منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 3 من 3
  1. #1

    الذكرى الثانية عشر لرحيل الشاعر نزار قبّاني

    عدد الجمعة 30/4/2010


    ملف الملحق لهذا العدد


    الذكرى الثانية عشر لرحيل الشاعر نزار قبّاني


    ----------



    نزار قباني في حوار مع الطيب صالح:



    أنزلت الشعر من سماء النخبة إلى أرض البشر




    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    الطيب صالح






    هذا الحوار ـ الوثيقة أجراه الأستاذ الروائي الطيب صالح مع الشاعر نزار قباني بإذاعة الـ "بي. بي. سي" بلندن في إبريل 1973 عندما كان الطيب صالح محرراً أدبياً لدى الإذاعة اللندنية ، ومسؤولاً عن القسم الأدبي العربي ، آنذاك. والحوار نَشرت مقتطفاتْ منه مجلةُ §هنا لندن§ التابعة للـ "بي. بي. سي". ونحن هنا ننشره ـ بعد مضي 32 عاماً منذ نشره وإذاعته أول مرة ـ إذ نعتبره وثيقة أدبية تؤرخ لذلك العصر الأدبي العربي.

    أخ نزار ، أنت تقول ، في موضع ما ، إنك تريد أن تحول الشعر إلى خبز يومي لجميع الناس ، وأعتقد أنه إذا كان هناك شاعر معاصر فعل ذلك فهو أنت.. وهذا واضح: فحينما تلقى الشعر ، يهرع آلاف الناس لسماعك - تفتكر ليه حصل كدة بالنسبة لك؟.



    ـ القضية بسيطة جداً: أنني أنزلت الشعر من سماء النخبة إلى أرض البشر: فأنا ـ منذ بداياتي الشعرية ـ كنت أؤمن إيماناً مطلقاً أن الشعر المكتوب هو للناس ، وأنّ الناس هم البداية والنهاية في كل عمل شعري. إن اسطورة الشعر المكتوب للطبقات الخاصة ، للأمراء والنبلاء ، سقط ، نحن في عصر يجب أن يكون المستفيدون من الشعر هم الناس.. قاتلت في الأصل لأصًلَ هذ النتيجة. وقد تنبأت بذلك عام 1948 في ديواني طفولة نهد ، وتوصلت إلى معادلة شعرية يكون فيها الناس جزءاً لا يتجزأ من الشعر.





    هل هذا الإدراك حدث فجأة أم إنه إدراك نما بمعايشتك لأفكار ، ويمكن لشعر أنت رفضته.. شعر لشعراء عرب آخرين؟.



    ـ منذ البداية شعرت أن هناك هوة كبيرة بين الشاعر والجمهور. كان هناك نوع من الجدار اللغوي المنيع الذي يحول دون أن يتذوق الناس الشعر. وشعرنا القديم الذي استمر من العصر الجاهلي وحتى مطلع القرن العشرين كان شعراً صعباً لأنه كان يعتمد على التراكيب اللغوية ، وعلى النقش وعلى الزخرفة. فأنا أردت من الشعر أن يخرج من جدران الأكاديميات ، وينطلق في الحدائق العامة ، ويعايش الناس ويتكلم معهم.





    متى أصدرت أول ديوان؟.

    ـ أول ديوان لي قالت لي السمراء ، وقد صدر في دمشق عام 1944م.





    في هذا الديوان بالذات لك قصيدة عنوانها "ورقة إلى القارئ" أعتقد أنك تعلن فيها نوعاً من الـ "بيان ـ قانون" عن تجربتك وعما تريد أن تقدمه للقارئ. أما زلت متمسكا بهذا الـ "بيان ـ قانون" بينك وبين قارئك؟.



    ـ أنا لا أؤمن بالأشياء الثابتة. أنا لا أستطيع أن أقول إنّ ما قلته قبل ثلاثين سنة ، مثلاً ، هو قانون: أنا أتطور مع الحياة ، واسمح لي أن أستعمل تعبير "أغير جلدي في كل لحظة". إلا أن هناك عموميات أعتقد أن الإنسان يظل مرتبطاً بها. مثلاً ، نظريتي التي بدأنا بها الحديث عن تعميم الشعر ، أو تأميمه ، هي نظرية لا تزال بالنسبة لي صحيحة ، وأنا ـ في كل يوم ـ أحاول أن أكسر جدراناً جديدة ، وأدخل بيوت الناس من النوافذ ومن الأبواب.





    تقصد ماذا - على وجه التحديد ـ أنك تغير جلدك؟.



    ـ أنا لا أؤمن بوجود أشياء مطلقة ، ولا أشكال مطلقة. ربما أزمة شعرنا العربي ، في عصور الانحطاط ، أنه كانت القصائد عبارة عن قصيدة واحدة منسوخة على ورق كاربون: يعني أن الشاعر لم يكن ليفهم عصره أو ليفهم قضية الإنسان. العملية كلها ـ بالنسبة للشعر العربي خلال الألف سنة الأخيرة ـ كانت عبارة عن نوع من الاكتشاف: اكتشاف ما هو مكتشف: كانت عبارة عن كيمياء لغوية. نحن ـ الآن ـ لا نفكر بالشعر كلغة قاموس لا يستطيع أن ينظم قصيدة ، وإنما الإنسان هو الذي ينظم القصيدة. لهذا فإن القاموس سقط.. سقط بكل محدوديته القديمة كمجموعة من الألفاظ والتراكيب والقوانين الصارمة التي لا تحتمل المخالفة. نحن ، اليوم ، نخالف لأنه يجب أن نكون مع الحياة لا مع النصوص الميتة.





    لكن يخيل لي ، أخ نزار ، أنك أكثر الشعراء المعاصرين اهتماما باللغة. أنت صحيح تستعمل لغة حديثة بمفاهيم حديثة ، لكن واضح في شعرك اهتمامك بالمادة الخام التي هي اللغة التي تعبر بها عن أحاسيسك؟.



    ـ أستاذ الطيب.. يجب أن نتفق ، أولاً ، على مفهوم اللغة.. أنا أعنى اللغة التي حاصرتنا زمناً طويلاً في جامعاتنا وفي مدارسنا وفي دروس اللغة العربية وفي دروس الفقه.






    محاطة بقداسة؟.

    ـ محاطة بنوع من القداسة.. وكانوا يقولون لنا إن هذه اللغة كصندوق سحري يجب ألا تلمسها أو لا تفتح الصندوق المخبأة فيه وإلا افترسنا المارد المخبوء في العلبة. اللغة التي أفهمها أنا هي اللغة التي يتنفس بها الناس. أعود بك إلى فكرة نزع الجلد.

    أعود بك ، أيضاً ، إلى فكرة نزع الجلد.. هل يعني هذا أن القصيدة ، حين تكتمل ، تصبح بالنسبة لك لا تعني شيئاً: تصبح عالماً خارجاً عنك: تكتبها وتنساها؟.



    ـ القصيدة تنتمي ـ حين أكتبها ـ إلى مرحلة تاريخية. وأعتقد أن بقاء الشاعر في المرحلة التاريخية التي كتب عندها القصيدة تجمده وتوقفه عن الحركة. أنا أحب ، دائماً ، أن أتجاوز قديمي. طبعاً هذا ليس نوعاً من قلة الوفاء ، ولكنني شديد الوفاء لفني. الوفاء للفن يكون ، دائماً ، بالتجاوز والتخطي. هناك أناس كثيرون ، مثلاً ، يستطيعون أن يستعيدوا قصائد كتبوها قبل عشرين سنة بدقة آلة التسجيل ، أنا عاجز عن القيام بمثل هذه المغامرة.



    نشأتُ في منزل دمشقي قديم هو عبارة عن فراديس مختبئة خلف أبواب خشبية صغيرة. قد تدخل في زقاق صغير قد لا يوحي لك بشيء ، إلا أنك فتحت باباً من الأبواب الخشبية الواطئة: فتحت أمامك فراديس ، فإذا بك تدخل جنة من جنان الوهم: فالشجر والورد والياسمين والمياه الجارية والأسماك والعصافير كلها تتابع أمامك مرة واحدة. هذه الخلفية لعبت دوراً مهماً في حياتي وفي تكوين لغتي الشعرية. في دواويني الأولى ( قالت لي السمراء ، طفولة نهد ، أنت لي) تلاحظ أن أبجديتي التي أكتب بها أبجدية دمشقية ، واستعملت كثيراً من الألفاظ الفولكلورية السورية في قصيدة خمس قصائد إلى أمي: استعملت أسماء نباتات سورية غير معروفة في بقية العالم العربي كالشمشير والنفشة.. الارتباط بالأرض هو الأساس. أشعر أن لأارض هي مسرح الشاعر. هذه الواقعية جعلتني حاداً وأقربَ إلى قضايا البشر من غيري من الشعراء.

    هذه الطفولة الجميلة ـ كما رسمتَها ـ هل كانت توجَدُ إرهاصات أنك ستكون شاعراً؟.

    ـ أحب أن أشير ألى ناحية مهمة: إن هذه اللوثة الفنية جاءتني عن طريق جد لي لعب لعبة خطيرة في تأريخ المسرح العربي هو أبو خليل القباني.. كان فناناً من طراز رفيع ، وأستطيع أن أشبهه بشارلي شابلن. كان هذا في نهاية القرن التاسع عشر. قاتَلَ المستحيلَ في بيئة دمشقية محافظة كي يضع ـ لأول مرة في الشرق ـ مسرحاً طليعياً. وقد جاوز في مسرحه كل الموروثات ، وكان نصيب أبي خليل النفي إلى خارج أسوار دمشق: ذهب إلى مصر ، وفي مصر استطاع أن يكون رائداً من رواد الحركة المسرحية التي عرفناها في مصر بعد ذلك.

    ألا تحس برابطة زمالة تربطك بشعراء عاشوا قبلك بألف عام أو أكثر؟.

    ـ أرتبط بمن يلتقون معي في التفكير. خذ ، مثلاً ، شعر عمر بن أبي ربيعة: أنا أرتبط معه بخيوط الواقعية الأرضية والبشرية. أنت تعرف أن عمر بن أبي ربيعة أخرج الحب كما أخرجته أنا من سراديب الكتب والحرمان إلى الهواء الطلق. أنا أؤمن بالحقيقة: بشاعر يقول بما يريد الناس أن يقولوه. لو كنتُ شاعراً منافقاً لوفرت على نفسي كثيراً من الهجمات والمشاكل واللعنات ، إلا أنني أعتقد أن لهفة الشاعر هي وسام: لأن مهمة الشاعر هي أن يضع قنبلة موقوتة تحت عجلة القطار الخشبي المتهالك الذي لم يعد منسجماً مع العصر.

    في علاقة الشاعر بالمرأة ـ في دواوينك ـ ما يدهشني ، إلى حد ما ، هو أن الشاعر في مشاركة مستمرة مع المرأة: علاقة فيها نزاع وصراع يكاد يكون حميماً أكثر مما يجب؟.



    ـ شوف يا أستاذ الطيب.. لقد أثرتَ نقطة أحب أن أوضحها: إن الخصومة مع المرأة هي المصادر الشعرية الحقيقية. نهايات الحب جعلتني أكتب شعراً أحسن من بداياته.



    حينما ينقطع الخيط ، وتثور العاصفة مع حبيبتك فأنت تبدأ بكتابة الشعر. هذا يدعوني لأن أقول إن الدراما في الحب هي الشعر الحقيقي ، والفرح في الحب لا يعني شيئاً.. إن الفرح عملية مسطحة جداً: فحينما تكون سعيداً مع حبيبتك تكتفي بسعادتك.. إن الفرح والسعادة عملية أنانية جداً. أمّا حينما يقطع الخيط ، أو يدخل الحبيبان في منطقة الدراما ، فهنا يبدأ الشعر.





    من أكثر قصائدك دراما وعنفاً قصيدتك الرسم بالكلمات ؟.



    - هذه القصيدة تعبر تعبيراً عنيفاً عن الأزمة.. الأزمة التي يصل غليها الشاعر حينما يصل إلى مكان مسدود: يعني طريق باتجاه واحد.. هذ القصيدة أسيء فهمها جداً ، وأنا آسف لذلك. اعتبرها البعض ممن يقرؤون قراءة مسطحة ، أو من يقرأ المكتوب من عنوانه.. اعتبروها قصيدة غير أخلاقية. أنا أؤمن بأن هذه القصيدة هي من أحسن شعري ـ أولاً ـ ومن أطهر شعري: لأني أحاول بهذه القصيدة أن أوجد التناقضات بين ما كان عليه الشاعر وما انتهى إليه.. في هذه القصيدة خيبة أمل رهيبة جداً ، وبهذه القصيدة نوع من السأم والعبثية ـ كما يسمونها الآن.





    أنا أتفق معك أن القصيدة نقطة تحول في شعرك. يا حبذا لو قلت منها شيئاً،



    ـ "لا تطلبي مني حساب حياتي



    إن الحديث يطول يا مولاتي



    كل العصور أنا بها فكأنما



    عمري ملايين من السنوات



    تعبتْ من السفر الطويل حقائبي



    وتعبتُ من خيلي ومن غزواتي"





    التاريخ : 30-04-2010





    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  2. #2

    رد: الذكرى الثانية عشر لرحيل الشاعر نزار قبّاني


    ياسمينة عمّانية على قبر نزار قبّاني
    موسى حوامدة
    في عام 1982 ، وبينما كنت في زيارة أحد الأصدقاء في مدينة العقبة ، نشرت جريدة "الدستور" قصيدة 'بلقيس' لنزار قباني. كنتُ سمعتُ عن مقتل بلقيس في بيروت ، ولم أفكر ـ حينها ـ في مَن قتلها ، ولماذا قتلت. لكن المعلومات التي كانت متداولة ، آنذاك ، أنه تم تفجير السفارة العراقية في بيروت حيث كانت تعمل بلقيس.

    قرأت القصيدة مرة ومرة ومرات ، وبقيت ـ طيلة النهار بكامله ـ أتصفح الجريدة وأحدق في صورتهما معاً. كانت بلقيس امرأة عربية جميلة أحبها نزار قباني وارتبط بها بعدما رفضه والدها. ولولا تدخل القيادة السياسية في العراق ، في ذلك الوقت ، برئاسة البكر ونائبه صدام لما ارتبط نزار ببلقيس ، ولما تركت العراق واستقرت في بيروت لتعمل في السفارة العراقية هناك ، وهذا ما دفعه للقول ، في القصيدة:

    "أترى ظلمتك إذ نقلتك

    ذات يومْ.. من ضفاف الأعظمية؟"

    كانت القصيدة علامة بارزة في شعر نزار قباني وفي مسيرة الشعر العربي الحديث ، بل كانت تعبيراً بليغاً عن حال العرب في بداية الثمانينيات ، وقبل اجتياح إسرائيل لبيروت وإجبار منظمة التحرير الفلسطينية على الخروج من المدينة.

    ورغم أن نزاراً وجه الاتهام إلى بعض الفلسطينيين في تفجير مبنى السفارة ، وانتقد منظمة التحرير في ذلك الوقت ، ورغم غضب الكثير من الفلسطينيين من نزار ، لكن الرجل كان معذوراً حينها نتيجة الصدمة الكبيرة التي وقعت عليه ، فقد تم اغتيال بلقيس التي أحبها حد العشق:

    "يا زوجتي.. وحبيبتي.. وقصيدتي.. وضياء عيني.. قد كنتً عصفوري الجميل".

    ورغم أننا لا نعرف من هم الفاعلون الحقيقيون لكن نقد نزار كان في محله ، فقد ذهبت منظمة التحرير إلى قضايا ثانوية وقضايا لبناينة داخلية ، وانشغلت عن الهدف الرئيس لها.

    لكن لنترك الحديث عن السياسة جانباً: فقد ماتت بلقيس ، أو قتلت ، وكانت قصيدة نزار من أجمل قصائد الحب والرثاء:

    "بلقيس كانت أجمل الملكات في تاريخ بابل ، بلقيس كانت أطول النخلات في أرض العراق ، كانت إذا تمشي ترافقها طواويسّ وتتبعها أيائل. بلقيس ، يا وجعي ، ويا وجع القصيدة حين تلمسها الأنامل. هل ، يا ترى ، من بعد شَعرك سوف ترتفع السنابل؟"

    اليوم تمر اثنتا عشرة سنة على رحيل نزار قباني ، وقد شئنا في ملحق الدستور الثقافي أن نستذكر نزاراً في هذا اليوم. وإن كان عدد مشيعي نزار يوم دفنه في دمشق قليلاً ، فإن جمهوره كان طاغياً ولم يزل له عشاقه ومحبوه.

    وإنني أشكر الأصدقاء الذين تعاونوا معنا لإصدار هذا العدد وبهذا الشكل ، وأخص بالشكر الناقد العربي الكبير صبحي حديدي ، والذي يكتب للدستور الثقافي لأول مرة ، والناقدة والروائية الأردنية مريم جبر ، والناقد العراقي محمد صابر عبيد ، والشاعرة زليخة أبو ريشة ، والناقدة رفقة دودين ، والناقدة العراقية وجدان الصايغ ، والكاتب الفلسطيني علاء حليحل ، والشاعرين السوريين: محمد ديبو وأديب حسن محمد ، والفنان الأردني حسين دعيبس الذي أخرج لكاظم الساهر قصائد نزار ، والشاعرة الجزائرية نواره لحرش ، والكاتبة الأردنية سلوى اللوباني.

    كما لا أنسى جهود الزميل الياس محمد سعيد في تحرير مواد الملف ، وإن كان هناك بعض النقص في الملف. فذلك لأنّ تناول شاعر كبير ترك وراءه كل هذا الصخب والجدل والتأثير على شعراء كبار ، فلا بد أن يظل العمل ناقصاً مهما بُذلت من جهود.

    نأمل أن يكون هذا العدد مجردَ باقة ياسيمن عمّانية على قبر نزار قباني في دمشق.




    musa.hawamdeh@gmail.com


    ملحق الدستور الثقافي
    30/4/2010




    نزار قباني : اللغة الثالثة والقارورة الضيقة

    * صبحي حديدي
    حضرتْ في تأمّل نزار قباني (1932ـ 1998) لمعنى الشعر جملةُ اعتبارات نظرية معمّقة حول المحتوى والوظيفة عموماً، وغابت جملة اعتبارات فنية حول الشكل والتشكيل عموماً إيضاً. وقباني أستاذ في كتابة الشعر بوصفه ممارسة نظمية ذات سويّة فنية رفيعة أساساً، وبوصفه رسماً بالكلمات، ورقصاً بها، وعزفاً موسيقياً على آلاتها التي لا حدود لطاقاتها. وهو، في ذلك، معلّم بارع، ماهر، حاذق الصنعة، شديد الذكاء في عرض صناعته، بالغ الحساسية إزاء تقلباتها وسكونها وحركتها، عالي المراس في التنبّؤ بما يمكن أن يجعلها رائجة رابحة أو راكدة خاسرة.

    كان صانعاً ماهراً، ولا يعيبه أنه واصل اتقان الصنعة، وتوفير بضاعة لا يغشّ في صناعتها، ولا يتوقف عن تحسين مواصفاتها بقدر ما أسعفته الأدوات، حتى لقد تبيّن أنّ بضاعته تلك لم تكن شديدة الرواج فحسب، بل كان الطلب عليها شديداً أيضاً. ومن جانب آخر، كانت قِيَمها تلبّي احتياجات قطاعات عريضة متعددة من العباد، اختلفوا في العمر والانتماء الاجتماعي والذوق والذائقة والحساسية والأفكار، واجتمعوا على الحاجة الجمالية، وعلى نوعية البضاعة التي تشبع هذه الحاجة.

    وبعيداً عن هذه الاستعارة الصناعية، ظلّ قباني وفيّاً لمبدأ الشعر بوصفه هندسة صوتية أو صوتاً في الأساس كما يقول. هنالك ألوف الجمل الموسيقية التي لم تدوّن بعد على نوتة، وهنالك ألوف الجمل الشعرية التي لم تدوّن بعد على ورقة. قياس لا يبدو خالياً من المحتوى الديناميكي إذا تذكّر المرء أنه اعتبر موسيقى الشعر بمثابة البحر بشكله المطلق، أو الماء بشكله المطلق ، وأنّ الأوزان الشعرية ليست أكثر من عناصر في تركيب الماء وليست كلّ الماء. وثمة قَدَرية من نوعٍ ما بين الشعر والصوت، لأنّ الشعر في الأساس صوت، وهو في شعرنا العربي خاصة مخزون في حنجرة الشاعر وأذن المتلقي. فالصوت إذن قَدَر القصيدة وحتميتها، وليس بإمكاني بعدُ أن أتصوّر شكل القصيدة الخرساء. إنّ الفنون كلها تخضع لقانون القدرية، إذا كان للقدرية قانون. فالحركة قدر الرقص، واللون قدر الرسام، والحجر قدر الناحت. وأنا لا يمكنني تصوّر قصيدة تُقرأ بالأنف، أو موسيقى تتذوّق باللسان".

    والصانع الماهر هذا كان ديمقراطياً في موقفه من أشكال الكتابة الشعرية، على اختلافها. القصيدة الحرّة اجتهاد، يقول باطمئنان، وكذلك قصيدة التفعيلة و القصيدة الدائرية وقصيدة النثر، هذه التي لا يجوز لنا أن نطلق الرصاص عليها بتهمة الخيانة العظمى، أو بحجة أنها تقول كلاماً ليس له سند أو شبيه في كتب الأولين. إنّ من مصلحة القصيدة العربية أن تترك باب الاجتهاد مفتوحاً، وإلا تحوّلت إلى قصيدة فاشستية. أو إلى قصيدة من الخشب . وسوى هذا الموقف الديمقراطي، ثمة طرافة في تشبيهه القافية بإشارة المرور الحمراء، التي تفاجىء السائق، وتضطره إلى تخفيف السرعة، أو التوقّف النهائي، بحيث يعود محرّك السيارة إلى نقطة الصفر، بعد أن كان في ذروة اشتعاله واندفاعه".

    والصانع الماهر يستشعر الأنواء وسوء الأحوال الجوية، ولعله أحسن دائماً تحصين بيته كلما لاحت بوادر عاصفة ما، أو بعبارته: إنني لم أتوقف لحظة من اللحظات عن تغيير جلدي. إنني أعيش دائماً في حالة حذر وخوف من الآتي. إنني أشعر دائماً أنني أقف على أرض لا ثبات لها، وأنّ خيول الشعر تركض من حولي بالمئات. آخر تجربة لي كان مائة رسالة حب، وفيه تركت مواقعي القديمة لأخرج إلى برهة قصيدة النثر، حيث السماء أرحب، والحرية تقطف بالأصابع. بعد مئة رسالة حب (1970) سوف يفرج قباني عن مجموعة أخرى من قصائد النثر، في مجموعته كلّ عام وأنت حبيبتي (1978)، ثم على نحو متفرّق في مجموعات أخرى.

    مدهش، مع ذلك، أن تلك السماء التي يشير إليها لم تكن رحبة معه كما كانت حالها مع سواه من شعراء قصيدة النثر المتمرسين، حتى أنّ بعض قصائدة النثرية لم تكن ببرودة الصقيع فحسب، بل إنّ الجملة الاستعارية فيها بلغت مستوى مفاجئاً من الفقر التعبيري والمجازي معاً. ولم يكن مألوفاً أن يقول ذلك المعلّم الماهر:



    كل عام وأنت حبيبتي

    أقولها لكِ بكلّ بساطة

    كما يقرأ طفل صلاته قبل النوم

    وكما يقف عصفور على سنبلة قمح

    فتزداد الأزاهير المشغولة على ثوبك الأبيض زهرة..

    ـ رسالة (2)، كل عام وأنت حبيبتي



    ولقد كتب عشرات النماذج في هذا الخيار، ظلّت في معظمها تحوم على حافّة غائمة بين الشعر والنثر الشعري ولم ترْقَ دائماً إلى مستوى قصيدة النثر في نماذجها العربية المتقدمة، الأمر الذي دفعه للعودة إلى ترسانته الشخصية ذات العنوان المُشْهَر والعلامات الفارقة الصريحة، أكثر لهفة على امتلاك أرض جديدة، ولكن ليس أقلّ حذراً في الوقوف على أرض قديمة لا ثبات لها البتّة.

    بيد أن المشكلة لم تكن منحصرة في اختيار سماء بدَتْ رحبة للوهلة الأولى، قبل أن يتضح أنها ضيّقة على هذا النسر الطليق. لقد أخذ يشيخ رويداً رويداً، فانحسرت وتائر المغامرة اللغوية البكر، الشابّة والطليعية والعابثة والحاذقة. وشاخ أكثر ذلك المعجم الشعري الثرّ الذي ظلّ فاتناً في ألعابه الدلالية، مفاجئاً في استنباطه لعلاقات شعورية غير مألوفة بين الأحاسيس والمفاهيم والأشياء، ونزقاً في إسباغ دفء حسّي تصويري جسور على تقاليد الغزل العربي وقصيدة الحب. باختصار، كان لا بدّ أن تشيخ هذه اللغة الثالثة التي حلم بها طويلاً، وابتكر نَحْوها وتراكيبها وقواعد صرفها واشتقاقها وإعرابها، وأرادها جسراً لردم الهوّة بين لغتين: "العربي يقرأ ويكتب ويؤلّف ويحاضر بلغة، ويغنّي ويروي النكات، ويتشاجر، ويداعب أطفاله، ويتغزّل بعيني حبيبته بلغة ثانية. هذه الإزدواجية اللغوية، التي لم تكن تعانيها بقية اللغات، كانت تشطر أفكارنا وأحاسيسنا وحياتنا نصفين. لذلك كان لا بدّ من فعل شيء لإنهاء حالة الغربة التي كنّا نعانيها. وكان الحلّ هو اعتماد لغة ثالثة تأخذ من اللغة الأكاديمية منطقها وحكمتها ورصانتها، ومن اللغة العامية حرارتها، وشجاعتها، وفتوحاتها الجريئة. إن لغتي الشعرية تنتمي إلى هذه اللغة الثالثة".

    ونزار قباني اشتغل، منذ عام 1944 كما أوضح بنفسه، على "معادلة لتحويل الشعر العربي إلى قماش شعبي يلبسه الجميع، وإلى شاطىء شعبي يرتاده الجميع". ومنذ العام ذاته كان قد أقسم "أن لا يبقى مواطن واحد في الوطن العربي يكره الشعر، أو يستثقل دمه". ومنذئذ لم يكفّ عن الحلم "باحتلال العالم العربي شعرياً"، وأعلن بوضوح ودونما تواضع: "منذ عام 1944، وأنا أشتغل كالنملة، وأجرّ الحروف والكلمات على ظهري، لأصنع للشعر لغة ديمقراطية تجلس مع الناس في المقهى، وتشرب معهم الشاي، وتدخّن السجائر الشعبية معهم".

    وليس دونما خيلاء نبيلة أنه أطلق صرخة انتصار ثلاثية: لقد نجحتُ، وانتصرتُ، واحتللت! وتابع يقول: "أنا مؤسس أول جمهورية شعرية، أكثرية مواطنيها من النساء. جمهوريتي هذه، تختلف عن بقية الجمهوريات في أنّ الشعر فيها هو من الممتلكات العامة، كالماء، والهواء، والحدائق العمومية، وفي أنّ اللغة الشعرية في هذه الجمهورية لا تعرف التفرقة الطبقية، أو العنصرية، أو الثقافية. أنا ضدّ كلّ غيتوات الشعر، وضدّ تحويل القصيدة إلى طروادة تعيش في حصار تاريخي مع نفسها، وضدّ أن يتحوّل الشعر إلى نادٍ مغلقٍ كنوادي البريدج، أو نوادي العراة".

    والحقّ أن قباني أحسن الإنصات إلى مجموعة الاستجابات المعقدة التي كانت تشكّل خطوط الاستقبال المحورية في الذائقة العربية العامّة أولاً، ثم في ذائقة رعيّته هو وحده خصوصاً، فاستبقها تارة حين لاح أنها تنقلب إلى مكوّنات وجدانية وجمالية وفلسفية لمشروعه الشعري؛ وطوراً سار إلى جانبها أو خلفها حين أخذت كموناتها السوسيولوجية المعقدة تجعل قصيدة مثل "خبز وحشيش وقمر" ـ في مطالع الخمسينات، للتذكير! ـ بمثابة منشور سياسي سرّي في الدعوة إلى الإنعتاق من أغلال الإرث والدولة والقبيلة، أو تحوّل قصيدة "لوليتا" إلى بيان أنثوي صاخب في حقوق بلوغ سنّ الرشد.

    في المقابل، حدث مراراً (وفي الأطوار اللاحقة من شعره تحديداً) أنه انقلب موضوعياً إلى ضحية عالية الأداء، تتصالح مع انقلابات تلك المكوِّنات، أو تقصّر بعض الشيء في التقاط نبض تلك الكمونات، خصوصاً حين تسارع إيقاع الحياة المعاصرة، وتبدّلت الأمزجة والسلوكيات والعواطف، فتغيّرت معها تقاليد العشق والهوى والاحتجاج، وتحوّلت في غمرة ذلك كله أجناس التعبير وأشكاله ومعاجمه. ولم يكن غريباً أن يهتف قباني بحرقة وضراعة: "هل من الممكن، إكراماً لكلّ الأنبياء، أن تخرجوني من هذه القاروة الضيقة التي وضعتني فيها الصحافة العربية: أي قارورة الحبّ والمرأة"؟

    لم يكن ذلك ممكناً بالطبع، أو لم يكن يستقيم أساساً! نزار قباني هو "شاعر المرأة"، شاء أم ابى؛ أو هو إما الشاعر التقدمي الذي حرّر المرأة، أو ذاك الرجعي الذي سجنها في قارورة عطر وجورب حرير، ولا توسّط بين الأقصيَيَن، والمعلّم نفسه كان يوفّر المادة لمزيد من غياب هذا التوسّط. إنه حليف تقدمي للمرأة حين يقول، منذ العام 1944:



    يا لصوص اللحم.. يا تجّاره

    هكذا لحم السبايا يُؤكلُ

    منذ أن كان على الأرض الهوى

    أنتم الذئب ونحن الحملُ

    نحن آلات هوى مجهدة

    تفعل الحبّ ولا تنفعل

    ـ البغيّ، "قالت لي السمراء"



    وهو حليف رجعي للرجل الشهواني، المتعجرف، البهيميّ في علاقته بجسد المرأة:



    عبثاً جهودك.. بي الغريزة مطفأة

    إني شبعتكِ جيفة متقيئة

    إني قرفتكِ ناهداً متدلياً

    وقرفتُ تلك الحلمة المهترئة

    ـ إلى عجوز، "قالت لي السمراء"



    وهو إيروسيّ مَرِح، جذِل، عاشق، طَرِب:



    منضمّة، مزقزقة

    مبلولة كالورقة

    سبحانه من شقّها

    كما تُشقّ الفستقة

    نافورة صادحة

    وفكرة محلّقة

    ـ الشفة، "طفولة نهد"



    وهو موسيقيّ راقص، يدندن بالكلمة، ويعزف على القاموس:



    وصاحبتي إذا ضحكت

    يسيل الليل موسيقى

    تطوّقني بساقية

    من النهوند تطويقا

    فأشرب من قرار الرصد

    إبريقاً.. فإبريقا

    ـ ضحكة، "أنت لي"



    وهو ناقد اجتماعي راديكالي، يقوّض في العمق، ويهدم ابتداء من الركائز:



    ما الذي عند السماء

    لكسالى ضعفاء

    يستحيلون إلى موتى إذا عاش القمر

    ويهزّون قبور الأولياء

    علّها ترزقهم رزّاً وأطفالاً، قبور الأولياء

    ويمدّون السجاجيد الأنيقات الطُرَر

    يتسلون بأفيون نسميه قدر

    وقضاء،

    في بلادي.. في بلاد البسطاء.

    ـ خبز وحشيش وقمر، "قصائد"



    وربما كانت القصائد السياسية أبرز أواليات هذا الترحال أو "الترحيل" الدائب لحساسيات موقع الشاعر ـ الضحية، المُطالَب بالنطق البليغ باسم هموم الذات العاطفية وهمومها الوطنية السياسية على حدّ سواء، وبالصوت العالي الناقد حَدّ التجريح، الصارخ في البرية أبداً. وكانت المناسبة الوطنية (سواء في حال الإنتصار أو الهزيمة، الأمل أو اليأس) هي القرين الدائم لولادة قصيدة سياسية من نزار قباني: "قصة راشيل شوارزنبرغ"، بعد النكبة؛ "الحب والبترول"، "جميلة بوحيرد"، "رسالة جندي في جبهة السويس"، أواسط الخمسينات؛ "هوامش على دفتر النكسة" بعد هزيمة 1967، وصولاً إلى "متى يعلنون وفاة العرب" و"المهرولون". وفي كلّ مرّة كان المعلّم يشدّ القوس حتى أقصاه، وكان يدمي راحتيه أكثر!

    معلّم كبير باغَتَ المشهد الراكد، منذ مطلع الأربعينيات، فرمى الجمر في أحضان الكبار كما عبّر عبد الرحمن منيف، وفي مناقل الملايين من المتضوّرين جوعاً إلى دفء القَوْل كما ينبغي أن نكمل. ولقد غيّر مراراً جلده وحنجرته وحواسّه، وحلّق عالياً كما يليق بنسرٍ رائد لا يكذب أهله، وشاخ بوقار نبيل، ثم ارتحل... مشفقاً علينا، وعلى الشعر، في أغلب الظنّ!





    ملحق الدستور الثقافي
    30/4/2010


    في بيت نزا قبعتان ورأس واحدة أو تلبيس طواقي!

    * سامية عطعوط
    هما قبعتان جميلتان لرأس واحدة.. قضيتان ثقافيتان مهمتان تتفاعلان على الساحة العربية الآن. إحداهما حيث يتدفق النيل ليصعد شمالاً ، تاركاً وراءه بحيرات فكتوريا الخمس ، تستحم بالشمس الافريقية ، والثانية حيث يجري الفرات بكل عذوبته نحو الجنوب ، نحو الأهوار الجميلة ، التي تحولت إلى مستنقعات من الجفاف الموحش.

    تتعلق القضية الأولى في ما حدث في المركز الثقافي الفرنسي في القاهرة ، في إطار فعاليات مهرجان لقاء الصورة الذي نظمه المركز الثقافي الفرنسي بالقاهرة في الفترة من 8 إلى 15 من شهر نيسان. حيث كان يفترض عرض فيلم لمخرجة إسرائيلية ونتيجة لضغوط المخرجين والفنانين والمثقفين المصريين ، تم سحب الفيلم من فعاليات المهرجان وإقرار عرضه على شاشات السينما في القاهرة ، إلا أن وزارة الخارجية الفرنسية تراجعت عن ذلك ، وأعادت إشراك الفيلم ضمن المسابقة الرسمية في المهرجان ، الأمر الذي دفع الفنانين والمخرجين المصريين لمقاطعة المهرجان وانسحابهم من لجنة التحكيم ، وسحب أفلامهم التي كان يفترض أن تشارك فيه.

    كما أصدر المخرجون والفنانون المصريون عدداً من البيانات التي تشجب الموقف الفرنسي من المسألة ، وفي المقابل أدلى وزير الخارجية الفرنسي (برنار كوشنير) بتصريحات تدين موقف المثقفين المصريين ، الذي يدخل في باب (المهاترات) بحسب تعبيره.

    أما القضية الثانية ، والتي أثارت الجدل على الساحة الثقافية فهي الدعوى التي أقامها كبير مستشاري الرئيس العراقي مدير مهرجان المدى فخري كريم بتهمة القدح والذم ، على مجلة (الآداب) ورئيس تحريرها سماح إدريس ومديرها المسؤول عايدة مطرجي ، على خلفية الافتتاحية المنشورة في أحد أعداد المجلة 2007 بقلم رئيس التحرير بعنوان "نقد الوعي "النقدي": كردستان العراق نموذجاً" ، وكانت نتيجتها أن حكمت محكمة المطبوعات في بيروت على المجلة والمسئولين فيها ، لصالح المدعي.

    أما عن العلاقة بين القضيتين الأولى والثانية ، فهي علاقة جدلية ووثيقة جداً. فكلتا القضيتين يجمعهما عنوان واحد وهو الاستلاب. في القضية الأولى ، تقوم فرنسا بقرار من وزير خارجيتها وربما بقرار جاء من قصر الاليزيه نفسه ، بالتدخل السافر وممارسة الضغوط من أجل فرض رأيها وعرض الفيلم الإسرائيلي ضمن فعاليات المهرجان ، دون أي اعتبار لمشاعر المثقفين المصريين وموقفهم من التطبيع مع العدو الصهيوني ، وفي القضية الثانية تتم ممارسة الضغوط نفسها ، واستصدار حكم بإدانة مجلة الآداب ورئيس تحريرها ومديرها.

    في كلتا الحالتين ، هناك استلاب. ففي الحالة الأولى ، تفرض فرنسا مواقفها السياسية الساركوزية في قضية ثقافية ، وتختار أن تقف في موقف مضاد للهدف الذي تُنشأ من أجله المراكز الثقافية الأجنبية عادة ، ألا وهو مدّ الجسور الثقافية بينها وبين البلدان المضيفة ، لا أن تتخذ مواقف معادية استفزازية لمشاعر مثقفيها وفنانيها. وفي الحالة الثانية ، وعلى الرغم من إيماني بحق كل شخص أن يدافع عن نفسه ، إلا أن قضية المقال اتخذت أبعاداً قاسية وخطيرة ، وجاء الحكم فيها محفزاً لاستلاب حرية الكلمة والتعبير.

    إذن ، هما قبعتان لرأس واحدة. قبعتان أراد من أمسكوا بهما ، أن يحشروا الثقافة العربية التي تحاول أن تطل برأسها بين الحين والآخر ، فيهما. القبعة الأولى فرنسية التصميم والطراز ، والقبعة الثانية شمالية اللون والهوى. ولكن المأساة ليست في هاتين القبعتين فقط ، بل في طواقي الإخفاء التي يحشر الآخرون الثقافة العربية فيها ، من دون أن نراها.



    Sam95at@yahoo.com



    ملحق الدستور الثقافي
    30/4/2010

    في بيت نزار قباني

    * محمود درويش


    بيت من الشعر بيت الدمشقي

    من جرسً الباب حتىّ غطاء السرير

    كأنَّ القصيدةً سُكنى وهندسةّ للغمام



    بلا مكتب كان يكتب.. يكتب فوق الوسادة

    ليلاً وتُكملُ أحلامهُ ذكريات اليمام



    و يصحو على نفَس امرأة من نخيل العراق ،

    تعدّ له الفُلًّ في المزهرية



    كان أنيقاً كريش الطواويس ، لكنه

    لم يكن "دون جوان". تحطُّ النساءُ

    على قلبه خَدماً للمعاني ، ويذهبن في كلمات الأغاني

    ويمشي وحيداً

    إذا انتصف الليلُ قاطعهُ الحلمُ:

    في داخلي غرفّ لا يمرّ بها أحدّ للتحية



    منذ تركتُ دمشقَ تدفّق في لغتي

    بردى واتسَعتُ.

    أنا شاعر الضوء

    والفُلّ.. لا الظلًّ: لا ظلَّ في لغتي.

    كلّ شيء يدلُّ على ما هو الياسمين.

    أنا العفويّ البهيُّ أرقًّصُ خيل الحماسة

    فوق سطوح الغناء وتكسرني غيمة.

    صورتي كتبت سيرتي ، ونفتني إلى الغرف الساحلية

    بيتُ الدمشقيّ بيتّ من الشعر

    أرض العبارة زرقاء ، شفافة.

    ليلُه أزرقّ مثل عينيه. آنيةُ الزهر زرقاء

    و الستائر زرقاء.

    سجَّاد غرفته أزرق. دمعُهُ ـ حين يبكي

    رحيلَ ابنه في الممرات ـ أزرق

    آثار زوجته في الخزانة زرقاء.

    لم تَعُدً الأرض في حاجة لسماء ،

    فإن قليلاً من البحر في الشعر يكفي لينتشر الأزرقُ

    الأبديُّ على الأبجدية.



    قلتُ لهُ ، حين مُتْنا معاً ، وعلى حدة:

    أنت في حاجةْ لهواء دمشق،

    فقال: سأقفز ، بعد قليل ، لأرقد في حفرة من سماء دمشق.

    فقلتُ: انتظر ريثما أتعافى ، لأحمل عنكَ الكلام الأخير

    انتظرني ولا تذهب الآن ، لا تمتحنّي ولا تَشْكُل الآس وحدك،

    قال: انتظر أنت ، عش أنت بعدي:

    فلا بدّ من شاعر ينتظر.

    فانتظرتُ، وأرجأتُ موتي




    Date : 30-04-2010


    ملحق الدستور الثقافي

    نزار قباني
    المرأة تحولت إلى سيف يذبحني

    هل يشاركك جمهورك في كتابة القصيدة؟.

    ـ إذا كنت تعني بالمشاركة أنّ هذا الجمهور يجلس على أصابعي عندما أكتب ، فهذا غير صحيح. أمّا إذا كنت تعني بالمشاركة أنّني أستقطب هموم هذا الجمهور وانفعالاته ، وأتحسّس بها كما تشمّ الخيول رائحة المطر قبل سقوطه ، فهذا صحيح. بهذا المعنى ، أنا أقف على أرض التوقّع والنبوءة.

    تعني أنّ هموم الجماهير استغرقتك كلّية ، وأنّه ليس هناك انفصال بينها وبين تجاربك الصغيرة؟.

    ـ ليس عندي تجربة صغيرة وتجربة كبيرة. كلّ تجاربي هي في الوقت ذاته تجربة العالم كلّه. فأنا ، حين أتحدّث عن حبّي ، إنّما أتحدّث عن حبّ العالم كلّه ، وحين أتحدّث عن حزني ، إنّما أتحدّث عن حزن الدنيا بأجمعها. تخطئ حين تظنّ أنّ تجربة الشاعر الجزئية تجيء من برزخ آخر: فالشاعر جزء من أرض ، ومجتمع ، وتاريخ ، وموروثات ثقافية ونفسية وعضوية. وكلّ كلمة يضعها الشاعر على الورقة ، تحمل في ثناياها الإنسانيةَ كلّها. والتجربة الذاتية التي تظنّها صغيرة ، تأخذ في بعض الأحيان حجم الكون. لذلك فإنّ خصوصيات الشاعر ، بمجرّد اصطدامها بالورق ، تتعدّى ذاتها ، لتصبح فضيحة ، فضيحة يقرؤها العالم. إنّ الأدب الذاتي خرافة وافتراض: فالذات ليست إلكتروناً منفصلاً ولكنّها جزء من حركة الكون. حتّى في حالات عشقي الشخصي ، أشعر أنّ الواحدة التي أحبّها هي كلّ النساء.

    أتصوّر أنّ المرأة في شعرك لم تكن قضية بقدر ما كانت بطاقة إلى الجماهير. أعني أنّ المرأة في شعرك "مَضافة" تزوّقها كلّ مرّة بما يرضي أذواق الضيوف ويخدّرهم؟.

    ـ المرأة كانت ، ذات يوم ، وردة في عُروة ثوبي ، خاتماً في أصبعي ، همّاً جميلاً ينام على وسادتي ، ثمّ تحوّلت إلى سيف يذبحني. المرأة عندي ، الآن ، ليست ليرة ذهبية ملفوفة بالقطن ، ولا جارية تنتظرني في مقاصير الحريم ، ولا فندقاً أحمل إليه حقائبي ثمّ أرحل. المرأة هي ، الآن عندي ، أرض ثورية ، ووسيلة من وسائل التحرير. إنّني أربط قضيّتها بحرب التحرير الاجتماعية التي يخوضها العالم العربي اليوم. إنّني أكتب اليوم لأنقذها من أضراس الخليفة ، وأظافر رجال القبيلة. إنّني أريد أن أنهي حالة المرأة ـ الوليمة ، أو المرأة - المَنسف ، وأحرّرها من سيف عنترة وأبي زيد الهلالي.

    ما لم نكفّ عن اعتبار جسد المرأة مَنسفاً تغوص فيه أصابعنا وشهواتنا ، وما لم نكفّ عن اعتبار جسدها جداراً نجرّب عليه شهامتنا ، ورصاص مسدّساتنا ، فلا تحرير إطلاقا. إنّ الجنس هو صداعنا الكبير في هذه المنطقة ، وهو المقياس البدائي لكلّ أخلاقيّاتنا التي حملناها معنا من الصحراء. يجب أن يعود للجنس حجمه الطبيعي ، وأن لا نضخّمه بشكل يحوّله إلى غول أو عنقاء. الكائنات كلّها تلعب لعبة الجنس بمنتهى الطهارة: الأسماك ، الأرانب ، والأزاهير ، والعصافير ، وشرانق الحرير ، والأمواج ، والغيوم.. كلّها تمارس طقوس الجنس بعفوية وشفافية ، إلاّ نحن: فقد اعتبرناه طفلاً غير شرعي ، وطردناه من مدننا وجرّدناه من حقوقه المدنية.






    هذا الحوار اجراه منير العكش مع الراحل

    ونشر في مجلة «مواقف» ـ تشرين الأول 1971

    ------

    ملحق لدستور الثقافي
    30/4/2010


    ماذا بقي من تأثير نزار على المرأة المبدعة؟







    موسى حوامدة


    ربما تكون المرأة العربية أكثر تأثراً بنزار قباني ، وربما تكون شعبية نزار بدأت ، أول ما بدأت ، لدى المرأة العربية ، وقد فكرنا بسؤال عدد من المبدعات العربيات عما بقي من أثر نزار فيهن ، فاستجاب بعضهن ، فيما كان ثمة مَنْ قالت: "اسألوا أحلام مستغانمي" ، والإشارة الواضحة من هذا القول أن تأثير نزار طال الروائية الجزائرية ، وهذا ليس مستغرباً ، وليس سيئاً في الحالتين ، ولا يعتبر ضد مستغانمي.



    بعض من الكاتبات اللواتي تم استطلاع آرائهن أحجمن عن المشاركة: لأن قباني لم يؤثر فيهن ، حسب قولهن ، وحين طلبنا منهن كتابة ذلك رفضن. وقد بحثنا عن رأي مخالف أو معارض ، فوجدناه لدى الشاعرة زليخة أبو ريشة بقولها كلاماً قد يصدم محبي نزار ، لكننا ضد عبودية الأشخاص ، والشعراء بخاصة. ومن حق الجميع أن يبدي رأيه بحرية ، ومن دون تردد.

    نحن نحتفي بالذكرى السنوية لرحيل نزار قباني (ولد في الحادي والعشرين من آذار عام 1923 ، وتوفي في الثلاثين من نيسان عام )1998 لكنه ليس احتفاء رسمياً ، بل استذكار وحديث لم يزل مفتوحاً عن شاعر بحجم نزار ، الذي ترك وراءه ضجيجاً ما زال عالياً ، وقصائد ما زالت مسموعة ومقروءة ، وفي الوقت نفسه ترك آثاراً إبداعية ما انفكت تثير جدالاً على نطاق واسع. تالياً آراء بعض من الكاتبات في ما قدمه نزار بمسيرته الإبداعية:



    نادى بتحرر المرأة علناً واستعبدها سراً

    زليخة أبو ريشة

    لحسن الحظ أنَّ ما كتبْتُه في البدايات والمراهقة لم أنشره ، ففيه يظهر التأثير المباشر على بنية العبارة الشعرية لديَّ. وإذا كان نزار قد أثَّر في أكبر الشعراء (درويش مثلاً) ، فإنَّه فتح للقصيدة أبواباً ما نزال ندلفُ منها جميعناً. فقد أنْسَنَ القصيدةَ ، كما أنسنَ تفاصيلَ الحياة وشؤونها الصغيرة ، وكسَّر لنا التابو بأنواعه ، ورقَّص المجازَ الشعري. وهذه جميعها أبوابّ - أكثر منها تأثيرات - عبرناها نحو مناخاتْ جديدةْ للشعرية العربية. وأظنُّ أنَّ من حسنً حظًّ الشعر أنَّ شعر نزار قد فترَ في أواخره ، وفقد ألقَهُ ، ووقع في خواء المعنى ، وفي التكرار المملًّ ـ كما لو كان يُحفًّظُنا درساً ـ فأتاحَ فرصةً لمن يشاءُ أو تشاءُ أن تراجعَ تأثيره فيها. وعلى ذلك ، فإنَّ الذي ذهب من نزار فيَّ هو التأثُّرُ المباشر الفجّ بفكرته وأخيلته. غير أنَّ ما بقي هو هذا الأفق المفتوح نحو غابة الإنسيًّ المدنّس والمقدَّس في آن. غير أنَّ لنزار فيَّ تأثيراً مضاداً ما يزالُ حتى الآن: وأعني موقفه الحقيقي من المرأة. فقد سُمًّيَ بطلاناً بـ"شاعر المرأة" ، واحتفت النساءُ به على أنَّه نبيُّهنَّ الجديدُ ، في حين لم يكن ـ أيدولوجياً ـ سوى أفَّاقْ يغتذي على امتهانهنَّ ، و"استعمالهنَّ" ديكوراً وأدوات استمتاعْ لفحولته المنتفخة. ومثل أيًّ مثقَّفْ عربيّْ ، ينادي بتحرير المرأة ، بينما هو يستعبدها سًرَّاً: أي في علاقته المباشرة معها. وقد فضحه الشعرُ الذي لا يبقي سَتراً على أحد.

    شاعرة أردنية
    -----------



    تماهى مع صوت الانوثة المقهور

    وجدان الصائغ

    تأثير نزار قباني فيّ ، بوصفي مبدعة ، مسألة لم أطرحها على نفسي منذ أن بزغت نصوصه في حياتي في المرحلة المتوسطة وحتى تساقطت دموعي لغيابه بعد حصولي على الدكتوراه. فاصل زمني كبير عشقت خلاله قصائد نزار قباني ، التي كانت أشبه بقطرات الندى: أشبه بحبات العسل أتذوقها ، أتلمظها لتجعلني أتجرع مرارة ما يحصل على الأرض من تهميش واستلاب ومصادرة. أتذكر أول مرة تعجبت ، وأنا أقرأ: "قصيدة تلومني الدنيا إذا أحببته كأنني أنا التي خلقت الحب واخترعته ، أو الحب مواجهة كبرى إبحار ضد التيار صلب وعذاب ودموع ورحيل عند الأقمار و.. ". كانت قصائد نزار قباني تأخذني إلى عالم بلوري مخضل. نصوصه تحلق بي في سماوات من الياسمين والفل والقرنفل ، نصوصه كانت تمنحني أجنحة من كريستال.. تجعل أقدامي تطأ بحار البراءة. وليس هذا فقط: فنزار قباني كان يعرف محنة المرأة العربية في ظل غياب القانون الذي يحميها من ثقافة العنف الأسري ، قمعها عن صناعة القرار ، ووقوعها فريسة التسلط الأبوي الغاشم الذي يعصف بطموحاتها ويمحق أحلامها لا لشيء إلا لكونها أنثى مكسورة الجناح لا تمتلك دخلاً مادياً مستقلاً. لذلك كانت نصوص نزار تشبه المنشورات السرية التي نخبئها ، آنذاك ، بين أوراقنا المدرسية ، وفي خزاناتنا الخاصة. نحتفظ بها كنزاً ثميناً. نتداولها ، ونشم عبيرها ، لا لشيء إلا لأن النظام الأبوي الصارم يجد قصائد نزار نصوصاً خادشة للحياء ، ورعناء تعلم النساء "طولة اللسان ، وتطلع عينهن"،.

    والسؤال الذي كنت أطرحه على نفسي آنذاك هو: كيف استطاع نزار أن يتماهى مع صوت الأنوثة المقهورة إلى هذا الحد بالغ الدقة؟ وكيف استطاع أن يكون العاشق الولهان ، مرة ، والمعشوقة الحسناء ، مرة أخرى؟ هي قدرة ومهارة لن يقدر عليها إلا شاعر بقامة نزار.. إلا شاعر بحساسية نزار.

    وحين حددت مساري النقدي وجدت في قصائد نزار رسالة إنسانية سامية ، وقفت عزلاء في وجه التخلف والظلم والقهر الجماعي. رسالة اعتمدت المرأة رمزاً ينفتح على تأويلات شتى. بل ووجدت في قصائد نزار ، التي وظفت المرأة رمزاً ، نصوصاً وثائقية أرخت لفجيعة الراهن العربي بكل تفاصيله الموجعة المكسورة المتشظية ، وعكست وجوهنا معاً: فنحن القاهر والمقهور معاً.

    ناقدة عراقية واستاذة اللغة العربية ـ كلية واشتيناو - الولايات المتحدة الامريكية.

    -------------------

    ما أحلى الرجوع إليه،

    سلوى اللوباني
    لو لم يكتب نزار قباني في حياته إلا قصيدة "بلقيس" فهذا يكفيني لأعتبره شاعراً بامتياز ، شاعراً استطاع أن يعبر عن الأحوال السياسية في العالم العربي من خلال مشاعر الحب: فهذه القصيدة ليست مرثية فقط لبلقيس ، بل مرثية للعالم العربي بكل أحواله. وثق من خلال هذه القصيدة حال المجتمعات العربية في حينها ، وفي الوقت نفسه هو سابقّ عصره برؤيته في ما سجله من كلمات وتساؤلات كثيرة عن أوضاع البلاد العربية في الوقت الحاضر.

    طرح فيها كماً كبيراً من الأسئلة جامعاً بين الهم الشخصي والهم العام. وضع يده على جرحه وعلى جرحنا جميعاً ، بوصفنا عرباً: "لو أنهم حملوا إلينا من فلسطين الحزينة نجمة أو برتقالة.. لو أنهم حملوا إلينا من شؤاطئ غزة حجراً صغيراً أو محارة.. لو أنهم ، من ربع قرن ، حرروا زيتونة أو أرجعوا ليمونة ومحوا عن التاريخ عاره.. لشكرت من قتلوك يا بلقيس ، يا معشوقتي حتى الثمالة ، لكنهم تركوا فلسطيناً ليغتالوا غزالة".

    أضف ، إلى هذا ، أنّ نزاراً استطاع نقش أجمل وأغرب المشاعر الإنسانية في هذه القصيدة الطويلة: جمع فيها الحب والكره ، الغضب والهدوء ، الإعجاب والاستياء ، الماضي والحاضر ، وحتى المستقبل.. تأنيبَ الضمير وجلدَ الذات:"أترى ظلمتك إذ نقلتك ، ذات يوم ، من ضفاف الأعظمية" ، ثم الذهولَ والصدمةَ ، الرجلَ والمرأةَ ، الأمومةَ ، الذكرياتً وغيرها الكثير. بل إنه تناول وضع المبدع العربي من خلالها: "ما زلت أدفع من دمي أعلى جزاء كي أسعد الدنيا.. ولكن السماء شاءت أن أبقى وحيداً". وأيضاً ، عندما قال: "حيث اغتيال فراشة في حقلها صار القضية.. قتلوك في بيروت مثل أي غزالة من بعد ما قتلوا الكلام".

    تلازمني قصائده منذ سنوات ، لا أتخلى عنها. أعود إليه دوماً. أحب أن أسمعه وهو يلقي أي قصيدة ، ولكن أحبها إلى مسمعي "بلقيس" ، و"أشهد أن لا امرأة إلا أنت". ما يزال تأثيره باقياً ، ولا أعتقد أن هذا التأثير سيزول يوماً ما ، بل ـ بالعكس ـ كلما مرت السنوات أتأثر بنبض إحساسه أكثر. وما أحلى الرجوع إليه،

    نزار قباني استطاع أن يجسد لنا صورة الرجل العربي في الحب والمشاعر دون مواربة أو خجل وهذا لم نتعوده من الرجل العربي ، وإحساسه بالمرأة العربية عال من دون إبتذال. كل قصيدة من قصائده هي موضوع قائم بذاته: موضوع متكامل يتناول فيه علاقة المرأة والرجل.

    كاتبة أردنية مقيمة في القاهرة.

    -------------------

    ظاهرة شعرية

    رفقة دودين

    يعتبر الشاعر الكبير نزار قباني ظاهرة شعرية فارقة ، ولعلها من تلك التي تتكرر على رأس كل مائة عام. كما أنه قر في ذاكرتنا الجمعية ، خاصة أنه ـ وفي زمن التابوهات وسطوتها ـ قد اجترح معجماً شعرياً يوظف الجسد والرغبات ، ويعتد بطاقة "الليبيدو" بوصفها طاقة الحب ومرتكز الحياة الإنسانية ، وجوهر وجودها ونمائها وتقدمها. على أن النسويات المحدثات قد وقفن موقفاً مغايراً من هذه المسألة من منطلق أن مثل هذا التعاطي الإبداعي مع المرأة ، جسداً وعاطفةً ، قد انبنى من موقع ذكوري فوقي ، يقدس ويدنس في الوقت ذاته ، جاعلاً المرأة ـ بأسطورة "التكوين الأنثوي" ـ إما ملاكاً وإما الشيطان بعينه ، علاوة على مسألة ادعاء تمثيل المرأة ، والحديث بصوت مشاعرها وأحاسيسها. والأهم بناء مخيال رومنسي يمزج بين فتنة المرأة وفتنة الطبيعة ، ما يعني تكريس ثنائية الذكورة المهيمنة الفاعلة والأنوثة الخاضعة المتلقية. وكل ما سبق يؤكد أن نزار قباني ظاهرة شعرية خالدة في التراث الإبداعي والجمالي العربي.

    ناقدة وأكاديمية أردنية.

    --------

    بذوره ما زالت تستيقظ فينا

    نوّارة لحرش

    كلنا تربينا على أشعار نزار قباني ، حتى ذائقتنا الشعرية بدأت ـ منذ نعومة تكويناتها ـ تتشكل من أشعاره ومفرداته وأبياته. كان شعره السهل الممتنع القريب المتغلغل في الروح والوجدان فاكهتنا البكر في بساتين اللغة والمفردات. كان شاعرنا الذي يحمل هواجسنا ويعرضها بنوع من الجمالية الشفافة إلى سطح الشعور والنور والبهاء. كانت الساحة مزدحمة ببعض الشعراء ، وكل له قضيته الشعرية والإنسانية والجمالية التي يطرحها بالشكل الذي يحبّ ، والذي يراه الأقرب والأصوب والأجمل على جمهور الشعر العربي من المحيط إلى الخليج ، وعلى أهل الشعر ومحبيه ، أيضاً. كان أحمد مطر يعزف على وتر السياسة ، عادة ، وكان محمود درويش يعزف على وتر القضية الفلسطينية ، في أغلب الأشعار ، وكان نزار يعزف على وتر آخر ، برغم عزفه على وتر السياسة والقضية بين حين و آخر. لكن عزفه الأكثر إلحاحاً وحضوراً كان على وتر العاطفة العربية المهزوزة ، المقهورة ، المختبئة بين الخوف والجبن والقهر والهزات المتتالية في نفسية وذهنية الإنسان العربي ، وبين أفراد الأسرة الواحدة ، وليس فقط بين أبناء الوطن الواحد. كان يكتب كي يرمم شروخ الجدارات الإنسانية فينا. كان يضمد بالحبّ ونبراته أرواحنا المشققة الجافة بفعل الأمية العاطفية المتفشية بفعل اللاتواصل أو بفعل القطيعة بين الإنسان والحبّ بسبب المفهوم السائد والخاطئ والمغلوط بأن الحبّ نوع من أنواع الخطيئة ، أو أنه يقود ـ تدريجياً ـ إلى الخطيئة والتعفن الأخلاقي. كان نزار يناضل ، جمالياً ، من أجل إعلاء شأن الحبّ والإحساس به والعيش به وله ومنه وفيه ، وهذا ما جعل شعره يخترق قلوب الشباب العربي ، وبهذا حدثت علاقة الحبّ الكبيرة والإستثنائية لأول مرة في تاريخ الشعر العربي بين الشعر والجمهور: فالجمهور يأتي ليرى نفسه ، ملامحه ، طقسه الحميم في مرايا شعر نزار قباني ، وهذا كله متن ووطَّد علاقة الحبّ بين الشاعر العاطفي وبين الجمهور العربي الذي أصبح يحبّ الشعر ويأنس به ويجده متنفساً وملاذاً له من الكثير من الخيبات والانكسارت والخسارات. الآن ، وبعد سنوات من رحيله ، ما زلنا نحبّه و نقرؤه رغم كل ما قيل عنه في بعض المواقف التي جاءت ضده وضد شعره. ما زلنا نحترمه ونحترم شعره وأكثر ، ما زلنا نحترم إصراره على شعرنة الأحاسيس والعواطف والرؤى. ولا يمكن ـ بأي حال من الأحوال ـ أن نتنكر لتلك المرحلة الأولى والباكرة من حياتنا حين كنا نقرأ أشعاره بشغف ، وكنا نبحث عن دواوينه بالطرق شتى التي يمكن أن تدلنا عليها ، والحصول عليها واستعارتها. ولا ننكر ، أيضاً ، أننا ـ وقتها ـ كنا نتدرج جمالياً وشعرياً على أشعاره وكأنّه قديس حبّ جاء ليقول لنا الحبّ خبزنا اليومي الطازج لا خطيئة ـ كما يدعي أغبياء العالم ـ والحبّ أيقونتنا ـ أرضنا وسماؤنا ـ جنتنا التي لا تعرف باباً للجحيم. لقد تأثرنا به ، وكلّّ تأثر بدرجة معينة أو بجرعة معينة ، الأكيد أننا لا يمكن أن ننكر أننا تأثرنا به ـ ولو في مراحل معينة من تجاربنا الأولى في الحياة والكتابة والحبّ ـ وأن بعض بذوره ما زالت تستيقظ فينا أحياناً ، ويحق لها أن تستيقظ ، لكنها بذوره هو لا بذورنا: ففي النهاية نحن نتدرب ، دوماً ، على أن تكون لنا بذورنا الخاصة التي تحمل بصماتنا وملامحنا وأرواحنا. وبالتالي ما بقي فينا من نزار قباني هي هذه البذور التي تستيقظ ، أحياناً ، لتحتفي معنا بشاعر كبير يقيم في وجداننا الشعري العربي ، وبشعرية كبيرة أسست وأبدعت مشهديتها بكل فرادة وتميز ، ولها إقامتها ـ كذلك ـ في خارطة الشعر العربي ومشهده.. وكل هذا يحفزنا ، دوماً ، أن نتدرب على أن تكون لنا بذورنا الخاصة ونبراتنا الخاصة: فالتأثر وارد أحياناً لكن الانطواء فيه ليس بالوارد دائماً.
    كاتبة جزائرية










    ملحق الدستور الثقافي
    30/4/2010
    اعتراف متأخر.. أنا ونزار

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    محمد ديبو



    كان الشاعر نزار قباني ، بالنسبة لشاب مثلي تربى في بيئة يسارية ، "شاعراً برجوازياً" ، وبعيداً كل البعد عن الجماهير والثورة العربية: فهو شاعر كرس نفسه لقضايا المرأة والعشق والغرام ، وغيرها من الأشياء التي كانت تنظر لها الثورة بعين الريبة والحذر. وكنا ـ نحن ، على اعتبارنا أبناء للثورة ـ نعد أنفسنا كي نكون على مستوى الثورة: أي أن نقرأ درويش ومظفر النواب ، ونسمع مارسيل خليفة والشيخ إمام وسميح شقير بوصف ذلك مهمة ثورية بحتة ، مبتعدين عن نزار وأم كلثوم وكل ما يخدش حياءنا الثوري ، ولا يصب في مهمة الثورة القادمة لا محال.

    ولكن ، فجأة ، أجد نفسي في خضم المراهقة ، بما تقتضيه من جنون وتمرد وبحث عن الذات ، وأكتشف الجسد المخبأ تحت ثقافة الحرام والمنع ، ويزداد الأمر سوءاً (أو جمالاً) عندما يضطرب قلبي ويهذي باسم طالبة في المدرسة أخذت معها الروح ، ورمت القلب في أتون جحيم لا عهد لي به من قبل.

    هنا ، في هذه اللحظة ، يقع في يدي ديوان "طفولة نهد" للشاعر نزار قباني ، لأصاب بفصام لم أشف منه حتى اللحظة ، حيث وجدت نفسي أمام شعر يحتلني ويسكنني من القراءة الأولى: شعر يحاكي تمردي وجنوني محرضاً قلبي المفتون على خوض معركته إلى النهاية لأجد نفسي في برزخ محير ومربك: في صراع بين ما تعلمته وقيل لي عن نزار البرجوازي والمشغول بقضايا بعيدة عن قضايا ثورتنا التي لم تأت ، وبين قوة هذا الشعر الذي جعل لقلبي جناحين ليطير إلى قلب الحبيبة.

    من هنا بدأت قراءتي لنزار ، وبدأت ألتهم قصائده التي كانت تتحول إلى منشور سري بين مراهقي مدرستي ، لأصبح "نجم" المدرسة ، خاصة بين الفتيات اللواتي نادراً ما قرأن كلمة نهد أو سمعن بها ، فما بالك بقصائد مجنونة تتمرد على كل شيء؟.

    هكذا أصبح الديوان ينتقل من فتاة إلى أخرى ، ومن طالب إلى آخر. كنا نتحلق في أوقات الفراغ حول الديوان باحثين عن القصائد التي تحاكي شبقنا وحرماننا لنقرأها بلذة وشغف.

    هنا سأكتشف أنه في الوقت الذي كان فيه الثوريون يحشون رؤوسنا بالقنابل ، والأمة العربية الموحدة ، والصراع الطبقي ، والمجتمع العربي الموحد ، والثورة الظافرة ، وفلسطين المحررة.. كانوا يقتلون الحياة في داخلنا ، وبالتالي ، يقتلون الوطن الذي لا يمكن أن يكون من دون حب وعشق ونساء. وفي هذا الوقت كان نزار يوقظ فينا كل هذا ويعيدنا إلى ضفة الحياة التي صادرها الثوريون.

    ولكن الصراع بين العقل الحاضر بجبروته وبين القلب المضمخ بقوة الشعر استمر فترة من الزمن ، إلى أن اختفى ، نهائياً ، لتنزوي الثورة ومفرداتها القديمة ، وتحل محلها ثورة تبدأ من القلب وتعود إليه: ثورة تبدأ من الجسد ولا تنتهي عند حدود الوطن: ثورة تبدأ من القول: هل يمكن لمن لا يفهم جسده وقلبه أن يقود ثورة؟.


    شاعر سوري ومراسل "الدستور الثقافي" في دمشق


    التاريخ : 30-04-2010


    ملحق الدستور الثقافي
    ذكرى رحيله .. نزار قباني وحفّارو القبور


    د. مريم جبر

    رجل يصحو وينام ويكتب على ضفاف الجرح العربي المتقيح منذ سقوط الدولة العباسية حتى اليوم.

    شكلت مضامين الشعر لدى نزار قباني صدمة تلقاها جمهور الشعر العربي ، بصور مختلفة يغلب عليها التطرف والانفعال. ففي حين احتفى الشباب والمراهقون بتلك المضامين ، وباللغة السلسة والإيقاع الذي يحاكي ثوراتهم الداخلية وعواطفهم ، إلى حدّ زها فيه قباني بأن كثيراً من الشباب العربي أصبح ينام وتحت وسادته شيء من شعره ، بخاصة ديوانه (قالت لي السمراء) ، فقد جوبه من جانب آخر بسيل من الانتقادات لمحدودية الموضوعات التي تناولها ، وبخاصة ما يتعلق بالمرأة ، تلك الانتقادات التي أحدثت فجوة بين الشاعر والنقاد ، وجعلته يلجأ إلى تقمص دورهم النقدي ، من جهة ، وإلى الإفاضة في التنظير لشعره ، وإطلاق الأحكام التعميمية في مختلف القضايا الخاصة بالشعر العربي قديمة وحديثه ، من جهة أخرى ، ناهيك بأن رفضه دَوْرَ النقاد في النظر في شعره بلغ حد وصفهم بحفاري القبور الذين يحولون القصيدة إلى جثة.

    فمن النقاد من نال من جماهيريته ، فأعادها إلى مديحه النساء ، والى إطلالته على المنبر بوجه حلو الملامح ، وقامة رشيقة ، وخصائص مراهقة ، وإلى اسمه الموسيقي اللطيف العذب ، ومنهم من لفت إلى علاقة الشاعر بنقاده والى ما تحمله القصائد من قوة التغيير ، فنقاده ـ إنْ مدحوه ـ غفلوا عن قوة التغيير التي تحملها قصائده عاصفة في أنفس قرائه ، وإنْ ذموه أخذوا عليه اهتمامه الملح بالمرأة ، وما يتوهمون فيه من نرجسية: لأنه قال ، يوماً ، غاضباً: "مارست ألف عبادة وعبادة ـ فوجدت أفضلها عبادة ذاتي" ، وأنه ، لذلك ، لا يسهم في التغيير الذي تصوروا أنهم يحققونه هم دونه ، مع أنه أسبق منهم إليه وأعنف على طريقته.

    ومنهم من رأى المرأة في شعر نزار قباني أنموذج الأم النفسي ، بسبب ما يلمحه القارئ شعرَه من مطلب الرعاية والحماية والاهتمام الذي اشترطه في المرأة التي يحبها. فيما ذهب بعضهم إلى أن النقاد الذين أطلقوا على نزار قباني 'شاعر المرأة' لم يراعوا الدقة في ما قالوه أو كتبوه ، لأنه ليس شاعر المرأة ولكنه شاعر جسد المرأة ، وأن شعره ليس أكثر من مجموعة ذهب وأساور وأقراط وفرو ولهو وتسلية وكاميرا تسلط الضوء على أشياء الحياة المادية الرغدة ، وأن نظرته إلى المرأة نظرة شرقية مغرقة في تخلفها.

    أما الصدمة الثانية التي جابه بها نزار قباني جمهوره والنقاد ، بخاصة ، منهم ، فتتعلق بالوجه الآخر لمضمونه الشعري ، وهو السياسي ، الذي تعرض جراءه لنقد لم يعرف هوادة أيضاً ، فقد عدُّوه طارئاً على هذا النوع من الشعر ، لأنه لم يدفع الثمن الذي دفعه غيره من الملاحقة والمطاردة جراء أشعارهم الوطنية والقومية ، كما فعل غيره من الشعراء ، بل جعله نافذة لشعره يطل من خلالها على جمهوره ليبقى محافظاً عليه. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد ، بل عمد بعض دارسيه إلى حصر الدافع إلى هذا اللون من الشعر لديه ، بأنه تشفّ بآلام القارئ وجراحه ، لمزيد من الفرجة ، ومزيد من السادية أو حب تعذيب الذات.

    فلم ينجُ نزار في شعره السياسي مما لقيه في النقد الموجه إلى شعره في المرأة ، بل ربط بعضهم بين الموضوعين ، فجعلوا من انصراف الشاعر مدة سبع عشرة سنة إلى التغني بالمرأة سبباً في عرقلة انطلاقته القومية ، فلم تختمر في أعماقه موضوعات الشعب ، وكان حديث العهد بموضوعات السياسة ، وهبط بشعره ـ أحياناً ـ إلى مستوى الشعارات المحلية والمناسبات الخطابية: إذ لم يروا في شعره السياسي موقفاً ، مثلما أن شعر المرأة لم يكن ، أيضاً ، موقفاً من مواقفه الحياتية في يوم من الأيام. كما أنه كرس معاني الهزيمة في شعر سياسي انهزامي ، بينما أعاد بعضهم ذلك إلى أنه لم يكن مثقفاً ثقافة سياسية من أي نوع ، فلم يكن قومياً ولا اشتراكياً ولا يسارياً: فهو شاعر المرأة وأشيائها بالدرجة الأولى ، لا شاعر الأمة وقضاياها.

    غير أن مثل تلك الآراء لم تمنع نزاراً من أن يؤكد في كل مناسبة تلوح له أنه "رجل يصحو وينام ويكتب على ضفاف الجرح العربي المتقيح منذ سقوط الدولة العباسية حتى اليوم" ، وأن شعره كله "ابتداء من أول فاصلة ، حتى آخر نقطة فيه ، وبصرف النظر عن المواد الأولية التي تشكله والبشر الذين يملؤونه من رجال ونساء ، والتجربة التي تضيئه ـ سواء كانت تجربة عاطفية أو سياسية ـ هو شعر وطني" ، ولم يكن بمنأى عما يدور حول شعره السياسي ، فكتب: "الناس يعرفونني عاشقاً كبيراً ، ولا يريدون أن يعرفوني غاضباً كبيراً ، يعرفون وجه العملة الأمامي ، ولا يهتمون بوجهها الخلفي" ، في حين يساوي هو بين الوجهين: المرأة والقضية العربية ، تحرير المرأة من رسوبات العصر الجاهلي وتحرير الأرض من حوافر الخيول الإسرائيلية.

    وفي الجانب الآخر كان ثمة من رأى في نزار قباني شاعراً وطنياً عربيا "بالطول والعرض" من المحيط إلى الخليج ، وأنه كان الشاعر الوحيد الذي غدا شعره السياسي قوة تحريضية مستمرة على نطاق لم يعرف مثله حتى في شعر الجواهري في ما مضى. إنه لا يقاوم العدو من الخارج فحسب ، بل يقاوم ، أيضاً ، العدو من الداخل في سبيل الإنسان: فهو يجمع بين العشق والحرية على نحو لا نجده في قلة من شعراء التاريخ.

    فثمة تباين يصل حد التناقض بين الآراء النقدية المختلفة في نزار قباني وشعره ، فمنهم من رآه ماجناً يخلع عذاره وشاعراً يكتب على مستوى أنصاف المثقفين ، ومنهم من أقر له بالسبق في الغزل ، ونعى عليه التعقيد في السياسة ، ومنهم من عني بجمال تعبيره وطلاوة لفظه. ولعل تلك المواقف وغيرها قد دفعت نزار قباني إلى بذل قصارى جهده في الدفاع عما أسماه بجمهوريته الشعرية ، بالسبل شتى ، ومن ذلك كثافة اللقاءات الصحفية التي اتُهم فيها ، أيضاً ، بأنه كان يكتبها بنفسه ، إلى جانب الكم اللافت للانتباه من الآراء النقدية التي نثرها في سيرته الذاتية بجزأيها ، وفي كتابيه: (ما هو الشعر) و(الشعر قنديل أخضر) ، وفي لقاءاته الصحفية ومقدمات دواوينه الشعرية: فقد أفاض في توضيح رؤيته للمرأة ومفهوم التحرر الذي أراده لها ، وفي توضيح وجهات نظره في مفهوم الشعر لديه وبنيته اللغوية والموسيقية ، ورؤيته للقصيدة العربية القديمة من وجهة نظر "اليسار" الذي ـ حسب رأيه ـ يتسم بالطفولة والنزق والجنون والثورة والرفض ، ورؤيته للقصيدة العربية الحديثة في عصيانها لكل العادات والأنماط اللغوية والبلاغية القديمة: تحررها من جبرية الموسيقى ومن حتمية البحور الخليلية ووثنية القافية الموحدة وغير ذلك مما عدّه أخطر ما فعلته القصيدة الحديثة.

    ولعل في كل ذلك ما حدا ببعض النقاد إلى التساؤل ، عما إذا كان ذلك سبباً آخر ـ إلى جانب إبداعه الشعري ـ في تشكيل معضلة للنقد العربي الحديث تجاه هذا الشاعر ، حتى ظن بعضهم أنه لم يعد لدى النقد والنقاد ما يقولونه.

    غير أن الوجه الآخر للمعضلة يبدو أوضح في موقف نزار الشاعر من النقد والنقاد ، حيث صرح أكثر من مرة أنه لم يقرأ كلام النقاد خلال أربعين عاماً من كتابة الشعر ، بل إنه يعيد سر بقائه شاعراً كل تلك الفترة ، إلى أنه لم يقرأ كلام النقاد عن شعره ولم يعمل بنصائحهم ، بل إنه يشبههم بالكميونات الكبيرة تفرغ بضائعها في منتصف الشارع ، حتى يتعرقل سير القصائد ، وتكسر أعناق الشعراء.

    وهو ، إلى ذلك ، يربط بين النقد العربي والسلوك العربي ، فيرى قباني أن النقد العربي "قائم على العصبية والتوتر والانفعال" ، ويردُّ ذلك إلى عدم قراءة النص "بحضارة وموضوعية وروح علمية" ، إنما بنهجم "على حياة الشاعر وخصوصياته بالهروات والسكاكين ، حتى تتحول القصيدة إلى جثه" ، ولعله كان يطمح إلى نقاد منصفين لشعره ، غير أولئك النقاد الذين رأى فيهم "كتاباً بالسخرة أو بالقطعة لا يحملون شهادات أو ترخيصاً بمزاولة العمل ، حولوا مهنة النقد إلى مهنة تشبه مهنة حفاري القبور". ولم يكن معنياً بالاستجابة لمنظورات النقاد ونقدهم ، قدر ما كان معنياً بمنظور ذاته إلى الحياة والأشياء والوجود ، وعلى الرغم مما قيل حول المرأة في شعره ، فقد ظل معتداً بجمهوريته ، أول جمهورية شعرية هو مؤسسها ، وأكثر مواطنيها من النساء ، وفق ما نزار قباني.. اللغة الثالثة والقارورة الضيقة




    Date : 30-04-2010


    ملحق الدستور الثقافي
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  3. #3

    رد: الذكرى الثانية عشر لرحيل الشاعر نزار قبّاني


    ياسمينة عمّانية على قبر نزار قبّاني
    موسى حوامدة
    في عام 1982 ، وبينما كنت في زيارة أحد الأصدقاء في مدينة العقبة ، نشرت جريدة "الدستور" قصيدة 'بلقيس' لنزار قباني. كنتُ سمعتُ عن مقتل بلقيس في بيروت ، ولم أفكر ـ حينها ـ في مَن قتلها ، ولماذا قتلت. لكن المعلومات التي كانت متداولة ، آنذاك ، أنه تم تفجير السفارة العراقية في بيروت حيث كانت تعمل بلقيس.

    قرأت القصيدة مرة ومرة ومرات ، وبقيت ـ طيلة النهار بكامله ـ أتصفح الجريدة وأحدق في صورتهما معاً. كانت بلقيس امرأة عربية جميلة أحبها نزار قباني وارتبط بها بعدما رفضه والدها. ولولا تدخل القيادة السياسية في العراق ، في ذلك الوقت ، برئاسة البكر ونائبه صدام لما ارتبط نزار ببلقيس ، ولما تركت العراق واستقرت في بيروت لتعمل في السفارة العراقية هناك ، وهذا ما دفعه للقول ، في القصيدة:

    "أترى ظلمتك إذ نقلتك

    ذات يومْ.. من ضفاف الأعظمية؟"

    كانت القصيدة علامة بارزة في شعر نزار قباني وفي مسيرة الشعر العربي الحديث ، بل كانت تعبيراً بليغاً عن حال العرب في بداية الثمانينيات ، وقبل اجتياح إسرائيل لبيروت وإجبار منظمة التحرير الفلسطينية على الخروج من المدينة.

    ورغم أن نزاراً وجه الاتهام إلى بعض الفلسطينيين في تفجير مبنى السفارة ، وانتقد منظمة التحرير في ذلك الوقت ، ورغم غضب الكثير من الفلسطينيين من نزار ، لكن الرجل كان معذوراً حينها نتيجة الصدمة الكبيرة التي وقعت عليه ، فقد تم اغتيال بلقيس التي أحبها حد العشق:

    "يا زوجتي.. وحبيبتي.. وقصيدتي.. وضياء عيني.. قد كنتً عصفوري الجميل".

    ورغم أننا لا نعرف من هم الفاعلون الحقيقيون لكن نقد نزار كان في محله ، فقد ذهبت منظمة التحرير إلى قضايا ثانوية وقضايا لبناينة داخلية ، وانشغلت عن الهدف الرئيس لها.

    لكن لنترك الحديث عن السياسة جانباً: فقد ماتت بلقيس ، أو قتلت ، وكانت قصيدة نزار من أجمل قصائد الحب والرثاء:

    "بلقيس كانت أجمل الملكات في تاريخ بابل ، بلقيس كانت أطول النخلات في أرض العراق ، كانت إذا تمشي ترافقها طواويسّ وتتبعها أيائل. بلقيس ، يا وجعي ، ويا وجع القصيدة حين تلمسها الأنامل. هل ، يا ترى ، من بعد شَعرك سوف ترتفع السنابل؟"

    اليوم تمر اثنتا عشرة سنة على رحيل نزار قباني ، وقد شئنا في ملحق الدستور الثقافي أن نستذكر نزاراً في هذا اليوم. وإن كان عدد مشيعي نزار يوم دفنه في دمشق قليلاً ، فإن جمهوره كان طاغياً ولم يزل له عشاقه ومحبوه.

    وإنني أشكر الأصدقاء الذين تعاونوا معنا لإصدار هذا العدد وبهذا الشكل ، وأخص بالشكر الناقد العربي الكبير صبحي حديدي ، والذي يكتب للدستور الثقافي لأول مرة ، والناقدة والروائية الأردنية مريم جبر ، والناقد العراقي محمد صابر عبيد ، والشاعرة زليخة أبو ريشة ، والناقدة رفقة دودين ، والناقدة العراقية وجدان الصايغ ، والكاتب الفلسطيني علاء حليحل ، والشاعرين السوريين: محمد ديبو وأديب حسن محمد ، والفنان الأردني حسين دعيبس الذي أخرج لكاظم الساهر قصائد نزار ، والشاعرة الجزائرية نواره لحرش ، والكاتبة الأردنية سلوى اللوباني.

    كما لا أنسى جهود الزميل الياس محمد سعيد في تحرير مواد الملف ، وإن كان هناك بعض النقص في الملف. فذلك لأنّ تناول شاعر كبير ترك وراءه كل هذا الصخب والجدل والتأثير على شعراء كبار ، فلا بد أن يظل العمل ناقصاً مهما بُذلت من جهود.

    نأمل أن يكون هذا العدد مجردَ باقة ياسيمن عمّانية على قبر نزار قباني في دمشق.




    musa.hawamdeh@gmail.com


    ملحق الدستور الثقافي
    30/4/2010




    نزار قباني : اللغة الثالثة والقارورة الضيقة

    * صبحي حديدي
    حضرتْ في تأمّل نزار قباني (1932ـ 1998) لمعنى الشعر جملةُ اعتبارات نظرية معمّقة حول المحتوى والوظيفة عموماً، وغابت جملة اعتبارات فنية حول الشكل والتشكيل عموماً إيضاً. وقباني أستاذ في كتابة الشعر بوصفه ممارسة نظمية ذات سويّة فنية رفيعة أساساً، وبوصفه رسماً بالكلمات، ورقصاً بها، وعزفاً موسيقياً على آلاتها التي لا حدود لطاقاتها. وهو، في ذلك، معلّم بارع، ماهر، حاذق الصنعة، شديد الذكاء في عرض صناعته، بالغ الحساسية إزاء تقلباتها وسكونها وحركتها، عالي المراس في التنبّؤ بما يمكن أن يجعلها رائجة رابحة أو راكدة خاسرة.

    كان صانعاً ماهراً، ولا يعيبه أنه واصل اتقان الصنعة، وتوفير بضاعة لا يغشّ في صناعتها، ولا يتوقف عن تحسين مواصفاتها بقدر ما أسعفته الأدوات، حتى لقد تبيّن أنّ بضاعته تلك لم تكن شديدة الرواج فحسب، بل كان الطلب عليها شديداً أيضاً. ومن جانب آخر، كانت قِيَمها تلبّي احتياجات قطاعات عريضة متعددة من العباد، اختلفوا في العمر والانتماء الاجتماعي والذوق والذائقة والحساسية والأفكار، واجتمعوا على الحاجة الجمالية، وعلى نوعية البضاعة التي تشبع هذه الحاجة.

    وبعيداً عن هذه الاستعارة الصناعية، ظلّ قباني وفيّاً لمبدأ الشعر بوصفه هندسة صوتية أو صوتاً في الأساس كما يقول. هنالك ألوف الجمل الموسيقية التي لم تدوّن بعد على نوتة، وهنالك ألوف الجمل الشعرية التي لم تدوّن بعد على ورقة. قياس لا يبدو خالياً من المحتوى الديناميكي إذا تذكّر المرء أنه اعتبر موسيقى الشعر بمثابة البحر بشكله المطلق، أو الماء بشكله المطلق ، وأنّ الأوزان الشعرية ليست أكثر من عناصر في تركيب الماء وليست كلّ الماء. وثمة قَدَرية من نوعٍ ما بين الشعر والصوت، لأنّ الشعر في الأساس صوت، وهو في شعرنا العربي خاصة مخزون في حنجرة الشاعر وأذن المتلقي. فالصوت إذن قَدَر القصيدة وحتميتها، وليس بإمكاني بعدُ أن أتصوّر شكل القصيدة الخرساء. إنّ الفنون كلها تخضع لقانون القدرية، إذا كان للقدرية قانون. فالحركة قدر الرقص، واللون قدر الرسام، والحجر قدر الناحت. وأنا لا يمكنني تصوّر قصيدة تُقرأ بالأنف، أو موسيقى تتذوّق باللسان".

    والصانع الماهر هذا كان ديمقراطياً في موقفه من أشكال الكتابة الشعرية، على اختلافها. القصيدة الحرّة اجتهاد، يقول باطمئنان، وكذلك قصيدة التفعيلة و القصيدة الدائرية وقصيدة النثر، هذه التي لا يجوز لنا أن نطلق الرصاص عليها بتهمة الخيانة العظمى، أو بحجة أنها تقول كلاماً ليس له سند أو شبيه في كتب الأولين. إنّ من مصلحة القصيدة العربية أن تترك باب الاجتهاد مفتوحاً، وإلا تحوّلت إلى قصيدة فاشستية. أو إلى قصيدة من الخشب . وسوى هذا الموقف الديمقراطي، ثمة طرافة في تشبيهه القافية بإشارة المرور الحمراء، التي تفاجىء السائق، وتضطره إلى تخفيف السرعة، أو التوقّف النهائي، بحيث يعود محرّك السيارة إلى نقطة الصفر، بعد أن كان في ذروة اشتعاله واندفاعه".

    والصانع الماهر يستشعر الأنواء وسوء الأحوال الجوية، ولعله أحسن دائماً تحصين بيته كلما لاحت بوادر عاصفة ما، أو بعبارته: إنني لم أتوقف لحظة من اللحظات عن تغيير جلدي. إنني أعيش دائماً في حالة حذر وخوف من الآتي. إنني أشعر دائماً أنني أقف على أرض لا ثبات لها، وأنّ خيول الشعر تركض من حولي بالمئات. آخر تجربة لي كان مائة رسالة حب، وفيه تركت مواقعي القديمة لأخرج إلى برهة قصيدة النثر، حيث السماء أرحب، والحرية تقطف بالأصابع. بعد مئة رسالة حب (1970) سوف يفرج قباني عن مجموعة أخرى من قصائد النثر، في مجموعته كلّ عام وأنت حبيبتي (1978)، ثم على نحو متفرّق في مجموعات أخرى.

    مدهش، مع ذلك، أن تلك السماء التي يشير إليها لم تكن رحبة معه كما كانت حالها مع سواه من شعراء قصيدة النثر المتمرسين، حتى أنّ بعض قصائدة النثرية لم تكن ببرودة الصقيع فحسب، بل إنّ الجملة الاستعارية فيها بلغت مستوى مفاجئاً من الفقر التعبيري والمجازي معاً. ولم يكن مألوفاً أن يقول ذلك المعلّم الماهر:



    كل عام وأنت حبيبتي

    أقولها لكِ بكلّ بساطة

    كما يقرأ طفل صلاته قبل النوم

    وكما يقف عصفور على سنبلة قمح

    فتزداد الأزاهير المشغولة على ثوبك الأبيض زهرة..

    ـ رسالة (2)، كل عام وأنت حبيبتي



    ولقد كتب عشرات النماذج في هذا الخيار، ظلّت في معظمها تحوم على حافّة غائمة بين الشعر والنثر الشعري ولم ترْقَ دائماً إلى مستوى قصيدة النثر في نماذجها العربية المتقدمة، الأمر الذي دفعه للعودة إلى ترسانته الشخصية ذات العنوان المُشْهَر والعلامات الفارقة الصريحة، أكثر لهفة على امتلاك أرض جديدة، ولكن ليس أقلّ حذراً في الوقوف على أرض قديمة لا ثبات لها البتّة.

    بيد أن المشكلة لم تكن منحصرة في اختيار سماء بدَتْ رحبة للوهلة الأولى، قبل أن يتضح أنها ضيّقة على هذا النسر الطليق. لقد أخذ يشيخ رويداً رويداً، فانحسرت وتائر المغامرة اللغوية البكر، الشابّة والطليعية والعابثة والحاذقة. وشاخ أكثر ذلك المعجم الشعري الثرّ الذي ظلّ فاتناً في ألعابه الدلالية، مفاجئاً في استنباطه لعلاقات شعورية غير مألوفة بين الأحاسيس والمفاهيم والأشياء، ونزقاً في إسباغ دفء حسّي تصويري جسور على تقاليد الغزل العربي وقصيدة الحب. باختصار، كان لا بدّ أن تشيخ هذه اللغة الثالثة التي حلم بها طويلاً، وابتكر نَحْوها وتراكيبها وقواعد صرفها واشتقاقها وإعرابها، وأرادها جسراً لردم الهوّة بين لغتين: "العربي يقرأ ويكتب ويؤلّف ويحاضر بلغة، ويغنّي ويروي النكات، ويتشاجر، ويداعب أطفاله، ويتغزّل بعيني حبيبته بلغة ثانية. هذه الإزدواجية اللغوية، التي لم تكن تعانيها بقية اللغات، كانت تشطر أفكارنا وأحاسيسنا وحياتنا نصفين. لذلك كان لا بدّ من فعل شيء لإنهاء حالة الغربة التي كنّا نعانيها. وكان الحلّ هو اعتماد لغة ثالثة تأخذ من اللغة الأكاديمية منطقها وحكمتها ورصانتها، ومن اللغة العامية حرارتها، وشجاعتها، وفتوحاتها الجريئة. إن لغتي الشعرية تنتمي إلى هذه اللغة الثالثة".

    ونزار قباني اشتغل، منذ عام 1944 كما أوضح بنفسه، على "معادلة لتحويل الشعر العربي إلى قماش شعبي يلبسه الجميع، وإلى شاطىء شعبي يرتاده الجميع". ومنذ العام ذاته كان قد أقسم "أن لا يبقى مواطن واحد في الوطن العربي يكره الشعر، أو يستثقل دمه". ومنذئذ لم يكفّ عن الحلم "باحتلال العالم العربي شعرياً"، وأعلن بوضوح ودونما تواضع: "منذ عام 1944، وأنا أشتغل كالنملة، وأجرّ الحروف والكلمات على ظهري، لأصنع للشعر لغة ديمقراطية تجلس مع الناس في المقهى، وتشرب معهم الشاي، وتدخّن السجائر الشعبية معهم".

    وليس دونما خيلاء نبيلة أنه أطلق صرخة انتصار ثلاثية: لقد نجحتُ، وانتصرتُ، واحتللت! وتابع يقول: "أنا مؤسس أول جمهورية شعرية، أكثرية مواطنيها من النساء. جمهوريتي هذه، تختلف عن بقية الجمهوريات في أنّ الشعر فيها هو من الممتلكات العامة، كالماء، والهواء، والحدائق العمومية، وفي أنّ اللغة الشعرية في هذه الجمهورية لا تعرف التفرقة الطبقية، أو العنصرية، أو الثقافية. أنا ضدّ كلّ غيتوات الشعر، وضدّ تحويل القصيدة إلى طروادة تعيش في حصار تاريخي مع نفسها، وضدّ أن يتحوّل الشعر إلى نادٍ مغلقٍ كنوادي البريدج، أو نوادي العراة".

    والحقّ أن قباني أحسن الإنصات إلى مجموعة الاستجابات المعقدة التي كانت تشكّل خطوط الاستقبال المحورية في الذائقة العربية العامّة أولاً، ثم في ذائقة رعيّته هو وحده خصوصاً، فاستبقها تارة حين لاح أنها تنقلب إلى مكوّنات وجدانية وجمالية وفلسفية لمشروعه الشعري؛ وطوراً سار إلى جانبها أو خلفها حين أخذت كموناتها السوسيولوجية المعقدة تجعل قصيدة مثل "خبز وحشيش وقمر" ـ في مطالع الخمسينات، للتذكير! ـ بمثابة منشور سياسي سرّي في الدعوة إلى الإنعتاق من أغلال الإرث والدولة والقبيلة، أو تحوّل قصيدة "لوليتا" إلى بيان أنثوي صاخب في حقوق بلوغ سنّ الرشد.

    في المقابل، حدث مراراً (وفي الأطوار اللاحقة من شعره تحديداً) أنه انقلب موضوعياً إلى ضحية عالية الأداء، تتصالح مع انقلابات تلك المكوِّنات، أو تقصّر بعض الشيء في التقاط نبض تلك الكمونات، خصوصاً حين تسارع إيقاع الحياة المعاصرة، وتبدّلت الأمزجة والسلوكيات والعواطف، فتغيّرت معها تقاليد العشق والهوى والاحتجاج، وتحوّلت في غمرة ذلك كله أجناس التعبير وأشكاله ومعاجمه. ولم يكن غريباً أن يهتف قباني بحرقة وضراعة: "هل من الممكن، إكراماً لكلّ الأنبياء، أن تخرجوني من هذه القاروة الضيقة التي وضعتني فيها الصحافة العربية: أي قارورة الحبّ والمرأة"؟

    لم يكن ذلك ممكناً بالطبع، أو لم يكن يستقيم أساساً! نزار قباني هو "شاعر المرأة"، شاء أم ابى؛ أو هو إما الشاعر التقدمي الذي حرّر المرأة، أو ذاك الرجعي الذي سجنها في قارورة عطر وجورب حرير، ولا توسّط بين الأقصيَيَن، والمعلّم نفسه كان يوفّر المادة لمزيد من غياب هذا التوسّط. إنه حليف تقدمي للمرأة حين يقول، منذ العام 1944:



    يا لصوص اللحم.. يا تجّاره

    هكذا لحم السبايا يُؤكلُ

    منذ أن كان على الأرض الهوى

    أنتم الذئب ونحن الحملُ

    نحن آلات هوى مجهدة

    تفعل الحبّ ولا تنفعل

    ـ البغيّ، "قالت لي السمراء"



    وهو حليف رجعي للرجل الشهواني، المتعجرف، البهيميّ في علاقته بجسد المرأة:



    عبثاً جهودك.. بي الغريزة مطفأة

    إني شبعتكِ جيفة متقيئة

    إني قرفتكِ ناهداً متدلياً

    وقرفتُ تلك الحلمة المهترئة

    ـ إلى عجوز، "قالت لي السمراء"



    وهو إيروسيّ مَرِح، جذِل، عاشق، طَرِب:



    منضمّة، مزقزقة

    مبلولة كالورقة

    سبحانه من شقّها

    كما تُشقّ الفستقة

    نافورة صادحة

    وفكرة محلّقة

    ـ الشفة، "طفولة نهد"



    وهو موسيقيّ راقص، يدندن بالكلمة، ويعزف على القاموس:



    وصاحبتي إذا ضحكت

    يسيل الليل موسيقى

    تطوّقني بساقية

    من النهوند تطويقا

    فأشرب من قرار الرصد

    إبريقاً.. فإبريقا

    ـ ضحكة، "أنت لي"



    وهو ناقد اجتماعي راديكالي، يقوّض في العمق، ويهدم ابتداء من الركائز:



    ما الذي عند السماء

    لكسالى ضعفاء

    يستحيلون إلى موتى إذا عاش القمر

    ويهزّون قبور الأولياء

    علّها ترزقهم رزّاً وأطفالاً، قبور الأولياء

    ويمدّون السجاجيد الأنيقات الطُرَر

    يتسلون بأفيون نسميه قدر

    وقضاء،

    في بلادي.. في بلاد البسطاء.

    ـ خبز وحشيش وقمر، "قصائد"



    وربما كانت القصائد السياسية أبرز أواليات هذا الترحال أو "الترحيل" الدائب لحساسيات موقع الشاعر ـ الضحية، المُطالَب بالنطق البليغ باسم هموم الذات العاطفية وهمومها الوطنية السياسية على حدّ سواء، وبالصوت العالي الناقد حَدّ التجريح، الصارخ في البرية أبداً. وكانت المناسبة الوطنية (سواء في حال الإنتصار أو الهزيمة، الأمل أو اليأس) هي القرين الدائم لولادة قصيدة سياسية من نزار قباني: "قصة راشيل شوارزنبرغ"، بعد النكبة؛ "الحب والبترول"، "جميلة بوحيرد"، "رسالة جندي في جبهة السويس"، أواسط الخمسينات؛ "هوامش على دفتر النكسة" بعد هزيمة 1967، وصولاً إلى "متى يعلنون وفاة العرب" و"المهرولون". وفي كلّ مرّة كان المعلّم يشدّ القوس حتى أقصاه، وكان يدمي راحتيه أكثر!

    معلّم كبير باغَتَ المشهد الراكد، منذ مطلع الأربعينيات، فرمى الجمر في أحضان الكبار كما عبّر عبد الرحمن منيف، وفي مناقل الملايين من المتضوّرين جوعاً إلى دفء القَوْل كما ينبغي أن نكمل. ولقد غيّر مراراً جلده وحنجرته وحواسّه، وحلّق عالياً كما يليق بنسرٍ رائد لا يكذب أهله، وشاخ بوقار نبيل، ثم ارتحل... مشفقاً علينا، وعلى الشعر، في أغلب الظنّ!





    ملحق الدستور الثقافي
    30/4/2010


    في بيت نزا قبعتان ورأس واحدة أو تلبيس طواقي!

    * سامية عطعوط
    هما قبعتان جميلتان لرأس واحدة.. قضيتان ثقافيتان مهمتان تتفاعلان على الساحة العربية الآن. إحداهما حيث يتدفق النيل ليصعد شمالاً ، تاركاً وراءه بحيرات فكتوريا الخمس ، تستحم بالشمس الافريقية ، والثانية حيث يجري الفرات بكل عذوبته نحو الجنوب ، نحو الأهوار الجميلة ، التي تحولت إلى مستنقعات من الجفاف الموحش.

    تتعلق القضية الأولى في ما حدث في المركز الثقافي الفرنسي في القاهرة ، في إطار فعاليات مهرجان لقاء الصورة الذي نظمه المركز الثقافي الفرنسي بالقاهرة في الفترة من 8 إلى 15 من شهر نيسان. حيث كان يفترض عرض فيلم لمخرجة إسرائيلية ونتيجة لضغوط المخرجين والفنانين والمثقفين المصريين ، تم سحب الفيلم من فعاليات المهرجان وإقرار عرضه على شاشات السينما في القاهرة ، إلا أن وزارة الخارجية الفرنسية تراجعت عن ذلك ، وأعادت إشراك الفيلم ضمن المسابقة الرسمية في المهرجان ، الأمر الذي دفع الفنانين والمخرجين المصريين لمقاطعة المهرجان وانسحابهم من لجنة التحكيم ، وسحب أفلامهم التي كان يفترض أن تشارك فيه.

    كما أصدر المخرجون والفنانون المصريون عدداً من البيانات التي تشجب الموقف الفرنسي من المسألة ، وفي المقابل أدلى وزير الخارجية الفرنسي (برنار كوشنير) بتصريحات تدين موقف المثقفين المصريين ، الذي يدخل في باب (المهاترات) بحسب تعبيره.

    أما القضية الثانية ، والتي أثارت الجدل على الساحة الثقافية فهي الدعوى التي أقامها كبير مستشاري الرئيس العراقي مدير مهرجان المدى فخري كريم بتهمة القدح والذم ، على مجلة (الآداب) ورئيس تحريرها سماح إدريس ومديرها المسؤول عايدة مطرجي ، على خلفية الافتتاحية المنشورة في أحد أعداد المجلة 2007 بقلم رئيس التحرير بعنوان "نقد الوعي "النقدي": كردستان العراق نموذجاً" ، وكانت نتيجتها أن حكمت محكمة المطبوعات في بيروت على المجلة والمسئولين فيها ، لصالح المدعي.

    أما عن العلاقة بين القضيتين الأولى والثانية ، فهي علاقة جدلية ووثيقة جداً. فكلتا القضيتين يجمعهما عنوان واحد وهو الاستلاب. في القضية الأولى ، تقوم فرنسا بقرار من وزير خارجيتها وربما بقرار جاء من قصر الاليزيه نفسه ، بالتدخل السافر وممارسة الضغوط من أجل فرض رأيها وعرض الفيلم الإسرائيلي ضمن فعاليات المهرجان ، دون أي اعتبار لمشاعر المثقفين المصريين وموقفهم من التطبيع مع العدو الصهيوني ، وفي القضية الثانية تتم ممارسة الضغوط نفسها ، واستصدار حكم بإدانة مجلة الآداب ورئيس تحريرها ومديرها.

    في كلتا الحالتين ، هناك استلاب. ففي الحالة الأولى ، تفرض فرنسا مواقفها السياسية الساركوزية في قضية ثقافية ، وتختار أن تقف في موقف مضاد للهدف الذي تُنشأ من أجله المراكز الثقافية الأجنبية عادة ، ألا وهو مدّ الجسور الثقافية بينها وبين البلدان المضيفة ، لا أن تتخذ مواقف معادية استفزازية لمشاعر مثقفيها وفنانيها. وفي الحالة الثانية ، وعلى الرغم من إيماني بحق كل شخص أن يدافع عن نفسه ، إلا أن قضية المقال اتخذت أبعاداً قاسية وخطيرة ، وجاء الحكم فيها محفزاً لاستلاب حرية الكلمة والتعبير.

    إذن ، هما قبعتان لرأس واحدة. قبعتان أراد من أمسكوا بهما ، أن يحشروا الثقافة العربية التي تحاول أن تطل برأسها بين الحين والآخر ، فيهما. القبعة الأولى فرنسية التصميم والطراز ، والقبعة الثانية شمالية اللون والهوى. ولكن المأساة ليست في هاتين القبعتين فقط ، بل في طواقي الإخفاء التي يحشر الآخرون الثقافة العربية فيها ، من دون أن نراها.



    Sam95at@yahoo.com



    ملحق الدستور الثقافي
    30/4/2010

    في بيت نزار قباني

    * محمود درويش


    بيت من الشعر بيت الدمشقي

    من جرسً الباب حتىّ غطاء السرير

    كأنَّ القصيدةً سُكنى وهندسةّ للغمام



    بلا مكتب كان يكتب.. يكتب فوق الوسادة

    ليلاً وتُكملُ أحلامهُ ذكريات اليمام



    و يصحو على نفَس امرأة من نخيل العراق ،

    تعدّ له الفُلًّ في المزهرية



    كان أنيقاً كريش الطواويس ، لكنه

    لم يكن "دون جوان". تحطُّ النساءُ

    على قلبه خَدماً للمعاني ، ويذهبن في كلمات الأغاني

    ويمشي وحيداً

    إذا انتصف الليلُ قاطعهُ الحلمُ:

    في داخلي غرفّ لا يمرّ بها أحدّ للتحية



    منذ تركتُ دمشقَ تدفّق في لغتي

    بردى واتسَعتُ.

    أنا شاعر الضوء

    والفُلّ.. لا الظلًّ: لا ظلَّ في لغتي.

    كلّ شيء يدلُّ على ما هو الياسمين.

    أنا العفويّ البهيُّ أرقًّصُ خيل الحماسة

    فوق سطوح الغناء وتكسرني غيمة.

    صورتي كتبت سيرتي ، ونفتني إلى الغرف الساحلية

    بيتُ الدمشقيّ بيتّ من الشعر

    أرض العبارة زرقاء ، شفافة.

    ليلُه أزرقّ مثل عينيه. آنيةُ الزهر زرقاء

    و الستائر زرقاء.

    سجَّاد غرفته أزرق. دمعُهُ ـ حين يبكي

    رحيلَ ابنه في الممرات ـ أزرق

    آثار زوجته في الخزانة زرقاء.

    لم تَعُدً الأرض في حاجة لسماء ،

    فإن قليلاً من البحر في الشعر يكفي لينتشر الأزرقُ

    الأبديُّ على الأبجدية.



    قلتُ لهُ ، حين مُتْنا معاً ، وعلى حدة:

    أنت في حاجةْ لهواء دمشق،

    فقال: سأقفز ، بعد قليل ، لأرقد في حفرة من سماء دمشق.

    فقلتُ: انتظر ريثما أتعافى ، لأحمل عنكَ الكلام الأخير

    انتظرني ولا تذهب الآن ، لا تمتحنّي ولا تَشْكُل الآس وحدك،

    قال: انتظر أنت ، عش أنت بعدي:

    فلا بدّ من شاعر ينتظر.

    فانتظرتُ، وأرجأتُ موتي




    Date : 30-04-2010


    ملحق الدستور الثقافي

    نزار قباني
    المرأة تحولت إلى سيف يذبحني

    هل يشاركك جمهورك في كتابة القصيدة؟.

    ـ إذا كنت تعني بالمشاركة أنّ هذا الجمهور يجلس على أصابعي عندما أكتب ، فهذا غير صحيح. أمّا إذا كنت تعني بالمشاركة أنّني أستقطب هموم هذا الجمهور وانفعالاته ، وأتحسّس بها كما تشمّ الخيول رائحة المطر قبل سقوطه ، فهذا صحيح. بهذا المعنى ، أنا أقف على أرض التوقّع والنبوءة.

    تعني أنّ هموم الجماهير استغرقتك كلّية ، وأنّه ليس هناك انفصال بينها وبين تجاربك الصغيرة؟.

    ـ ليس عندي تجربة صغيرة وتجربة كبيرة. كلّ تجاربي هي في الوقت ذاته تجربة العالم كلّه. فأنا ، حين أتحدّث عن حبّي ، إنّما أتحدّث عن حبّ العالم كلّه ، وحين أتحدّث عن حزني ، إنّما أتحدّث عن حزن الدنيا بأجمعها. تخطئ حين تظنّ أنّ تجربة الشاعر الجزئية تجيء من برزخ آخر: فالشاعر جزء من أرض ، ومجتمع ، وتاريخ ، وموروثات ثقافية ونفسية وعضوية. وكلّ كلمة يضعها الشاعر على الورقة ، تحمل في ثناياها الإنسانيةَ كلّها. والتجربة الذاتية التي تظنّها صغيرة ، تأخذ في بعض الأحيان حجم الكون. لذلك فإنّ خصوصيات الشاعر ، بمجرّد اصطدامها بالورق ، تتعدّى ذاتها ، لتصبح فضيحة ، فضيحة يقرؤها العالم. إنّ الأدب الذاتي خرافة وافتراض: فالذات ليست إلكتروناً منفصلاً ولكنّها جزء من حركة الكون. حتّى في حالات عشقي الشخصي ، أشعر أنّ الواحدة التي أحبّها هي كلّ النساء.

    أتصوّر أنّ المرأة في شعرك لم تكن قضية بقدر ما كانت بطاقة إلى الجماهير. أعني أنّ المرأة في شعرك "مَضافة" تزوّقها كلّ مرّة بما يرضي أذواق الضيوف ويخدّرهم؟.

    ـ المرأة كانت ، ذات يوم ، وردة في عُروة ثوبي ، خاتماً في أصبعي ، همّاً جميلاً ينام على وسادتي ، ثمّ تحوّلت إلى سيف يذبحني. المرأة عندي ، الآن ، ليست ليرة ذهبية ملفوفة بالقطن ، ولا جارية تنتظرني في مقاصير الحريم ، ولا فندقاً أحمل إليه حقائبي ثمّ أرحل. المرأة هي ، الآن عندي ، أرض ثورية ، ووسيلة من وسائل التحرير. إنّني أربط قضيّتها بحرب التحرير الاجتماعية التي يخوضها العالم العربي اليوم. إنّني أكتب اليوم لأنقذها من أضراس الخليفة ، وأظافر رجال القبيلة. إنّني أريد أن أنهي حالة المرأة ـ الوليمة ، أو المرأة - المَنسف ، وأحرّرها من سيف عنترة وأبي زيد الهلالي.

    ما لم نكفّ عن اعتبار جسد المرأة مَنسفاً تغوص فيه أصابعنا وشهواتنا ، وما لم نكفّ عن اعتبار جسدها جداراً نجرّب عليه شهامتنا ، ورصاص مسدّساتنا ، فلا تحرير إطلاقا. إنّ الجنس هو صداعنا الكبير في هذه المنطقة ، وهو المقياس البدائي لكلّ أخلاقيّاتنا التي حملناها معنا من الصحراء. يجب أن يعود للجنس حجمه الطبيعي ، وأن لا نضخّمه بشكل يحوّله إلى غول أو عنقاء. الكائنات كلّها تلعب لعبة الجنس بمنتهى الطهارة: الأسماك ، الأرانب ، والأزاهير ، والعصافير ، وشرانق الحرير ، والأمواج ، والغيوم.. كلّها تمارس طقوس الجنس بعفوية وشفافية ، إلاّ نحن: فقد اعتبرناه طفلاً غير شرعي ، وطردناه من مدننا وجرّدناه من حقوقه المدنية.






    هذا الحوار اجراه منير العكش مع الراحل

    ونشر في مجلة «مواقف» ـ تشرين الأول 1971

    ------

    ملحق لدستور الثقافي
    30/4/2010


    ماذا بقي من تأثير نزار على المرأة المبدعة؟







    موسى حوامدة


    ربما تكون المرأة العربية أكثر تأثراً بنزار قباني ، وربما تكون شعبية نزار بدأت ، أول ما بدأت ، لدى المرأة العربية ، وقد فكرنا بسؤال عدد من المبدعات العربيات عما بقي من أثر نزار فيهن ، فاستجاب بعضهن ، فيما كان ثمة مَنْ قالت: "اسألوا أحلام مستغانمي" ، والإشارة الواضحة من هذا القول أن تأثير نزار طال الروائية الجزائرية ، وهذا ليس مستغرباً ، وليس سيئاً في الحالتين ، ولا يعتبر ضد مستغانمي.



    بعض من الكاتبات اللواتي تم استطلاع آرائهن أحجمن عن المشاركة: لأن قباني لم يؤثر فيهن ، حسب قولهن ، وحين طلبنا منهن كتابة ذلك رفضن. وقد بحثنا عن رأي مخالف أو معارض ، فوجدناه لدى الشاعرة زليخة أبو ريشة بقولها كلاماً قد يصدم محبي نزار ، لكننا ضد عبودية الأشخاص ، والشعراء بخاصة. ومن حق الجميع أن يبدي رأيه بحرية ، ومن دون تردد.

    نحن نحتفي بالذكرى السنوية لرحيل نزار قباني (ولد في الحادي والعشرين من آذار عام 1923 ، وتوفي في الثلاثين من نيسان عام )1998 لكنه ليس احتفاء رسمياً ، بل استذكار وحديث لم يزل مفتوحاً عن شاعر بحجم نزار ، الذي ترك وراءه ضجيجاً ما زال عالياً ، وقصائد ما زالت مسموعة ومقروءة ، وفي الوقت نفسه ترك آثاراً إبداعية ما انفكت تثير جدالاً على نطاق واسع. تالياً آراء بعض من الكاتبات في ما قدمه نزار بمسيرته الإبداعية:



    نادى بتحرر المرأة علناً واستعبدها سراً

    زليخة أبو ريشة

    لحسن الحظ أنَّ ما كتبْتُه في البدايات والمراهقة لم أنشره ، ففيه يظهر التأثير المباشر على بنية العبارة الشعرية لديَّ. وإذا كان نزار قد أثَّر في أكبر الشعراء (درويش مثلاً) ، فإنَّه فتح للقصيدة أبواباً ما نزال ندلفُ منها جميعناً. فقد أنْسَنَ القصيدةَ ، كما أنسنَ تفاصيلَ الحياة وشؤونها الصغيرة ، وكسَّر لنا التابو بأنواعه ، ورقَّص المجازَ الشعري. وهذه جميعها أبوابّ - أكثر منها تأثيرات - عبرناها نحو مناخاتْ جديدةْ للشعرية العربية. وأظنُّ أنَّ من حسنً حظًّ الشعر أنَّ شعر نزار قد فترَ في أواخره ، وفقد ألقَهُ ، ووقع في خواء المعنى ، وفي التكرار المملًّ ـ كما لو كان يُحفًّظُنا درساً ـ فأتاحَ فرصةً لمن يشاءُ أو تشاءُ أن تراجعَ تأثيره فيها. وعلى ذلك ، فإنَّ الذي ذهب من نزار فيَّ هو التأثُّرُ المباشر الفجّ بفكرته وأخيلته. غير أنَّ ما بقي هو هذا الأفق المفتوح نحو غابة الإنسيًّ المدنّس والمقدَّس في آن. غير أنَّ لنزار فيَّ تأثيراً مضاداً ما يزالُ حتى الآن: وأعني موقفه الحقيقي من المرأة. فقد سُمًّيَ بطلاناً بـ"شاعر المرأة" ، واحتفت النساءُ به على أنَّه نبيُّهنَّ الجديدُ ، في حين لم يكن ـ أيدولوجياً ـ سوى أفَّاقْ يغتذي على امتهانهنَّ ، و"استعمالهنَّ" ديكوراً وأدوات استمتاعْ لفحولته المنتفخة. ومثل أيًّ مثقَّفْ عربيّْ ، ينادي بتحرير المرأة ، بينما هو يستعبدها سًرَّاً: أي في علاقته المباشرة معها. وقد فضحه الشعرُ الذي لا يبقي سَتراً على أحد.

    شاعرة أردنية
    -----------



    تماهى مع صوت الانوثة المقهور

    وجدان الصائغ

    تأثير نزار قباني فيّ ، بوصفي مبدعة ، مسألة لم أطرحها على نفسي منذ أن بزغت نصوصه في حياتي في المرحلة المتوسطة وحتى تساقطت دموعي لغيابه بعد حصولي على الدكتوراه. فاصل زمني كبير عشقت خلاله قصائد نزار قباني ، التي كانت أشبه بقطرات الندى: أشبه بحبات العسل أتذوقها ، أتلمظها لتجعلني أتجرع مرارة ما يحصل على الأرض من تهميش واستلاب ومصادرة. أتذكر أول مرة تعجبت ، وأنا أقرأ: "قصيدة تلومني الدنيا إذا أحببته كأنني أنا التي خلقت الحب واخترعته ، أو الحب مواجهة كبرى إبحار ضد التيار صلب وعذاب ودموع ورحيل عند الأقمار و.. ". كانت قصائد نزار قباني تأخذني إلى عالم بلوري مخضل. نصوصه تحلق بي في سماوات من الياسمين والفل والقرنفل ، نصوصه كانت تمنحني أجنحة من كريستال.. تجعل أقدامي تطأ بحار البراءة. وليس هذا فقط: فنزار قباني كان يعرف محنة المرأة العربية في ظل غياب القانون الذي يحميها من ثقافة العنف الأسري ، قمعها عن صناعة القرار ، ووقوعها فريسة التسلط الأبوي الغاشم الذي يعصف بطموحاتها ويمحق أحلامها لا لشيء إلا لكونها أنثى مكسورة الجناح لا تمتلك دخلاً مادياً مستقلاً. لذلك كانت نصوص نزار تشبه المنشورات السرية التي نخبئها ، آنذاك ، بين أوراقنا المدرسية ، وفي خزاناتنا الخاصة. نحتفظ بها كنزاً ثميناً. نتداولها ، ونشم عبيرها ، لا لشيء إلا لأن النظام الأبوي الصارم يجد قصائد نزار نصوصاً خادشة للحياء ، ورعناء تعلم النساء "طولة اللسان ، وتطلع عينهن"،.

    والسؤال الذي كنت أطرحه على نفسي آنذاك هو: كيف استطاع نزار أن يتماهى مع صوت الأنوثة المقهورة إلى هذا الحد بالغ الدقة؟ وكيف استطاع أن يكون العاشق الولهان ، مرة ، والمعشوقة الحسناء ، مرة أخرى؟ هي قدرة ومهارة لن يقدر عليها إلا شاعر بقامة نزار.. إلا شاعر بحساسية نزار.

    وحين حددت مساري النقدي وجدت في قصائد نزار رسالة إنسانية سامية ، وقفت عزلاء في وجه التخلف والظلم والقهر الجماعي. رسالة اعتمدت المرأة رمزاً ينفتح على تأويلات شتى. بل ووجدت في قصائد نزار ، التي وظفت المرأة رمزاً ، نصوصاً وثائقية أرخت لفجيعة الراهن العربي بكل تفاصيله الموجعة المكسورة المتشظية ، وعكست وجوهنا معاً: فنحن القاهر والمقهور معاً.

    ناقدة عراقية واستاذة اللغة العربية ـ كلية واشتيناو - الولايات المتحدة الامريكية.

    -------------------

    ما أحلى الرجوع إليه،

    سلوى اللوباني
    لو لم يكتب نزار قباني في حياته إلا قصيدة "بلقيس" فهذا يكفيني لأعتبره شاعراً بامتياز ، شاعراً استطاع أن يعبر عن الأحوال السياسية في العالم العربي من خلال مشاعر الحب: فهذه القصيدة ليست مرثية فقط لبلقيس ، بل مرثية للعالم العربي بكل أحواله. وثق من خلال هذه القصيدة حال المجتمعات العربية في حينها ، وفي الوقت نفسه هو سابقّ عصره برؤيته في ما سجله من كلمات وتساؤلات كثيرة عن أوضاع البلاد العربية في الوقت الحاضر.

    طرح فيها كماً كبيراً من الأسئلة جامعاً بين الهم الشخصي والهم العام. وضع يده على جرحه وعلى جرحنا جميعاً ، بوصفنا عرباً: "لو أنهم حملوا إلينا من فلسطين الحزينة نجمة أو برتقالة.. لو أنهم حملوا إلينا من شؤاطئ غزة حجراً صغيراً أو محارة.. لو أنهم ، من ربع قرن ، حرروا زيتونة أو أرجعوا ليمونة ومحوا عن التاريخ عاره.. لشكرت من قتلوك يا بلقيس ، يا معشوقتي حتى الثمالة ، لكنهم تركوا فلسطيناً ليغتالوا غزالة".

    أضف ، إلى هذا ، أنّ نزاراً استطاع نقش أجمل وأغرب المشاعر الإنسانية في هذه القصيدة الطويلة: جمع فيها الحب والكره ، الغضب والهدوء ، الإعجاب والاستياء ، الماضي والحاضر ، وحتى المستقبل.. تأنيبَ الضمير وجلدَ الذات:"أترى ظلمتك إذ نقلتك ، ذات يوم ، من ضفاف الأعظمية" ، ثم الذهولَ والصدمةَ ، الرجلَ والمرأةَ ، الأمومةَ ، الذكرياتً وغيرها الكثير. بل إنه تناول وضع المبدع العربي من خلالها: "ما زلت أدفع من دمي أعلى جزاء كي أسعد الدنيا.. ولكن السماء شاءت أن أبقى وحيداً". وأيضاً ، عندما قال: "حيث اغتيال فراشة في حقلها صار القضية.. قتلوك في بيروت مثل أي غزالة من بعد ما قتلوا الكلام".

    تلازمني قصائده منذ سنوات ، لا أتخلى عنها. أعود إليه دوماً. أحب أن أسمعه وهو يلقي أي قصيدة ، ولكن أحبها إلى مسمعي "بلقيس" ، و"أشهد أن لا امرأة إلا أنت". ما يزال تأثيره باقياً ، ولا أعتقد أن هذا التأثير سيزول يوماً ما ، بل ـ بالعكس ـ كلما مرت السنوات أتأثر بنبض إحساسه أكثر. وما أحلى الرجوع إليه،

    نزار قباني استطاع أن يجسد لنا صورة الرجل العربي في الحب والمشاعر دون مواربة أو خجل وهذا لم نتعوده من الرجل العربي ، وإحساسه بالمرأة العربية عال من دون إبتذال. كل قصيدة من قصائده هي موضوع قائم بذاته: موضوع متكامل يتناول فيه علاقة المرأة والرجل.

    كاتبة أردنية مقيمة في القاهرة.

    -------------------

    ظاهرة شعرية

    رفقة دودين

    يعتبر الشاعر الكبير نزار قباني ظاهرة شعرية فارقة ، ولعلها من تلك التي تتكرر على رأس كل مائة عام. كما أنه قر في ذاكرتنا الجمعية ، خاصة أنه ـ وفي زمن التابوهات وسطوتها ـ قد اجترح معجماً شعرياً يوظف الجسد والرغبات ، ويعتد بطاقة "الليبيدو" بوصفها طاقة الحب ومرتكز الحياة الإنسانية ، وجوهر وجودها ونمائها وتقدمها. على أن النسويات المحدثات قد وقفن موقفاً مغايراً من هذه المسألة من منطلق أن مثل هذا التعاطي الإبداعي مع المرأة ، جسداً وعاطفةً ، قد انبنى من موقع ذكوري فوقي ، يقدس ويدنس في الوقت ذاته ، جاعلاً المرأة ـ بأسطورة "التكوين الأنثوي" ـ إما ملاكاً وإما الشيطان بعينه ، علاوة على مسألة ادعاء تمثيل المرأة ، والحديث بصوت مشاعرها وأحاسيسها. والأهم بناء مخيال رومنسي يمزج بين فتنة المرأة وفتنة الطبيعة ، ما يعني تكريس ثنائية الذكورة المهيمنة الفاعلة والأنوثة الخاضعة المتلقية. وكل ما سبق يؤكد أن نزار قباني ظاهرة شعرية خالدة في التراث الإبداعي والجمالي العربي.

    ناقدة وأكاديمية أردنية.

    --------

    بذوره ما زالت تستيقظ فينا

    نوّارة لحرش

    كلنا تربينا على أشعار نزار قباني ، حتى ذائقتنا الشعرية بدأت ـ منذ نعومة تكويناتها ـ تتشكل من أشعاره ومفرداته وأبياته. كان شعره السهل الممتنع القريب المتغلغل في الروح والوجدان فاكهتنا البكر في بساتين اللغة والمفردات. كان شاعرنا الذي يحمل هواجسنا ويعرضها بنوع من الجمالية الشفافة إلى سطح الشعور والنور والبهاء. كانت الساحة مزدحمة ببعض الشعراء ، وكل له قضيته الشعرية والإنسانية والجمالية التي يطرحها بالشكل الذي يحبّ ، والذي يراه الأقرب والأصوب والأجمل على جمهور الشعر العربي من المحيط إلى الخليج ، وعلى أهل الشعر ومحبيه ، أيضاً. كان أحمد مطر يعزف على وتر السياسة ، عادة ، وكان محمود درويش يعزف على وتر القضية الفلسطينية ، في أغلب الأشعار ، وكان نزار يعزف على وتر آخر ، برغم عزفه على وتر السياسة والقضية بين حين و آخر. لكن عزفه الأكثر إلحاحاً وحضوراً كان على وتر العاطفة العربية المهزوزة ، المقهورة ، المختبئة بين الخوف والجبن والقهر والهزات المتتالية في نفسية وذهنية الإنسان العربي ، وبين أفراد الأسرة الواحدة ، وليس فقط بين أبناء الوطن الواحد. كان يكتب كي يرمم شروخ الجدارات الإنسانية فينا. كان يضمد بالحبّ ونبراته أرواحنا المشققة الجافة بفعل الأمية العاطفية المتفشية بفعل اللاتواصل أو بفعل القطيعة بين الإنسان والحبّ بسبب المفهوم السائد والخاطئ والمغلوط بأن الحبّ نوع من أنواع الخطيئة ، أو أنه يقود ـ تدريجياً ـ إلى الخطيئة والتعفن الأخلاقي. كان نزار يناضل ، جمالياً ، من أجل إعلاء شأن الحبّ والإحساس به والعيش به وله ومنه وفيه ، وهذا ما جعل شعره يخترق قلوب الشباب العربي ، وبهذا حدثت علاقة الحبّ الكبيرة والإستثنائية لأول مرة في تاريخ الشعر العربي بين الشعر والجمهور: فالجمهور يأتي ليرى نفسه ، ملامحه ، طقسه الحميم في مرايا شعر نزار قباني ، وهذا كله متن ووطَّد علاقة الحبّ بين الشاعر العاطفي وبين الجمهور العربي الذي أصبح يحبّ الشعر ويأنس به ويجده متنفساً وملاذاً له من الكثير من الخيبات والانكسارت والخسارات. الآن ، وبعد سنوات من رحيله ، ما زلنا نحبّه و نقرؤه رغم كل ما قيل عنه في بعض المواقف التي جاءت ضده وضد شعره. ما زلنا نحترمه ونحترم شعره وأكثر ، ما زلنا نحترم إصراره على شعرنة الأحاسيس والعواطف والرؤى. ولا يمكن ـ بأي حال من الأحوال ـ أن نتنكر لتلك المرحلة الأولى والباكرة من حياتنا حين كنا نقرأ أشعاره بشغف ، وكنا نبحث عن دواوينه بالطرق شتى التي يمكن أن تدلنا عليها ، والحصول عليها واستعارتها. ولا ننكر ، أيضاً ، أننا ـ وقتها ـ كنا نتدرج جمالياً وشعرياً على أشعاره وكأنّه قديس حبّ جاء ليقول لنا الحبّ خبزنا اليومي الطازج لا خطيئة ـ كما يدعي أغبياء العالم ـ والحبّ أيقونتنا ـ أرضنا وسماؤنا ـ جنتنا التي لا تعرف باباً للجحيم. لقد تأثرنا به ، وكلّّ تأثر بدرجة معينة أو بجرعة معينة ، الأكيد أننا لا يمكن أن ننكر أننا تأثرنا به ـ ولو في مراحل معينة من تجاربنا الأولى في الحياة والكتابة والحبّ ـ وأن بعض بذوره ما زالت تستيقظ فينا أحياناً ، ويحق لها أن تستيقظ ، لكنها بذوره هو لا بذورنا: ففي النهاية نحن نتدرب ، دوماً ، على أن تكون لنا بذورنا الخاصة التي تحمل بصماتنا وملامحنا وأرواحنا. وبالتالي ما بقي فينا من نزار قباني هي هذه البذور التي تستيقظ ، أحياناً ، لتحتفي معنا بشاعر كبير يقيم في وجداننا الشعري العربي ، وبشعرية كبيرة أسست وأبدعت مشهديتها بكل فرادة وتميز ، ولها إقامتها ـ كذلك ـ في خارطة الشعر العربي ومشهده.. وكل هذا يحفزنا ، دوماً ، أن نتدرب على أن تكون لنا بذورنا الخاصة ونبراتنا الخاصة: فالتأثر وارد أحياناً لكن الانطواء فيه ليس بالوارد دائماً.
    كاتبة جزائرية










    ملحق الدستور الثقافي
    30/4/2010
    اعتراف متأخر.. أنا ونزار

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    محمد ديبو



    كان الشاعر نزار قباني ، بالنسبة لشاب مثلي تربى في بيئة يسارية ، "شاعراً برجوازياً" ، وبعيداً كل البعد عن الجماهير والثورة العربية: فهو شاعر كرس نفسه لقضايا المرأة والعشق والغرام ، وغيرها من الأشياء التي كانت تنظر لها الثورة بعين الريبة والحذر. وكنا ـ نحن ، على اعتبارنا أبناء للثورة ـ نعد أنفسنا كي نكون على مستوى الثورة: أي أن نقرأ درويش ومظفر النواب ، ونسمع مارسيل خليفة والشيخ إمام وسميح شقير بوصف ذلك مهمة ثورية بحتة ، مبتعدين عن نزار وأم كلثوم وكل ما يخدش حياءنا الثوري ، ولا يصب في مهمة الثورة القادمة لا محال.

    ولكن ، فجأة ، أجد نفسي في خضم المراهقة ، بما تقتضيه من جنون وتمرد وبحث عن الذات ، وأكتشف الجسد المخبأ تحت ثقافة الحرام والمنع ، ويزداد الأمر سوءاً (أو جمالاً) عندما يضطرب قلبي ويهذي باسم طالبة في المدرسة أخذت معها الروح ، ورمت القلب في أتون جحيم لا عهد لي به من قبل.

    هنا ، في هذه اللحظة ، يقع في يدي ديوان "طفولة نهد" للشاعر نزار قباني ، لأصاب بفصام لم أشف منه حتى اللحظة ، حيث وجدت نفسي أمام شعر يحتلني ويسكنني من القراءة الأولى: شعر يحاكي تمردي وجنوني محرضاً قلبي المفتون على خوض معركته إلى النهاية لأجد نفسي في برزخ محير ومربك: في صراع بين ما تعلمته وقيل لي عن نزار البرجوازي والمشغول بقضايا بعيدة عن قضايا ثورتنا التي لم تأت ، وبين قوة هذا الشعر الذي جعل لقلبي جناحين ليطير إلى قلب الحبيبة.

    من هنا بدأت قراءتي لنزار ، وبدأت ألتهم قصائده التي كانت تتحول إلى منشور سري بين مراهقي مدرستي ، لأصبح "نجم" المدرسة ، خاصة بين الفتيات اللواتي نادراً ما قرأن كلمة نهد أو سمعن بها ، فما بالك بقصائد مجنونة تتمرد على كل شيء؟.

    هكذا أصبح الديوان ينتقل من فتاة إلى أخرى ، ومن طالب إلى آخر. كنا نتحلق في أوقات الفراغ حول الديوان باحثين عن القصائد التي تحاكي شبقنا وحرماننا لنقرأها بلذة وشغف.

    هنا سأكتشف أنه في الوقت الذي كان فيه الثوريون يحشون رؤوسنا بالقنابل ، والأمة العربية الموحدة ، والصراع الطبقي ، والمجتمع العربي الموحد ، والثورة الظافرة ، وفلسطين المحررة.. كانوا يقتلون الحياة في داخلنا ، وبالتالي ، يقتلون الوطن الذي لا يمكن أن يكون من دون حب وعشق ونساء. وفي هذا الوقت كان نزار يوقظ فينا كل هذا ويعيدنا إلى ضفة الحياة التي صادرها الثوريون.

    ولكن الصراع بين العقل الحاضر بجبروته وبين القلب المضمخ بقوة الشعر استمر فترة من الزمن ، إلى أن اختفى ، نهائياً ، لتنزوي الثورة ومفرداتها القديمة ، وتحل محلها ثورة تبدأ من القلب وتعود إليه: ثورة تبدأ من الجسد ولا تنتهي عند حدود الوطن: ثورة تبدأ من القول: هل يمكن لمن لا يفهم جسده وقلبه أن يقود ثورة؟.


    شاعر سوري ومراسل "الدستور الثقافي" في دمشق


    التاريخ : 30-04-2010


    ملحق الدستور الثقافي
    ذكرى رحيله .. نزار قباني وحفّارو القبور


    د. مريم جبر

    رجل يصحو وينام ويكتب على ضفاف الجرح العربي المتقيح منذ سقوط الدولة العباسية حتى اليوم.

    شكلت مضامين الشعر لدى نزار قباني صدمة تلقاها جمهور الشعر العربي ، بصور مختلفة يغلب عليها التطرف والانفعال. ففي حين احتفى الشباب والمراهقون بتلك المضامين ، وباللغة السلسة والإيقاع الذي يحاكي ثوراتهم الداخلية وعواطفهم ، إلى حدّ زها فيه قباني بأن كثيراً من الشباب العربي أصبح ينام وتحت وسادته شيء من شعره ، بخاصة ديوانه (قالت لي السمراء) ، فقد جوبه من جانب آخر بسيل من الانتقادات لمحدودية الموضوعات التي تناولها ، وبخاصة ما يتعلق بالمرأة ، تلك الانتقادات التي أحدثت فجوة بين الشاعر والنقاد ، وجعلته يلجأ إلى تقمص دورهم النقدي ، من جهة ، وإلى الإفاضة في التنظير لشعره ، وإطلاق الأحكام التعميمية في مختلف القضايا الخاصة بالشعر العربي قديمة وحديثه ، من جهة أخرى ، ناهيك بأن رفضه دَوْرَ النقاد في النظر في شعره بلغ حد وصفهم بحفاري القبور الذين يحولون القصيدة إلى جثة.

    فمن النقاد من نال من جماهيريته ، فأعادها إلى مديحه النساء ، والى إطلالته على المنبر بوجه حلو الملامح ، وقامة رشيقة ، وخصائص مراهقة ، وإلى اسمه الموسيقي اللطيف العذب ، ومنهم من لفت إلى علاقة الشاعر بنقاده والى ما تحمله القصائد من قوة التغيير ، فنقاده ـ إنْ مدحوه ـ غفلوا عن قوة التغيير التي تحملها قصائده عاصفة في أنفس قرائه ، وإنْ ذموه أخذوا عليه اهتمامه الملح بالمرأة ، وما يتوهمون فيه من نرجسية: لأنه قال ، يوماً ، غاضباً: "مارست ألف عبادة وعبادة ـ فوجدت أفضلها عبادة ذاتي" ، وأنه ، لذلك ، لا يسهم في التغيير الذي تصوروا أنهم يحققونه هم دونه ، مع أنه أسبق منهم إليه وأعنف على طريقته.

    ومنهم من رأى المرأة في شعر نزار قباني أنموذج الأم النفسي ، بسبب ما يلمحه القارئ شعرَه من مطلب الرعاية والحماية والاهتمام الذي اشترطه في المرأة التي يحبها. فيما ذهب بعضهم إلى أن النقاد الذين أطلقوا على نزار قباني 'شاعر المرأة' لم يراعوا الدقة في ما قالوه أو كتبوه ، لأنه ليس شاعر المرأة ولكنه شاعر جسد المرأة ، وأن شعره ليس أكثر من مجموعة ذهب وأساور وأقراط وفرو ولهو وتسلية وكاميرا تسلط الضوء على أشياء الحياة المادية الرغدة ، وأن نظرته إلى المرأة نظرة شرقية مغرقة في تخلفها.

    أما الصدمة الثانية التي جابه بها نزار قباني جمهوره والنقاد ، بخاصة ، منهم ، فتتعلق بالوجه الآخر لمضمونه الشعري ، وهو السياسي ، الذي تعرض جراءه لنقد لم يعرف هوادة أيضاً ، فقد عدُّوه طارئاً على هذا النوع من الشعر ، لأنه لم يدفع الثمن الذي دفعه غيره من الملاحقة والمطاردة جراء أشعارهم الوطنية والقومية ، كما فعل غيره من الشعراء ، بل جعله نافذة لشعره يطل من خلالها على جمهوره ليبقى محافظاً عليه. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد ، بل عمد بعض دارسيه إلى حصر الدافع إلى هذا اللون من الشعر لديه ، بأنه تشفّ بآلام القارئ وجراحه ، لمزيد من الفرجة ، ومزيد من السادية أو حب تعذيب الذات.

    فلم ينجُ نزار في شعره السياسي مما لقيه في النقد الموجه إلى شعره في المرأة ، بل ربط بعضهم بين الموضوعين ، فجعلوا من انصراف الشاعر مدة سبع عشرة سنة إلى التغني بالمرأة سبباً في عرقلة انطلاقته القومية ، فلم تختمر في أعماقه موضوعات الشعب ، وكان حديث العهد بموضوعات السياسة ، وهبط بشعره ـ أحياناً ـ إلى مستوى الشعارات المحلية والمناسبات الخطابية: إذ لم يروا في شعره السياسي موقفاً ، مثلما أن شعر المرأة لم يكن ، أيضاً ، موقفاً من مواقفه الحياتية في يوم من الأيام. كما أنه كرس معاني الهزيمة في شعر سياسي انهزامي ، بينما أعاد بعضهم ذلك إلى أنه لم يكن مثقفاً ثقافة سياسية من أي نوع ، فلم يكن قومياً ولا اشتراكياً ولا يسارياً: فهو شاعر المرأة وأشيائها بالدرجة الأولى ، لا شاعر الأمة وقضاياها.

    غير أن مثل تلك الآراء لم تمنع نزاراً من أن يؤكد في كل مناسبة تلوح له أنه "رجل يصحو وينام ويكتب على ضفاف الجرح العربي المتقيح منذ سقوط الدولة العباسية حتى اليوم" ، وأن شعره كله "ابتداء من أول فاصلة ، حتى آخر نقطة فيه ، وبصرف النظر عن المواد الأولية التي تشكله والبشر الذين يملؤونه من رجال ونساء ، والتجربة التي تضيئه ـ سواء كانت تجربة عاطفية أو سياسية ـ هو شعر وطني" ، ولم يكن بمنأى عما يدور حول شعره السياسي ، فكتب: "الناس يعرفونني عاشقاً كبيراً ، ولا يريدون أن يعرفوني غاضباً كبيراً ، يعرفون وجه العملة الأمامي ، ولا يهتمون بوجهها الخلفي" ، في حين يساوي هو بين الوجهين: المرأة والقضية العربية ، تحرير المرأة من رسوبات العصر الجاهلي وتحرير الأرض من حوافر الخيول الإسرائيلية.

    وفي الجانب الآخر كان ثمة من رأى في نزار قباني شاعراً وطنياً عربيا "بالطول والعرض" من المحيط إلى الخليج ، وأنه كان الشاعر الوحيد الذي غدا شعره السياسي قوة تحريضية مستمرة على نطاق لم يعرف مثله حتى في شعر الجواهري في ما مضى. إنه لا يقاوم العدو من الخارج فحسب ، بل يقاوم ، أيضاً ، العدو من الداخل في سبيل الإنسان: فهو يجمع بين العشق والحرية على نحو لا نجده في قلة من شعراء التاريخ.

    فثمة تباين يصل حد التناقض بين الآراء النقدية المختلفة في نزار قباني وشعره ، فمنهم من رآه ماجناً يخلع عذاره وشاعراً يكتب على مستوى أنصاف المثقفين ، ومنهم من أقر له بالسبق في الغزل ، ونعى عليه التعقيد في السياسة ، ومنهم من عني بجمال تعبيره وطلاوة لفظه. ولعل تلك المواقف وغيرها قد دفعت نزار قباني إلى بذل قصارى جهده في الدفاع عما أسماه بجمهوريته الشعرية ، بالسبل شتى ، ومن ذلك كثافة اللقاءات الصحفية التي اتُهم فيها ، أيضاً ، بأنه كان يكتبها بنفسه ، إلى جانب الكم اللافت للانتباه من الآراء النقدية التي نثرها في سيرته الذاتية بجزأيها ، وفي كتابيه: (ما هو الشعر) و(الشعر قنديل أخضر) ، وفي لقاءاته الصحفية ومقدمات دواوينه الشعرية: فقد أفاض في توضيح رؤيته للمرأة ومفهوم التحرر الذي أراده لها ، وفي توضيح وجهات نظره في مفهوم الشعر لديه وبنيته اللغوية والموسيقية ، ورؤيته للقصيدة العربية القديمة من وجهة نظر "اليسار" الذي ـ حسب رأيه ـ يتسم بالطفولة والنزق والجنون والثورة والرفض ، ورؤيته للقصيدة العربية الحديثة في عصيانها لكل العادات والأنماط اللغوية والبلاغية القديمة: تحررها من جبرية الموسيقى ومن حتمية البحور الخليلية ووثنية القافية الموحدة وغير ذلك مما عدّه أخطر ما فعلته القصيدة الحديثة.

    ولعل في كل ذلك ما حدا ببعض النقاد إلى التساؤل ، عما إذا كان ذلك سبباً آخر ـ إلى جانب إبداعه الشعري ـ في تشكيل معضلة للنقد العربي الحديث تجاه هذا الشاعر ، حتى ظن بعضهم أنه لم يعد لدى النقد والنقاد ما يقولونه.

    غير أن الوجه الآخر للمعضلة يبدو أوضح في موقف نزار الشاعر من النقد والنقاد ، حيث صرح أكثر من مرة أنه لم يقرأ كلام النقاد خلال أربعين عاماً من كتابة الشعر ، بل إنه يعيد سر بقائه شاعراً كل تلك الفترة ، إلى أنه لم يقرأ كلام النقاد عن شعره ولم يعمل بنصائحهم ، بل إنه يشبههم بالكميونات الكبيرة تفرغ بضائعها في منتصف الشارع ، حتى يتعرقل سير القصائد ، وتكسر أعناق الشعراء.

    وهو ، إلى ذلك ، يربط بين النقد العربي والسلوك العربي ، فيرى قباني أن النقد العربي "قائم على العصبية والتوتر والانفعال" ، ويردُّ ذلك إلى عدم قراءة النص "بحضارة وموضوعية وروح علمية" ، إنما بنهجم "على حياة الشاعر وخصوصياته بالهروات والسكاكين ، حتى تتحول القصيدة إلى جثه" ، ولعله كان يطمح إلى نقاد منصفين لشعره ، غير أولئك النقاد الذين رأى فيهم "كتاباً بالسخرة أو بالقطعة لا يحملون شهادات أو ترخيصاً بمزاولة العمل ، حولوا مهنة النقد إلى مهنة تشبه مهنة حفاري القبور". ولم يكن معنياً بالاستجابة لمنظورات النقاد ونقدهم ، قدر ما كان معنياً بمنظور ذاته إلى الحياة والأشياء والوجود ، وعلى الرغم مما قيل حول المرأة في شعره ، فقد ظل معتداً بجمهوريته ، أول جمهورية شعرية هو مؤسسها ، وأكثر مواطنيها من النساء ، وفق ما نزار قباني.. اللغة الثالثة والقارورة الضيقة




    Date : 30-04-2010


    ملحق الدستور الثقافي
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

المواضيع المتشابهه

  1. عزاء واجب لرحيل أستاذنا الشاعر عبد الرسول معله
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان الترحيب
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 08-10-2011, 10:52 PM
  2. في الذكرى ال 25 لرحيل الشاعر معين بسيسو / الحاج لطفي الياسيني
    بواسطة الشاعر لطفي الياسيني في المنتدى الشعر العربي
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 11-23-2010, 02:37 AM
  3. في الذكرى الخامسة لرحيل اخي ياسر عرفات/ لطفي الياسيني
    بواسطة الشاعر لطفي الياسيني في المنتدى الشعر العربي
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 11-01-2009, 08:31 AM
  4. في الذكرى الرابعة لرحيل محمود ابو الزلف / للشاعر العروبي لطفي الياسيني
    بواسطة الشاعر لطفي الياسيني في المنتدى الشعر العربي
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 03-28-2009, 12:00 PM
  5. في الذكرى ال 25 لرحيل الشاعر معين بسيسو / للشاعر العروبي لطفي الياسيني
    بواسطة الشاعر لطفي الياسيني في المنتدى الشعر العربي
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 01-23-2009, 07:25 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •