بعض من الكاتبات اللواتي تم استطلاع آرائهن أحجمن عن المشاركة: لأن قباني لم يؤثر فيهن ، حسب قولهن ، وحين طلبنا منهن كتابة ذلك رفضن. وقد بحثنا عن رأي مخالف أو معارض ، فوجدناه لدى الشاعرة زليخة أبو ريشة بقولها كلاماً قد يصدم محبي نزار ، لكننا ضد عبودية الأشخاص ، والشعراء بخاصة. ومن حق الجميع أن يبدي رأيه بحرية ، ومن دون تردد.
نحن نحتفي بالذكرى السنوية لرحيل نزار قباني (ولد في الحادي والعشرين من آذار عام 1923 ، وتوفي في الثلاثين من نيسان عام )1998 لكنه ليس احتفاء رسمياً ، بل استذكار وحديث لم يزل مفتوحاً عن شاعر بحجم نزار ، الذي ترك وراءه ضجيجاً ما زال عالياً ، وقصائد ما زالت مسموعة ومقروءة ، وفي الوقت نفسه ترك آثاراً إبداعية ما انفكت تثير جدالاً على نطاق واسع. تالياً آراء بعض من الكاتبات في ما قدمه نزار بمسيرته الإبداعية:
نادى بتحرر المرأة علناً واستعبدها سراً
زليخة أبو ريشة
لحسن الحظ أنَّ ما كتبْتُه في البدايات والمراهقة لم أنشره ، ففيه يظهر التأثير المباشر على بنية العبارة الشعرية لديَّ. وإذا كان نزار قد أثَّر في أكبر الشعراء (درويش مثلاً) ، فإنَّه فتح للقصيدة أبواباً ما نزال ندلفُ منها جميعناً. فقد أنْسَنَ القصيدةَ ، كما أنسنَ تفاصيلَ الحياة وشؤونها الصغيرة ، وكسَّر لنا التابو بأنواعه ، ورقَّص المجازَ الشعري. وهذه جميعها أبوابّ - أكثر منها تأثيرات - عبرناها نحو مناخاتْ جديدةْ للشعرية العربية. وأظنُّ أنَّ من حسنً حظًّ الشعر أنَّ شعر نزار قد فترَ في أواخره ، وفقد ألقَهُ ، ووقع في خواء المعنى ، وفي التكرار المملًّ ـ كما لو كان يُحفًّظُنا درساً ـ فأتاحَ فرصةً لمن يشاءُ أو تشاءُ أن تراجعَ تأثيره فيها. وعلى ذلك ، فإنَّ الذي ذهب من نزار فيَّ هو التأثُّرُ المباشر الفجّ بفكرته وأخيلته. غير أنَّ ما بقي هو هذا الأفق المفتوح نحو غابة الإنسيًّ المدنّس والمقدَّس في آن. غير أنَّ لنزار فيَّ تأثيراً مضاداً ما يزالُ حتى الآن: وأعني موقفه الحقيقي من المرأة. فقد سُمًّيَ بطلاناً بـ"شاعر المرأة" ، واحتفت النساءُ به على أنَّه نبيُّهنَّ الجديدُ ، في حين لم يكن ـ أيدولوجياً ـ سوى أفَّاقْ يغتذي على امتهانهنَّ ، و"استعمالهنَّ" ديكوراً وأدوات استمتاعْ لفحولته المنتفخة. ومثل أيًّ مثقَّفْ عربيّْ ، ينادي بتحرير المرأة ، بينما هو يستعبدها سًرَّاً: أي في علاقته المباشرة معها. وقد فضحه الشعرُ الذي لا يبقي سَتراً على أحد.
شاعرة أردنية
-----------
تماهى مع صوت الانوثة المقهور
وجدان الصائغ
تأثير نزار قباني فيّ ، بوصفي مبدعة ، مسألة لم أطرحها على نفسي منذ أن بزغت نصوصه في حياتي في المرحلة المتوسطة وحتى تساقطت دموعي لغيابه بعد حصولي على الدكتوراه. فاصل زمني كبير عشقت خلاله قصائد نزار قباني ، التي كانت أشبه بقطرات الندى: أشبه بحبات العسل أتذوقها ، أتلمظها لتجعلني أتجرع مرارة ما يحصل على الأرض من تهميش واستلاب ومصادرة. أتذكر أول مرة تعجبت ، وأنا أقرأ: "قصيدة تلومني الدنيا إذا أحببته كأنني أنا التي خلقت الحب واخترعته ، أو الحب مواجهة كبرى إبحار ضد التيار صلب وعذاب ودموع ورحيل عند الأقمار و.. ". كانت قصائد نزار قباني تأخذني إلى عالم بلوري مخضل. نصوصه تحلق بي في سماوات من الياسمين والفل والقرنفل ، نصوصه كانت تمنحني أجنحة من كريستال.. تجعل أقدامي تطأ بحار البراءة. وليس هذا فقط: فنزار قباني كان يعرف محنة المرأة العربية في ظل غياب القانون الذي يحميها من ثقافة العنف الأسري ، قمعها عن صناعة القرار ، ووقوعها فريسة التسلط الأبوي الغاشم الذي يعصف بطموحاتها ويمحق أحلامها لا لشيء إلا لكونها أنثى مكسورة الجناح لا تمتلك دخلاً مادياً مستقلاً. لذلك كانت نصوص نزار تشبه المنشورات السرية التي نخبئها ، آنذاك ، بين أوراقنا المدرسية ، وفي خزاناتنا الخاصة. نحتفظ بها كنزاً ثميناً. نتداولها ، ونشم عبيرها ، لا لشيء إلا لأن النظام الأبوي الصارم يجد قصائد نزار نصوصاً خادشة للحياء ، ورعناء تعلم النساء "طولة اللسان ، وتطلع عينهن"،.
والسؤال الذي كنت أطرحه على نفسي آنذاك هو: كيف استطاع نزار أن يتماهى مع صوت الأنوثة المقهورة إلى هذا الحد بالغ الدقة؟ وكيف استطاع أن يكون العاشق الولهان ، مرة ، والمعشوقة الحسناء ، مرة أخرى؟ هي قدرة ومهارة لن يقدر عليها إلا شاعر بقامة نزار.. إلا شاعر بحساسية نزار.
وحين حددت مساري النقدي وجدت في قصائد نزار رسالة إنسانية سامية ، وقفت عزلاء في وجه التخلف والظلم والقهر الجماعي. رسالة اعتمدت المرأة رمزاً ينفتح على تأويلات شتى. بل ووجدت في قصائد نزار ، التي وظفت المرأة رمزاً ، نصوصاً وثائقية أرخت لفجيعة الراهن العربي بكل تفاصيله الموجعة المكسورة المتشظية ، وعكست وجوهنا معاً: فنحن القاهر والمقهور معاً.
ناقدة عراقية واستاذة اللغة العربية ـ كلية واشتيناو - الولايات المتحدة الامريكية.
-------------------
ما أحلى الرجوع إليه،
سلوى اللوباني
لو لم يكتب نزار قباني في حياته إلا قصيدة "بلقيس" فهذا يكفيني لأعتبره شاعراً بامتياز ، شاعراً استطاع أن يعبر عن الأحوال السياسية في العالم العربي من خلال مشاعر الحب: فهذه القصيدة ليست مرثية فقط لبلقيس ، بل مرثية للعالم العربي بكل أحواله. وثق من خلال هذه القصيدة حال المجتمعات العربية في حينها ، وفي الوقت نفسه هو سابقّ عصره برؤيته في ما سجله من كلمات وتساؤلات كثيرة عن أوضاع البلاد العربية في الوقت الحاضر.
طرح فيها كماً كبيراً من الأسئلة جامعاً بين الهم الشخصي والهم العام. وضع يده على جرحه وعلى جرحنا جميعاً ، بوصفنا عرباً: "لو أنهم حملوا إلينا من فلسطين الحزينة نجمة أو برتقالة.. لو أنهم حملوا إلينا من شؤاطئ غزة حجراً صغيراً أو محارة.. لو أنهم ، من ربع قرن ، حرروا زيتونة أو أرجعوا ليمونة ومحوا عن التاريخ عاره.. لشكرت من قتلوك يا بلقيس ، يا معشوقتي حتى الثمالة ، لكنهم تركوا فلسطيناً ليغتالوا غزالة".
أضف ، إلى هذا ، أنّ نزاراً استطاع نقش أجمل وأغرب المشاعر الإنسانية في هذه القصيدة الطويلة: جمع فيها الحب والكره ، الغضب والهدوء ، الإعجاب والاستياء ، الماضي والحاضر ، وحتى المستقبل.. تأنيبَ الضمير وجلدَ الذات:"أترى ظلمتك إذ نقلتك ، ذات يوم ، من ضفاف الأعظمية" ، ثم الذهولَ والصدمةَ ، الرجلَ والمرأةَ ، الأمومةَ ، الذكرياتً وغيرها الكثير. بل إنه تناول وضع المبدع العربي من خلالها: "ما زلت أدفع من دمي أعلى جزاء كي أسعد الدنيا.. ولكن السماء شاءت أن أبقى وحيداً". وأيضاً ، عندما قال: "حيث اغتيال فراشة في حقلها صار القضية.. قتلوك في بيروت مثل أي غزالة من بعد ما قتلوا الكلام".
تلازمني قصائده منذ سنوات ، لا أتخلى عنها. أعود إليه دوماً. أحب أن أسمعه وهو يلقي أي قصيدة ، ولكن أحبها إلى مسمعي "بلقيس" ، و"أشهد أن لا امرأة إلا أنت". ما يزال تأثيره باقياً ، ولا أعتقد أن هذا التأثير سيزول يوماً ما ، بل ـ بالعكس ـ كلما مرت السنوات أتأثر بنبض إحساسه أكثر. وما أحلى الرجوع إليه،
نزار قباني استطاع أن يجسد لنا صورة الرجل العربي في الحب والمشاعر دون مواربة أو خجل وهذا لم نتعوده من الرجل العربي ، وإحساسه بالمرأة العربية عال من دون إبتذال. كل قصيدة من قصائده هي موضوع قائم بذاته: موضوع متكامل يتناول فيه علاقة المرأة والرجل.
كاتبة أردنية مقيمة في القاهرة.
-------------------
ظاهرة شعرية
رفقة دودين
يعتبر الشاعر الكبير نزار قباني ظاهرة شعرية فارقة ، ولعلها من تلك التي تتكرر على رأس كل مائة عام. كما أنه قر في ذاكرتنا الجمعية ، خاصة أنه ـ وفي زمن التابوهات وسطوتها ـ قد اجترح معجماً شعرياً يوظف الجسد والرغبات ، ويعتد بطاقة "الليبيدو" بوصفها طاقة الحب ومرتكز الحياة الإنسانية ، وجوهر وجودها ونمائها وتقدمها. على أن النسويات المحدثات قد وقفن موقفاً مغايراً من هذه المسألة من منطلق أن مثل هذا التعاطي الإبداعي مع المرأة ، جسداً وعاطفةً ، قد انبنى من موقع ذكوري فوقي ، يقدس ويدنس في الوقت ذاته ، جاعلاً المرأة ـ بأسطورة "التكوين الأنثوي" ـ إما ملاكاً وإما الشيطان بعينه ، علاوة على مسألة ادعاء تمثيل المرأة ، والحديث بصوت مشاعرها وأحاسيسها. والأهم بناء مخيال رومنسي يمزج بين فتنة المرأة وفتنة الطبيعة ، ما يعني تكريس ثنائية الذكورة المهيمنة الفاعلة والأنوثة الخاضعة المتلقية. وكل ما سبق يؤكد أن نزار قباني ظاهرة شعرية خالدة في التراث الإبداعي والجمالي العربي.
ناقدة وأكاديمية أردنية.
--------
بذوره ما زالت تستيقظ فينا
نوّارة لحرش
كلنا تربينا على أشعار نزار قباني ، حتى ذائقتنا الشعرية بدأت ـ منذ نعومة تكويناتها ـ تتشكل من أشعاره ومفرداته وأبياته. كان شعره السهل الممتنع القريب المتغلغل في الروح والوجدان فاكهتنا البكر في بساتين اللغة والمفردات. كان شاعرنا الذي يحمل هواجسنا ويعرضها بنوع من الجمالية الشفافة إلى سطح الشعور والنور والبهاء. كانت الساحة مزدحمة ببعض الشعراء ، وكل له قضيته الشعرية والإنسانية والجمالية التي يطرحها بالشكل الذي يحبّ ، والذي يراه الأقرب والأصوب والأجمل على جمهور الشعر العربي من المحيط إلى الخليج ، وعلى أهل الشعر ومحبيه ، أيضاً. كان أحمد مطر يعزف على وتر السياسة ، عادة ، وكان محمود درويش يعزف على وتر القضية الفلسطينية ، في أغلب الأشعار ، وكان نزار يعزف على وتر آخر ، برغم عزفه على وتر السياسة والقضية بين حين و آخر. لكن عزفه الأكثر إلحاحاً وحضوراً كان على وتر العاطفة العربية المهزوزة ، المقهورة ، المختبئة بين الخوف والجبن والقهر والهزات المتتالية في نفسية وذهنية الإنسان العربي ، وبين أفراد الأسرة الواحدة ، وليس فقط بين أبناء الوطن الواحد. كان يكتب كي يرمم شروخ الجدارات الإنسانية فينا. كان يضمد بالحبّ ونبراته أرواحنا المشققة الجافة بفعل الأمية العاطفية المتفشية بفعل اللاتواصل أو بفعل القطيعة بين الإنسان والحبّ بسبب المفهوم السائد والخاطئ والمغلوط بأن الحبّ نوع من أنواع الخطيئة ، أو أنه يقود ـ تدريجياً ـ إلى الخطيئة والتعفن الأخلاقي. كان نزار يناضل ، جمالياً ، من أجل إعلاء شأن الحبّ والإحساس به والعيش به وله ومنه وفيه ، وهذا ما جعل شعره يخترق قلوب الشباب العربي ، وبهذا حدثت علاقة الحبّ الكبيرة والإستثنائية لأول مرة في تاريخ الشعر العربي بين الشعر والجمهور: فالجمهور يأتي ليرى نفسه ، ملامحه ، طقسه الحميم في مرايا شعر نزار قباني ، وهذا كله متن ووطَّد علاقة الحبّ بين الشاعر العاطفي وبين الجمهور العربي الذي أصبح يحبّ الشعر ويأنس به ويجده متنفساً وملاذاً له من الكثير من الخيبات والانكسارت والخسارات. الآن ، وبعد سنوات من رحيله ، ما زلنا نحبّه و نقرؤه رغم كل ما قيل عنه في بعض المواقف التي جاءت ضده وضد شعره. ما زلنا نحترمه ونحترم شعره وأكثر ، ما زلنا نحترم إصراره على شعرنة الأحاسيس والعواطف والرؤى. ولا يمكن ـ بأي حال من الأحوال ـ أن نتنكر لتلك المرحلة الأولى والباكرة من حياتنا حين كنا نقرأ أشعاره بشغف ، وكنا نبحث عن دواوينه بالطرق شتى التي يمكن أن تدلنا عليها ، والحصول عليها واستعارتها. ولا ننكر ، أيضاً ، أننا ـ وقتها ـ كنا نتدرج جمالياً وشعرياً على أشعاره وكأنّه قديس حبّ جاء ليقول لنا الحبّ خبزنا اليومي الطازج لا خطيئة ـ كما يدعي أغبياء العالم ـ والحبّ أيقونتنا ـ أرضنا وسماؤنا ـ جنتنا التي لا تعرف باباً للجحيم. لقد تأثرنا به ، وكلّّ تأثر بدرجة معينة أو بجرعة معينة ، الأكيد أننا لا يمكن أن ننكر أننا تأثرنا به ـ ولو في مراحل معينة من تجاربنا الأولى في الحياة والكتابة والحبّ ـ وأن بعض بذوره ما زالت تستيقظ فينا أحياناً ، ويحق لها أن تستيقظ ، لكنها بذوره هو لا بذورنا: ففي النهاية نحن نتدرب ، دوماً ، على أن تكون لنا بذورنا الخاصة التي تحمل بصماتنا وملامحنا وأرواحنا. وبالتالي ما بقي فينا من نزار قباني هي هذه البذور التي تستيقظ ، أحياناً ، لتحتفي معنا بشاعر كبير يقيم في وجداننا الشعري العربي ، وبشعرية كبيرة أسست وأبدعت مشهديتها بكل فرادة وتميز ، ولها إقامتها ـ كذلك ـ في خارطة الشعر العربي ومشهده.. وكل هذا يحفزنا ، دوماً ، أن نتدرب على أن تكون لنا بذورنا الخاصة ونبراتنا الخاصة: فالتأثر وارد أحياناً لكن الانطواء فيه ليس بالوارد دائماً.
كاتبة جزائرية