فلسفة هيجل: مضمونها، أنواعها:


تنقسم فلسفة هيغل إلى ثلاثة ميادين معرفية كبرى، كانت محط اهتمام جل الفلاسفة ويتعلق الأمر ب: علم المنطق؛ فلسفة الطبيعة؛ فلسفة الروح؛ وهي ميادين مترابطة في نسق فلسفي متميز يجعل المهتم ينتقل من مستوى إلى آخر ليتمكن من رسم صورة واضحة على هذا النسق الفلسفي. لذلك ففلسفة هيجل هي فلسفة نسقية بامتياز. وتشترك هذه الميادين الثلاث في موضوع واحد، أي انها تدرس نفس الموضوع لكن في مستويات مختلفة وينعلق الأمر ب: “الفكرة الشاملة” أو “الفكرة المطلقة” أو إن شئنا القول “العقل” في صور متنوعة: “العقل” محضا في المنطق، و”العقل” في حالة تخارج في فلسفة الطبيعة، و”العقل” حين يعود إلى نفسه في فلسفة الروح.1
فعلم المنطق هو دراسة الفكرة الشاملة لذاتها، معرفة نفسها بنفسها، وهي الحقيقة عينها، لأن الحقيقة ” …هي أن الفكرة الشاملة لا تتضمن شيئا آخر يفكر فيه سوى الفكرة الشاملة نفسها …”2، وقد أضفى هيغل ها هنا غطاءا لاهوتيا – إن صح القول – على موضوع الفلسفة، لأن ” … موضوعات الفلسفة هي نفسها موضوعات الدين: فالموضوع في كليهما هو الحقيقة. بذلك المعنى السامي الذي يكون فيه الله هو الله وحده، هو الحقيقة .. ” 3 .
ولا ينبغي أن يفهم أن وحدة موضوع أقسام “فلسفة هيجل (الفكرة الشاملة) تلغي التمايز / الإختلاف، بل على العكس تماما تقر به، فالفكرة المطلقة في علم المنطق هي الفكرة بشكل مجرد إطلاقي، تعي ذاتها بذاتها، وتعقل الأمور في نفسها، حيث أ = أ، “العقل” هو “العقل”، لكن في “فلسفة الطبيعة”، الفكرة المطلقة / الشاملة تخرج من ذاتها إلى الآخر. إنها “العقل” في حالة تخارج، نقيض حالتها الأولى وبالتالي ف “العقل” يغدو “لا عقل” أو “اللامعقول”. أما في فلسفة الروح فتعود إلى نفسها، حيث الوحدة بين العقل واللاعقل، ويجمل ولترستيس هذا التمايز قائلا: “… المنطق يدرس الفكرة كما هي في ذاتها، وهذه هي الكلي (القضية). أما الطبيعة فهي الفكرة في الآخر، وهي ضد الفكرة في ذاتها، وهذا هو الجزئي (النقيض). أما الروح فهي وحدة المنطق والطبيعة وهذا هو المركب (الفردي)…”4.
وقبل مناقشة كل دائرة من هذه الدوائر، فإننا نسوق هنا ملاحظة جوهرية، ألا وهي أن هذه التفريعات / التقسيمات الثلاثية التي يعتمدها هيغل كطريقة في جل كتاباته بدون استثناء، إنما نابعة من قضية منطقية أساسية: القضية / نقيض القضية / التركيب.
ويعطي هيجل مفاهيم أخرى أكثر دلالة: الكلية / الجزئية / الفردية. ذلك أن الكلية تأخذ معنى الإيجابية (الشمولية)، والجزئية معنى السلبية، أما الفردية فهي المركب، ويعلق لينين عن تلك القضية قائلا: << … ما يتبع انبساط الكلي والخاص (الجزئي) والمفرد، هو إلى حد ما مجرد و “عويص” >> و يضيف أن الشيء الاساسي عند هيجل هو أن “يسم الانتقالات” حيث في بعض الشروط: الكلي هو الخاص، والخاص هو الكلي ” ليس فقط على “مستوى الترابط (ترابط لا ينفصم لكل المفاهيم والاحكام)، بل “على مستوى الانتقالات” أيضا (انتقال من مستوى إلى آخر) و على مستوى “تماثل المتناقضات”5.
أولا - المنطق عند هيجل: موضوعه، أقسامه:
<<… المنطق هو علم الفكرة الخالصة، بمعنى أنه علم
الفكرة في وسطها الفكري الخالص … >>
موسوعة العلوم الفلسفية ص 79 فقرة 19.
لا يكتفي هيجل ها هنا بالقول أن علم المنطق يدرس الفكرة الشاملة وفقط، وإنما “علم الفكرة في وسطها الفكري…” وهنا أساس التمايز بين المنطق الهيجلي والكلاسيكي الذي يحصر موضوع المنطق في “دراسة الفكر كفكر”، إن هيجل يتبدى لنا ضد الشيء في ذاته “الذي ليس سوى شئ في ما – بعد الفكر” وهي هنا لا تنطبق على الأشياء في ذاتها” كما يقول لينين: << عادة يفهم المنطق على أنه “علم الفكر”، “فقط شكل المعرفة” هيجل يدحض هذا المفهوم. ضد الشئ في ذاته” الذي ليس سوى شئ في ما – بعد الفكر”. أشكال الفكر في هذه الحال لا تنطبق على “الأشياء في ذاتها” ولكنها معرفة حمقاء تلك المعرفة التي لا تعرف الأشياء في ذاتها، ثم أليس الفهم شيئا في ذاته؟>> (دفاتر عن الديالكتيك ص 133). ويضيف هيجل أن “… موضوع المنطق هو بصفة عامة، عالم ما فوق الحس، ودراسة هذا الموضوع تعني البقاء لفترة في هذا العالم ” (الموسوعة ص 84 إضافة رقم 2 للفقرة 19)، لنلاحظ كيف قلب هيجل موضوع المنطق الذي ساد منذ اليونان مرورا بالقرون الوسطى إلى حين مجيئه. إن نظريته في المنطق - إن صح التعبير - لا تتجاوزها أية ثورة فكرية في عصره بل تظل متميزة، وكذلك الامر في جل ميادين المعرفة التي بحثها والتي يظل المنطق لديه العصب والركيزة الأساسية فبفضل “المنهج الجدلي” دخل إلى تلك الميادين من بابها الواسع، وقد عبر ماركس عن ذلك واعترف قائلا: <<… حين كنت أكتب الجزء الاول من “رأس المال” كان أول أبناء الجيل الجديد، أولئك الأدعياء المتهورون التافهون يتباهون أنهم ينظرون إلى هيجل نظرتهم إلى “كلب ميت” … لذا بادرت وأعلنت صراحة أنني لست إلا تلميذا لهذا المفكر العملاق…>> (كارل ماركس: “رأس المال”) وبعده جاء لينين ليعلن: “لا يمكن فهم “رأس المال” وخصوصا فصله الأول فهما كاملا بدون دراسة وفهم كل منطق هيجل. إذن، ما من ماركس فهم ماركس بعد مضي نصف قرن عليه!!”6.
والمنطق عند هيجل “علم الفكر: بقوانينه وأشكاله المتميزة”7 تلك القوانين التي لا تنبثق إلا من خلال تأمل الواقع الفعلي، أرضها الواقعية، وهذه المقولة سيطورها فويرباخ ثم ماركس فيما بعد ليعطيا لها معناها المادي. ويتضمن المنطق عند هيجل باعتباره لحظة المباشرة:
I الوجود: والوجود لا يبدأ إلا من “اللا شيء” من العدم، يعطي لنفسه كل قواه للظهور. تماما كما يبدأ المكان في فلسفة الطبيعة من الفراغ. وهو بدوره ثلاثة أقسام:
أ_ الكيف: وينقسم بدوره إلى ثلاثة أفرع عبارة عن مثلثاث، حيث الفكر عند هيجل عبارة عن سلسلة من التصورات، وهو نوعان: الفكر بالمعنى الواسع الذي يشمل التصورات العقلية الخالصة أو المقولات ونقول المقولات المنطقية تميزا لها عن ما عرف اليوم بالمقولات الإقتصادية (التي ظهرت مع الإنجليزي ريكاردو). والخلايا الأولى للفكر هي مجموعة من مثلثات صغيرة تتفرع إلى أضلع:
الضلع الأول وهو مباشر، والضلع الثاني وهو متوسط والضلع الثالث، وهو الجامع بين الضلعين الأول والثاني.
وليس بإمكاننا أن نعرض كل هذه التفاصيل لكون موضوعنا ليس موضوع دراسة المنطق الهيجلي، بل إن في نيتنا فقط أن نعطي مجرد نظرة عامة حوله.
ب – الكم: شأنه كذلك شأن الكيف ينقسم إلى: الكم الخالص الذي يمر بمرحلة الكم الخالص ذاته ليصل إلى تحديد الكم مرورا بالمقدار المنفصل والمتصل، والمرحلة الأخيرة هي التي تنقلنا إلى العنصر الثاني من الكم الذي هو: الكمية، وتمر كذلك عبر مراحل ثلاث لتنقلنا إلى العنصر الثالث من الكم الذي هو الدرجة… وهكذا إلى أن نصل إلى المستوى الثاني من منطق هيجل: الماهية بفضل آخر عنصر من الوجود: اللامتناهي الحقيقي.
Ii – الماهية: (لحظة التوسط) هي دائرة التوسط: فلا نستطيع أن نصل إليها إلا من خلال الآخر أي من خلال الوجود الذي هو الحقيقة الواقعية أو الوجود بالفعل. وتتفرغ عنها مثلثاث أخرى تتفرع عنها أقسام أخرى إلى أن نبلغ فكرة التفاعل التي هي مركب (الجوهر والعرض) و (السبب والنتيجة) التي تنبثق منها لحظة المركب.
Iii - الفكرة الشاملة: وهي مركب المتوسط والمباشر، أي الوجود والماهية، يتفرع عنها الفكر الذاتي والفكر الموضوعي والفكرة. وعلى غرار سابقاتها مثلثاث تخرج منها مثلثاث أخر.8
وإذا كان المنطق قد بدأ بدراسة “الفكرة المطلقة” من حيث هي هي - كما أشرنا – فإنه قد انتهى بها، ذلك أن آخر مثلث في الفكرة الشاملة هي “الفكرة المطلقة” التي تمثل داخل هذه الدائرة، مركب “الحياة: (الكلي أو القضية) و “المعرفة” (الجزئي أو النقيض) وقد انتهى بها لأنها كما يقول ولترستيس (ص 404) فقرة 408: <<المقولة التي تكشف عن نقيضة تحتاج إلى تجاوزها داخل دائرة الفكر الخالص، بحيث ننتقل إلى مقولة أعلى، فهي ليست تجريدا من جانب واحد، وإنما هي الكل العيني، هي الحقيقة النهائية. ومن ثمة فإننا ننتقل من دائرة الفكر الخالص، أي من دائرة المنطق إلى دائرة الطبيعة>>. فكما سبق وأن أشرنا في البداية أن فلسفة هيجل تدرس “الفكرة المطلقة” في جميع فروعها، انتهى بها المنطق لتبدأ بها الطبيعة، وحتى آخر قسم، بل آخر مثلث في مركب الطبيعة والمنطق (فلسفة الروح)، الذي هو الفلسفة تنتهي بهذه الفكرة، وذلك لسبب بسيط على حد تعبير هيجل، هو أنه لا شيء يدرك الفكرة المطلقة سوى الفكرة المطلقة ذاتها، ويعلق إنجلس على ذلك قائلا: << … في كتابه المنطق استطاع أن يصنع بدوره من هذه النهاية بداية، بمعنى أن النقطة النهائية هنا، ال “فكرة المطلقة” - وهي ليست مطلقة إلا لأنه لا يعرف البثة ما الذي يقول لنا عنها - “تستلب” في الطبيعة، أي تتحول إليها (إلى الطبيعة)، وتعود من جديد فيما بعد إلى نفسها في الروح أي في الفكر والتاريخ. ولكن في نهاية كل فلسفة، لا يمكن لعودة كهذه إلى نقطة الانطلاق أن تتم إلا عبر وسيلة واحدة، ألا وهي: افتراض أن نهاية التاريخ هي أن تتوصل البشرية تماما إلى معرفة هذه ال “فكرة المطلقة”، وأن تعلن أن هذه المعرفة لل “فكرة المطلقة” قد بلغت نهايتها في فلسفة هيجل. ومن هنا يعلن بمثابة حقيقة مطلقة كل المحتوى المعتقدي لمنظومة هيجل، الأمر الذي يناقض منهجه الديالكتيكي…>>9.
ثانيا - فلسفة الطبيعة عند هيجل:
إذا كانت “الفكرة المطلقة” في المنطق تعرف نفسها بنفسها، وتكتفي بذلك وهي المقولة التي بدأ بها هذا الفرع النظري بحثه، وانتهى بها، فإنها باعتبارها نهاية بحث المنطق، تمثل بداية “فلسفة الطبيعة”، لكن الأمر يختلف جوهريا، فإذا كانت في المنطق، هي “الفكرة” منظورا إليها من الداخل، فإن في هذه الدائرة الوسطى “فكرة مطلقة” منظور إليها من الخارج، أي أنها في حالة تخارج.
إن الطبيعة تمثل النقيض المباشر للكلية (القضية) أي للمنطق، وبما أنها كذلك، فإنها جزئية وسلبية. ويعتبرها إنجلس ولينين “المنهج الجدلي” مطبقا على الواقع الفعلي، ذلك أن أسس ومبادئ هذا المنهج معروضة في “المنطق” كأفكار، لكنه في الطبيعة يتخذ طابع التجسيد طابع الحلول والتموضع، وقد حاول هيجل أن يطبقه على الميكانيكا والفيزياء والعالم الحيواني، عالم الكائنات الحية (أو العضوية)، إنه متجسد في الأشياء وليس في الأفكار المجردة (كما في المنطق)، نراه في الكائنات العضوية، وفي كل أجزاء الطبيعة متمكنا بذلك من صياغة قوانين المعرفة العلمية، التي ستشكل أسس العلوم الطبيعية والبيولوجية و الجيولوجية…، وهذا هو واقع الحال في فلسفة الروح، يطبع المنهج الجدلي على عالم التنظيمات الإجتماعية والسياسية والقانونية… مستنبطا الدولة من المجتمع المدني، وهذا الأخير من الأسرة، كما استنبط فكرة الحيوان من النبات في الطبيعة. والقول بأن هيجل قد أسس وساهم في بناء نسق المعارف العلمية واع بنفسه “فليس ثمة علم واحد لم يتأثر بفلسفة هذا العبقري”.
إن فلسفة الطبيعة تبدأ بمقولة المكان الفارغ، كما بدأ المنطق بالوجود مستنبطا من الفراغ / العدم، فالمكان في الطبيعة عدم، تجريد وفراغ كاملين، فهو”ليس له في ذاته أي طابع ولا مظهر ولا سمة ولا تحديد من أي نوع إنه اللاصورة” عبارة عن “فراغ متصل ومتجانس خال تماما من أي تمايز داخله”10. نتحدث عن المكان كجزء من مثلث ضلعاه الآخران: “الزمان” و”المادة” وهو الحد الأدنى في الطبيعة، أما حدها الأقصى، فهي نهايتها، انتقالها إلى الروح حيث تعود “الفكرة الشاملة” إلى ذاتها / نفسها. وباعتباره كذلك (أي فارغة من أي محتوى) فإنه (أي المكان) نقيض الفكرة، إنه نقيض القضية، يسير في سيرورة من العمليات إلى أن يعقل ذاته. حين بلوغه الكائن الحي الذي يعتبر نهاية “فلسفة الطبيعة” هذا الكائن المستنبط من النبات طبعا، وكي نوضح هذا الأمر فإن بإمكاننا القول على نحو ما جاء في الجزء الثاني من الموسوعة (فلسفة الطبيعة) أن الطبيعة تنقسم إلى ثلاثة لحظات:
1 – الآليات أو الميكانيكا: أو ما يسمى فيما بعد ب “علم الميكانيكا”.
2 – الطبيعيات أو الفيزياء: علم الفيزياء والطبيعة.
3 – العضويات: وهي ثلاثة مراحل: * الكائن الحي البيولوجي (علم البيولوجيا) * الكائن الحي النباتي * الكائن الحي الحيواني. إن الكائن الحي أو الذرة الحية، هي مفتاح المرور إلى “فلسفة الروح”.
ثالثا – فلسفة الروح: موضوعها، أنواعها:
لا تشكل “فلسفة الروح” استثناءا من نسق هيجل الفلسفي، ولو كان ذلك واقع الأمر ما كان بالإمكان الدخول في هذه التفاصيل حول المنطق وفلسفة الطبيعة. إن فلسفة الروح هي على غرار اللحظات السابقة عليها، تمثل “المركب في المثلث”، إنها مركب القضية التي هي المنطق، ونقيضها الذي هو الطبيعة، تبحث أيضا “الفكرة الشاملة” والمنهج الجدلي هنا مجسد في الواقع، في عالم التنظيمات الإجتماعية والسياسية والقانونية، (الدولة والاسرة والمجتمع المدني) وعالم النفس والذهن والوعي، وعالم الفن والدين والفلسفة.
فالإنسان وجود روحي، أو كائن حي عاقل ذو فكر خالد، وهو جزء من الطبيعة، إنه إجمالا وجود مادي محسوس، ووجود روحي / فكراني. ومن المعلوم أن الفكر عند هيجل هو المحدد هو أصل كل شيء في هذا العالم، والروح هنا تبحث هذا الوجود الفكري في الإنسان قبل أن تبحث الإنسان ذاته، وهذه هي مملكة الروح. إن هذا القسم من فلسفة هيجل يبحث في تجلي الفكر أو المطلق في الإنسان، وذلك لا يتم إلا بواسطة عملية جدلية طويلة وشاقة، وهيجل هنا يبدأ من أبسط المراحل من أدناها، كي يبلغ تحققه الكامل تدريجيا، بفضل المنهج الجدلي. وتنقسم فلسفة الروح إلى ثلاث دوائر كبرى: * الروح الذاتي * الروح الموضوعي * الروح المطلق.
I – الروح الذاتي : يدرس الروح الذاتي بالأساس العقل البشري من الناحية الذاتية أي كعقل فردي أو عقل الذات الفردية في مستويات ثلاث:
- النفس: ويهتم بهذا المستوى ما يسمى بعلم الأنثروبولوجيا وهو ثلاثة أقسام: النفس الطبيعية، وتأتي من الفراغ كما يأتي الوجود في المنطق من العدم أو كما يأتي المكان من اللاشيء من الفراغ هو أيضا، ذلك أنها أول مقولة في الروح الذاتي لا بد أن يبرهن على ذاته من خلال ذاته، إنها عبارة عن فراغ متجانس للفكر. وتدخل فيها: الخصائص الطبيعية لهذه النفس كشيء إيجابي أو كقضية تمثل التحويلات الفيزيائية نقيضها أو جانبها السلبي ثم الحساسية (تظهر من خلال التمييز الداخلي الضمني بين الوجود المباشر للنفس وبين مضمونها) كجانب إيجابي وسلبي في آن معا. والوعي الحسي هو الوعي الذي تقدم لنا فيه الحواس موضوعات خارجية.
النفس الشاعرة أو الحاسة: تمثل النفس الجانب السلبي المتقلب أما الإحساسات فتمثل الجانب الإيجابي، لكن هذه الأخيرة تدرك نفسها أنها جزء من النفس عامة، لهذا السبب تكون لدينا النفس الحاسة أو الشاعرة، والشاعرة هنا بمعنى التي تشعر. وهي أولا في مباشرتها ذلك أن النفس موجودة في كل موجود قبل أن يشعر بها فمثلا الجنين في داخله نفس، والأم هي التي تحس بذلك وليس الجنين، وكذلك حالة التنويم المغناطيسي، فالمريض لا يشعر، ولكن المنوم هو الذي يشعر،لأن نفس المريض مندمجة في نفس المنوم. وعندما يشعر المرء بالنفس فهذا مستوى آخر من النفس الشاعرة إنه جانبها المتوسط للنفس الحاسة في مباشرتها والعادة. وفي هذا التوسط يدرك الأنا نفسه. أما العادة كمركب المستويين أعلاه فهي الكلية الصورية للأنا عليها أن تتجلى في جزئيات، ولا تظهر إلا ككلية في صورة عددية أي تكرارا لوحدات الإحساس، والشعور، والنشاط ..
- النفس الموجودة بالفعل إن النفس المتحققة هنا هي الأنا أو الذات الفردية، إنها بتعبير آخر تلك المرحلة من مراحل الروح التي تتحقق فيها النفس من أن مضمونها ليس شيئا غريبا عنها. وهنا ينتقل هيجل من الأنثروبولوجيا إلى الفينومينولوجيا أو الوعي.
- الوعي ويدرسه بالأساس علم الفينومينولوجيا: وقد قدم هيجل أفضل عرض في كتابه “ظاهريات الروح” أو ما يسمى ب “فينومينولوجيا العقل”11، ويتناول في هذا الكتاب ستة محاور كبرى: - الوعي – الوعي بالذات - النطق - العقل - الدين - المعرفة المطلقة. الترجمة التي أشرنا إليها لا تشتمل إلا على الفصلين الأوليين (الوعي والوعي بالذات). والوعي “وعي بالموضوع من جهة وبنفسه من جهة أخرى، أي بما ينزل عنده منزلة الحق وبالمعرفة المتحصلة لديه عن هذا الحق”.12 ويضيف هيجل في إطار تعريفه للوعي (المرجع الأخير ص 73) قائلا: ” …ذلك أن الوعي يدرك شيئا ما، وهذا الموضوع هو الماهية، أو هو الشيء في ذاته، ولكنه أيضا الشيء في ذاته بالنسبة إلى الوعي… فنحن نرى أن الوعي له الآن موضوعان: أحدهما هو الشيء الأول في ذاته وآخرهما هو الكون للوعي لهذا الشيء في ذاته. هذا الموضوع الأخير يبدو للوهلة الأولى أنه انعكاس للوعي في [مرآة] نفسه: تمثل منه لا لموضوع بل لمعرفة بالموضوع الأول ليس إلا. بيد أن الموضوع الأول … يتغير في خلال هذه الحركة، فلا يعود هو الشيء في ذاته بالنسبة إليه، بحيث يغدو ذلك الكون له لهذا الشيء في ذاته هو الحق” (الموسوعة ص 73). والوعي في هذا القسم ثلاثة أنواع:
1-الوعي الأصلي، 2-الوعي بالذات، 3-العقل:
1-الوعي الأصلي: يمر بثلاثة مراحل: - الإدراك المباشر للموضوع الفردي ويشكل ما يسميه هيغل: الوعي الحسي. (وهو موجود، ينسب صفة وجوده إلى الموضوع فقط، ولم يدرك أي شئ عن الموضوعات الأخرى. ولو أنه يدرك ذلك لأصبح شيئا آخر غير الوعي الحسي. ويسمى الوعي بالحواس، وعي يرتكز فقط عما يدور حوله دون غيره). وما دام الوعي الحسي يقتصر فقط على ما هو محسوس ظاهري في الشىء، فإنه بذلك ناقص وسلبي، يستدعي ظهور نوع آخر من الوعي، ألا وهو الإدراك، وهو كذلك حسي. وبذلك فالمرحلة الثانية هي الإدراك الحسي. لكنه يكشف أيضا عن تناقض ذاتي (بين الكلي والفردي) ومن هنا تظهر ضرورة وجود نوع أعلى منه. هو الفهم.
- يظهر الفهم كما قلنا من تناقض الإدراك الحسي. والفهم ليس هو العقل لأن الفهم يضع تعدد الحس على أنه مظهر في جانب، كما يضع الكلي في جانب آخر بوصفه الحقيقة الواقعية. وهي المرحلة الأخيرة من الوعي الأصلي.
2-الوعي الذاتي: إن الوعي الأصلي ينظر إلى الموضوع على أنه مستقل عن الذات (وجود غريب لا يمكن النفاذ إليه: أي سلب الذات أو اللا ذات) أما الوعي بالذات فهو نوع جديد. على نقيض الوعي الأصلي يرى في الموضوع نفسه ولا ينظر إليه على أنه مستقل أو غريب. والذات هنا ذات وهي نفسها. والوعي الذي يدرك الذات (كالإنسان) هو وعي بالذات أو الوعي الذاتي. ذلك أن الحيوانات على سبيل المثال لا تمتلك وعيا ذاتيا لأنها لا تدرك ذاتها بوصفها ذات. والوعي الذاتي يتطور في ثلاثة مراحل أيضا: * الميل الفطري أو الرغبة الغريزية * الوعي الذاتي المعرفي * الوعي الذاتي الكلي
وفي المرحلة الأخيرة فقط يدرك الوعي الذاتي ذاته بوصفها وحدها الوجود المستقل وينفي ويلغي استقلال الآخر. والعبد ليس وعيا ذاتيا لأن حريته مسلوبة وبالتالي استقلاله الذاتي ملغي (وكل استلاب للذات، يعني إلغاء لها، انعدامها وهنا وجب نبذ العبودية والرق)13 ووعيه يبقى في مرحلته الأولى أي في مرحلة الوعي الأصلي فحسب.
3 – العقل: إن مبدأ العقل هو مبدأ هوية الأضداد. حيث الموضوع متميز عن الذات، لكنهما متحدان، إن العقل هو وحدة الوعي الأصلي والوعي الذاتي، أي وحدة الحالة التي يكون فيها الموضوعي الذاتي مستقل ومتميز عن الذات ونقيضه الذي يصبح فيه الموضوع متحد مع الذات في هوية واحدة. هذا فالعقل كمبدأ وحدة الضدين، يتضمن تمييز الموضوع عن الذات ومتحد معها في وقت واحد إنه “الهوية في التباين” أو “الوحدة في الإختلاف”.
- علم النفس / الذهن: وتعني كلمة الذهن عند هيجل: الوجود الروحي بصفة عامة (الذي يبدأ في تطوره من الأنثروبولوجيا ويستمر على طول فلسفة الروح كلها). والوجود الروحي بصفة خاصة (بوصفه أعلى مرحلة من مراحل الروح الذاتي). إن الذهن هو موضوع علم النفس من وجهة نظر هيجل (وربما لا يبقي أي أساس قيمي لهذه النظرة في علم النفس المعاصر) وهو ثلاثة أنواع:الذهن النظري أو المعرفي: إنه الذهن في مباشرته ومضمونه موجود في البداية عثر عليه موجودا، والعقل يتصرف هنا في شيء موجود، أي أنه (العقل) حين يجد شيئا موجودا أمامه بالفعل، فإنه لن يتوانى عن معرفة هذا الشيء الذي وجد أمامه قائما. وهذا الشيء الموجود هو الذهن النظري، يتطور وفق ثلاثة مراحل:
الحدس: مرحلة المباشرة في الذهن النظري ، وهو ما يؤسس المعرفة الحدسية، التي يعتبرها، البعض بمثابة الحقيقة، لكن بالنسبة لهيجل الحدس هو أدنى مرتبة في الذهن النظري فصحيح أنه قد يتضمن حقيقة، لكنها حقيقة لا حقيقية، أي الحقيقة في صورة اللاحقيقة، إنه (الحدس) مجرد انطباع ذاتي للفرد والحدس يمارس عن طريق: الإنتباه، والشعور.
التمثيل: أي تمثيل الشيء الذي يظهر كمعرفة، يسير في مراحل ثلاث كذلك: - الإسترجاع - الخيال – الذاكرة. والذاكرة تمثل مرحلة انتقال من التخيل المحض إلى الفكر الأصلي.
التفكير: الإنتقال إلى هذه المرحلة هو انتقال يتم عبر مزج الحدس والتمثيل، فالحدس كلي والتمثيل جزئي.
والفكر عند هيجل هو وحدة الفكر نفسه والوجود (ذلك أن هيجل هنا ينتقد كانط الذي يقيم فصلا بين الفكر والوجود) أي وحدة الفكر ذاته مع الآخر. ويلخص هيجل نظرته للفكر في قوله: “نحن نعرف أن ما يدل عليه الفكر موجود، وأن ما هو موجود لا يكون كذلك إلا بمقدار ما يكون فكرا” وليس غرابة أنه ينظر إلى الفكر هنا كشيء حقيقي، كشيء هو الحق وليس الباطل، هو أن أصل الكل هو “الفكرة الشاملة” عينها.
- الذهن العملي أو الإرادة: إن الفكر هو أصل كل شيء، كما أن الكلمة في المسيحية هي أصل العالم، أصل كل شيء (هي الله متجسدة في عقول البشر) وما دام الفكر عند هيجل هو الذات أي أن موضوعه هو الذات لا غير، فإنه لا يرى في العالم شيء ماديا، بل شيء خلقه هو بفكره، والفكرة هنا هي “الله متجسدة في عقل هيجل” (وللمزيد من نقد الفكرة عند هيغل، يمكن الإستعانة بأطروحات فويرباخ في كتابيه: “أطروحات من أجل إصلاح الفلسفة” و “مبادئ فلسفة المستقبل” بالاضافة الى نقد فلسفة الحقوق عند هيجل لكارل ماركس). والذهن العملي هو الإرادة، هذه الأخيرة التي تتطور وفق ثلاثة مراحل:
الحس العملي أو الشعور: وهي لحظة الذاتية في هذا القسم.
الدوافع والإختيار: وهي الموضوعية، أو النقيض - السلب.
السعادة: وهي الذاتية والموضوعية “كلية لأنها الأنا”، حيث الانا هوية خالصة أو كلية خالصة (مبدأ الهوية أنا = أنا).
إن الإرادة ليست هي حال المعرفة بل هما متمايزتان، والفرق بينهما هو أن المعرفة ليست محدودة بنفسها، في حين أن الذكاء بوصفه إرادة محدد مضمونه. والإرادة مباشرة ومضمونها في المباشرة شيء موجود عندها بالفعل. ولا بد لهذا الموضوع أن يكون كليا، ولا يمكن أن يكون كذلك إلا بالسعادة لأنها الإشباع الكلي الذي تنشده الإرادة.
الذهن الحر: والروح الحر أو الذهن الحر هو أن تجعل الإرادة من نفسها موضوعا لذاتها، ذلك لأن الإرادة بما هي كذلك إرادة حرة، لأن الحرية تعني عدم التحدد عن طريق الآخر، أي ألا يحددها الآخر. إن الذهن الذي هو مرحلة انتقالية إلى الروح الموضوعي يعرف أن موضوعه هو ذاته هذه الاخيرة المحددة تحديدا ذاتيا (حرة) وهي بهذا لا متناهية ما دامت حرة.
Ii - الروح الموضوعي:
تمثل فلسفة الحق جوهر هذا المستوى الثاني من فلسفة الروح، وقد خصص كتاب “أصول فلسفة الحق” كاملا لهذا المستوى. لذا فالروح الموضوعي يبدأ بآخر فكرة وصل إليها الروح الذاتي، ألا وهي الإرادة، وموضوعه على غرار الأقسام السابقة من فلسفة الروح هو: دراسة وبحث الفكرة الشاملة بما هي كذلك.
إذا كان الروح الذاتي هو الروح منظورا إليها من الداخل، فإن الروح الموضوعي هو الروح / الفكرة منظورا إليه من الخارج، أو هو في حالة تخارج. الخروج إلى عالم تخلقه هي نفسها، وليس عالم الطبيعة، لأن هذا العالم موجود مسبقا؛ بل عالم التنظيمات الإجتماعية والسياسية والأخلاقية، عالم التقاليد والعرف والحقوق والواجبات الأخلاقية. إنه الحق في جانبه الصوري وجانبه المتعين، جانبه الموجود واقعيا، المادي، ومركبهما. الحق الذي يؤسس الأخلاقية الفردية والأخلاقية الإجتماعية أو الحياة الإجتماعية.
وتنقسم فلسفة الحق إلى ثلاث ميادين كبرى: الحق المجرد: ويتضمن : الملكية والعقد والخطأ.
الأخلاق الفردية أو أخلاق الضمير: ويتضمن: - الغرض – النية والرفاهية – الخير والشر.
الأخلاقية الإجتماعية أو الحياة الإجتماعية (الحياة الأخلاقية) أو الsittlichkeit وتتضمن : - الاسرة – المجتمع المدني – الدولة. ويشكل هذا القسم الاخير جوهر الفكر السياسي الهيجيلي.
الروح المطلق:
وهو مركب الروح الذاتي والروح الموضوعي، وينقسم كمبحث إلى ثلاث ميادين كبرى:
1 – فلسفة الفن: وتتشكل من مجمل مساهمات هيجل في فلسفة الفن وأساسا محاضراته الشهيرة في الفن 14 والتي تنقسم إلى:
الفن وأنواعه: الفن الرمزي والفن الكلاسيكي والفن الرومانتيكي
الفنون الجزئية: والتي يعالج فيها: فن المعمار الرمزي وفن النحث الكلاسيكي وأخيرا الفنون الرومانتيكية والتي تنقسم بدورها إلى: فن التصوير والموسيقى والشعر.
2 – الدين: حيث يعالج الدين عامة والديانة المحددة التي تتفرع الى ثلاث اقسام: الديانة الطبيعية والديانة الرفدية والروحية وأخيرا الديانة المسيحية المطلقة. وهو الجزء الذي يشكل اساس فلسفة الدين وهو نتاج المجهودات التي تبلورت فيما بعد لدى هيجل في محاضرات في تاريخ الفلسفة التي نشرت بعد وفاته والتي ألقيت في السنوات ما بين 1930 و 1931.
3 – الفلسفة: والتي يعين لها مهمة دراسة الفكرة المطلقة تلك الفكرة التي بدأ بها في علم المنطق، فالفلسفة بالنسبة لهيجل هي فلسفة تبحث عن المطلق تبحث عن الفكرة التي ترى أن المطلق هو موضوعها لذلك يقول ولترستيس: “فالفلسفة هي معرفة الفكرة نفسها لأن ما يعرف هو الفكرة، وما يعرف أعني العقل الفلسفي قد انفصل عن الحسي، فهو فكر خالص أو هو الفكرة” (نفس المرجع فقرة 758). وكما قال هيجل “إن الفلسفة دائرة مغلقة تدور حول نفسها” (الموسوعة). إن الروح المطلق هو ما يشكل جوهر فلسفة التاريخ والدين والاخلاق والحقوق لدى هيجل، وإجمالا الفلسفة السياسية.
إن الفلسفة الهيجيلية تبدو كبناء متناسق البنيان، ولا يمكن الحديث عن جزء منه دون الالمام بالبناء النسقي ككل، إنها فلسفة نسقية بامتياز، وهذا ما حاول هذا العرض أن يقدمه.