتك؟ فإنك أهلكت الحرث والنسل.. أ لا تصحو من غضبتك علينا، فقد أفنيتَ.. فاستبقِ بعضنا كما قال طرفة..
((فنمضي مثل ماضينا)) أي ماضٍ أو أي ماضين؟؟ فإن قلت: مثل الماضي، أي نعودُ كما كنا في عز وشرف ومجد.. وإن قلت: الماضين منا.. أي نلحقُ بالذين سبقونا إلى الموت واستراحوا من عذاب الدنيا وجحيمها..

4- بل الموت المحيط بنا.. نحييه ليحيينا!!
هذا البيت فيه بيان فريد، وله ثلاثة أبواب من أيها شئتَ فادخل..
فالباب الأول: أن يكون المعنى: إننا ننتظر الموتَ لينقلنا إلى الحياة الحقة، الحياة الخالدة التي لا ينالها إلا الصابرون المتقون.
والباب الثاني: أن يكون: إننا نبذل أنفسنا في سبيل الموت لتحيا الأمة بتضحيتنا.. ومن ضحى من أجل أمته فمات، فهو حي أبد الدهر.
والباب الثالث: أن هؤلاء يتقربون من الموت بالتحية ليرحمهم فيبقيهم أحياء!!

5- قوارب موتنا غضبى.. فلا تسطيعُ تُؤوينا
فترمي نصفنا في الماء.. نبكيه ويبكينا!!

أي شيء يغضب القوارب التي تحمل مع من تحملهم الموت؟ أ هي الأمواج المتلاطمة من حولها، أم هو ثقل الذين تحملهم على متنها؟ أم أن الأمرين اجتمعا معا فأغاظا المراكب وأغاظا الموت معها فهما ينتقمان منهم شر انتقام، ثم ينظران إليهم من بعيد يتأملان حالهم حين يلسعهم الموتُ أو يختطف أحدهم..
والبيتان صورة مقربة جدا للمهاجرين على قوارب الموت حين يهيج البحر وتكشر الأمواج عن أنيابها.. وثقل المركب بكثرة مَن فيه يزين الوليمة في عين الموج، ويقوي شهوة البحر، ويغري سهام الرياح مهما كانت مهارة من يقود المركب.. فيرى الركابُ أمامهم طريقين لا ثالث لهما: أن يهلك بعضهم ويبيعوا حياتهم لحياة الآخرين، أو يهلكوا جميعا.. فلا يكون أمامهم إلا أن يفتدي بعضهم الآخرين.. من يفدي إخوته بحياته؟ ومن يقتل أخاه بدفعه ليحيا هو؟ ومن.. ومن.. كيف أصفُ وقد تكلف الشعر بالوصف؟ وكيف أشرح والمعنى أكبر من أن أحيط به في هذه الصورة؟
فلندع الشعر يحدثنا عن المشهد بما يملكه من قوة، ولنفهم نحن ونتصور بما نملكه من آلة وبما يبلغنا إليه الإنصاتُ والتذوق.. وإن كان ما لنا يضيق كلما اتسع المعنى، ويقصر كلما طال البناء.. ولعله هنا كذلك..
((نبكيه ويبكينا)).. نحن في القراءة أمام طريقين.. طريق الضم وطريق الفتح.. أما طريق الضم، فتقول: إننا نُبكيه حين نرميه في الماء مكرهين، فنقتله بأيدينا من أجل حياتنا نحن.. ونُبكيه حين يستسلم للقدر فيواجه الموج والموت ونحن ننظر.. ويُبكينا ونحن ندفعه للموت.. ثم يُبكينا حين نرى في موته مصيرنا المحتم الذي لا ندري هل ننجو منه قبل الوصول للشاطئ أم لا؟.. ونبكي معا حين نعانقه العناق الأخير قبل أن ندفع به لمهلكه...
وأما طريق الفتح فتقول: أننا نَبْكيه حين لا نجد مفرا من رميه في الماء، ونَبكيه حين لا يكون أمامنا من حل إلا فقده.. وهو يَبكينا لأنه يرى أننا الأمواتُ لا هو.. لأنه سيتخلص من عذاب الحياة التي لا نعرف كيف ستكون حتى لو بلغنا الشاطئ الآخر.. ثم يبكي علينا وعلى حالنا التي دفعتنا ودفعته لمثل هذه المخاطرة..
والأول أقوى.. ولكن الثاني أيضا له وجه مليح وإن كان ما يصفه قبيحا شنيعا لا يملك من يقرأ الشعر إلا أن يبكي ولو كان قلبه أقسى من الحجر..

6- فهذا اليم مدفننا، وهذا الموج يسقينا
هذا يشبه أن يكون تماما للبيتين السابقين.. فهذا البحر أصبح لنا مقبرة، قتل منا وما يزال يقتل وسيظل يقتلنا إلى أن يشاء الله.. فإما أن يبتلع أحدنا أو جماعة منا فيكون قبرا متحركا لهم، فيقبر معه كثيرا من أحلامنا، وإن وصل بعضنا فلا بد أن يكون فقد بعض أهله في معركة الافتداء.. فيكون قد دفن جزءا منه مع من مات غرقا.. فهو مدفون في البحر على أي حال..
أما الموج، فيكون ساقيا في أمرين.. إما أن تطوف الأمواج بكأس المنايا تسقي بها من شاءت فيكون شراب الكأس موتا، وإما أن تكون الحياة أظمأت الراكبين موجَ البحر فيكون الموت شفاء لهم من العطش الذي لزمهم منذ أن حلت لعنة الحرب بساحتهم، فساء صباحهم والمساء.. ويحتمل أن تنصب كلمة "كؤوس الموت" في البيت التالي، فيكون المعنى واضحا.. ولكن البناء في هذه الحال يصبح أقل متانة وأقل سبكا..

وبعد: فلا تعجب لما يحدث.. ولا تعجب لما يقع.. فإن الذي حدث لأهل الشام في هذا العصر الميت أخلاقا وأفئدة مما لم يشهده عالم البشر إلا في حالات شاذة في التاريخ.. ولم يشهده عالم الوحش إذ هو أشرف بطبيعته عن هذه الحالة التي ارتفعت عنها البهيمية..
فهذه كلمة جادت بها القراءة.. لعلها تكون سائرة في موكب الاستبانة صاعدة في مراقي التذوق.. ولعلها -إن لم تنجح في سعيها- تكون مثيرا لأهل التذوق والبيان فيبينوا الزلل فيها والخطأ.. وينظروا إلى القصيدة بالعين التي يجب أن يُنظر بها إلى مثلها..
وأقول لأمي بعد هذا: أين كنتِ طوال هذه المدة؟ وأين أخفيت عن أبنائك كل هذا البيان؟ لقد ظلمتِ الشعر وظلمتِ الأمومة فارجعي إلى حضن القوافي، فستسلم لك قيادها.. فإن فيها فنا لا يحسن الخوض فيه إلا النساء، وليس كل النساء، إنما تحسنه المرأة التي تحمل هم بيتها وحيها وأمتها، وهذا الفن هو الذي جاءت في بابه القصيدة، ففيه من العاطفة ومن التصوير ومن قوة الأثر ما لا يستطيعه إلا النساء، ولا يبلغ أثره مبلغه إلا حين يصدر عن النساء.. ولو بذل الرجال كل ما يملكون ما بلغوا من ذلك شيئا.. وقد عرفت العرب هذا الفن قديما.. فكم من همة مستكينة أنهضها، وكم من ثأر نام عنه أصحابه أيقظه فأيقظ معه أهله، وكم من حق ضعف عن طلبه أبناؤه فقواهم على اقتفاء أثره ودلهم عليه..
ثم:
لَوْ كُنْتُ ذَا سَيْفٍ نَفَعْتُ.. فَإِنَّمَا == تَصِفُ الظُّبَى مَا لاَ تَرَى الأَقْلاَمُ