من الوعد المشئوم إلى قرار التقسيم ضاعت فلسطين! (2)
لمعرفة حقيقة موقف الرؤوساء الأمريكيين وثباته من كيان العدو الصهيوني يحتاج من المثقف معرفة الخلفية الدينية التوراتية التي صاحبت ظروف نشأة الكيان الأمريكي، بتجرد وبعيداً عن الخلفيات الأيديولوجية والتأثيرات الثقافية الغربية ليدرك أنه لا يأتِ استجابة للضغوط الصهيونية على الرؤوساء الأمريكيين كما يصوروه لنا، ولا لكسب الأصوات اليهودية في الانتخابات، ولا للحصول على التمويل للحملة الانتخابية. ولكنه يأتِ منسجماً مع الثقافة والموروث الشعبي الديني البروتستانتي الأمريكي المستقر في الشعور واللاشعور الأمريكي الذي أسس كيانه في الوطن الجديد على أساس المثل والخرافات الدينية التوراتية. فقد كان الموقف الأمريكي ولازال من الحركة الصهيونية هو موقف ذاتي لا علاقة له بما يقال عن النفوذ الصهيوني في دوائر القرار أو الحملات الانتخابية الأمريكية. ولكنه قائم على أسس دينية وخرافات نهاية العالم الدينية، التي يؤمن بها أتباع المذهب البروتستانتي ذي الأصول الدينية التوراتية. ويتجلى ذلك في موقف الرئيس الأمريكي وودرو ولسون ودعمه لإصدر وعد بلفور، ففي الوقت الذي يعترف فيه معظم الباحثين، بأن عدد اليهود الصهاينة الذين كانوا في أمريكا آنذاك كان قليلاً جداً، ولم يكن هناك لوبي يهودي أو صهيوني فاعل، ولم يكن للصوت اليهودي وزن في الانتخابات الأمريكيةليرجح فوز هذا المرشح أو ذاك، ولم تكن الصهيونية مرغوبة عند اليهود الأمريكيين، وأن التيار الإصلاحي اليهودي هو الذي كان منتشراً وسط يهود أمريكا. أضف إلى ذلك أن النفوذ الصهيوني في دوائر الإدارة الأمريكية كان يكاد لا يذكر، وإن كان على علاقة الرئيس ولسون بصديقه القاضي اليهودي لويس برانديز، والأرجح أنه لم يكن صهيونياً، فإن تأثيره لم يكن ليجعل ولسون يؤيد الصهيونية، خاصة وأن ولسون كان له أصدقاء مقربين أكثر من برانديز يجاهرون بعدائهم للصهيونية.ومع ذلك وافق على وعد بلفور!أضف إلى ذلك أنه لم يكن لأمريكا في ذلك الوقت مصالح اقتصادية في المنطقة تريد من الكيان الصهيوني أن يحافظ لها عليها مستقبلاً. أما في الوقت الحاضر فإن مصلحة الولايات المتحدة المفترض أنها مع العرب والمسلمين، ومن الحكمة ألا تكسب عداءهم ضدها، خاصة وهم لا يعارضون سياساتها ولا نهبها لثرواتهم، ومع ذلك تجاهر بمعاداتنا! لقد جاءت موافقة ولسون منسجمة جاءت منسجمة مع الثقافة والموروث الشعبي الديني البروتستانتي الأمريكي المستقر في الشعور واللاشعور الأمريكي، ومع خلفيته الدينية التي كثيراً ما عبر عنها بقوله: "ربيب بيت القسيس ينبغي أن يكون قادراً على المساعدة في إعادة الأرض المقدسة لأهلها". وهذا ما يفسر أصرار ولسون الشخصي على تأييد إصدار بريطانيا لوعد بلفور، ويرسل لبريطانيا موافقته الشخصية وليس موافقة رسمية من الإدارة الأمريكية. وهذا ما دفعه للتأكيد عدة مرات للزعماء الصهاينة أنه باستطاعتهم الاعتماد على تأييده الشخصي. ليس هذا فحسب بل وأصر على "الخارجية البريطانية كي تصدر وعد بلفور، قبل شهر من الموعد المحدد لصدوره كشرط لدخول أمريكا الحرب إلى جانب الحلفاء! اشتهر وودرو ولسون بأنه صاحب المبادئ الأربعة عشر لحقوق الإنسان، التي أعلنها في الكونجرس الأمريكي في كانون الثاني/يناير 1918م، حيث رفض فيها حق الحصول على المكاسب الإقليمية وأدان عقد الاتفاقات السرية، وأعلن في البند الخامس مناداته بحق تقرير المصير للشعوب، فقد قررت النقطة الثانية عشر أنه "يجب أن تؤمن الفرصة للأقليات غير التركية في الإمبراطورية العثمانية للتطور الذاتي". وشاع أنه انسحب من مؤتمر الصلح الذي عقد في باريس عام كانون الثاني/يناير1919م، للنظر في نتائج الحرب ووضع هذه الشعوب، لأن بريطانيا وفرنسا رفضتا الموافقة على طلبه بإعطاء هذه الشعوب الاستقلال. مما جعل الجماهير العربية وقياداتها تطلب من الولايات المتحدة أن تكون هي الدولة المنتدبة عليها، بدلاً من بريطانيا وفرنسا، في الوقت الذي فيه الحقيقة غير ذلك! لقد كان ولسون يخفي حقيقة وجهه العنصري التوراتي الدموي خلف تلك الشعارات الكاذبة، فهو لم يكتفِ بتعهده الاعتراف بالكيان الصهيوني فور بروزه للوجود، والحفاظ على أمنه عند قيامه، كما نصت على ذلك المذكرة التي قدمها الوفد الأمريكي إلى مؤتمر الصلح في باريس، التي نصت على "الاعتراف بالدولة اليهودية حينما تبرز إلى الوجود"، ولكنه حَمَل ممثل أمريكا إلى المؤتمر اقتراحاً باستثناء فلسطين من أية محاولة لإعطاء العرب الاستقلال! وفي ذلك الوقت الذي رفض فيه استقبال الأمير فيصل علي رأس وفد عربي في مؤتمر باريس للسلام، ورفض طلب الوفد المصري إلى المؤتمر برئاسة (سعد زغلول) لطرح القضية المصرية، ورفض الاجتماع مع سعد زغلول، فقد سارع بالاعتراف بالحماية البريطانية على مصر، وأيد بريطانيا في تحطيمها للثورة الوطنية في مصر. الموقف نفسه اتخذه في الفلبين، وأصدر أوامره للقيادة العسكرية الأمريكية بتحطيم الحركة الوطنية الفليبينية، حتى أن القائد الأمريكي الجنرال (سميث)، الذي كلف بتحطيم الحركة الوطنية الفليبينية عام 1920م، أصدر أوامره لقواتهقائلاً: "إنني لا أريد أسرى، وأريدكم أن تحرقوا وتقتلوا، وكلما زدتم الحرق والقتل، كلما جابت السرور إلى قلبي"! الرئيس (فرانكلين روزفلت)، الذي اختلف الكتاب حول حقيقة مواقفه من الصهيونية، ومدى تأييده لإقامة كيان لليهود في فلسطين، في الوقت الذي أخبر فيه العاهل السعودي أنه ضد الهجرة القسرية إلى فلسطين، كان يدعم هجرة اليهود إلى فلسطين، ويفكر في تسكين جماعة منهم في شمال العراق أيضاً، حيث الموطن الأول لإبراهيم عليه السلام، وقد كان تظاهره بالاعتدال راجع لحرصه وخوفه من أن تضرر مصالح الولايات المتحدة التي بدأت تزداد في وطننا على حساب المصالح البريطانية، إذا ما أظهر حقيقة موقفه المؤيد للصهيونية. كما أنه كان يخشى من تحالف العرب مع الاتحاد السوفيتي الشيوعي في حال أعلن تأييده للمطالب الصهيونية في فلسطين. كما كان يخشى على المهاجرين اليهود أن يذبحهم العرب كما صور له ذلك أصدقاءه من الزعماء العرب. فقد قال روزفلت لأعضاء الوفد اليهودي الذين قابلوه قبل مؤتمر يالطا، أنه في حال رفض العرب بالاقتناع والتفاهم وقبول إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين كما كان يوهم العرب بأنه وطن قومي وليس كومنولث(دولة): "إذا أخفقت المفاوضات بين العرب واليهود، فإنه يتوجب على الأمم المتحدة، أن تخلق كومنولثاً يهودياً، وتحميه بقوة شرطة دولية إلى أن يستطيع حماية نفسه"! كما أنه لم يغفل عن أهمية وطننا بالنسبة لمصالح الولايات المتحدة، وعن أهمية استقرار الأوضاع فيه، لأن في ذلك مصلحة مهمة للعالم أجمع، فقال في أذار 1944: "(الشرق الأوسط) منطقة للولايات المتحدة مصلحة حيوية فيها، إن الحفاظ على السلام في تلك المنطقة التي لم تشهد قلاقل متكررة في الماضي مهم جداً للعالم أجمع". هذه العبارة أفتتح بها التقرير الإستراتيجي الأمريكي لعام 1995م. لذلك بعد وفاته قال (إسرائيل جولد شتاين) رئيس المنظمة الصهيونية الأمريكية: "لقد فقد الشعب اليهودي صديقا متفهما، وفقدت الصهيونية بموت روزفلت صديقها العلني"! وقد ذهب بعض المؤرخين إلى أن روزفلت كان يهودياً، واسم عائلته الأول "روزنفلت". وقد مكن اليهود من السيطرة على اقتصاديات البلاد ومواردها. وفي عهده تم اتخاذ النجمة السداسية (شعار دولة إسرائيل) شعاراً رسمياً لدوائر البريد، والخوذة التي يلبسها الجنود في الفرقة السادسة، وعلى أختام البحرية الأمريكية، وعلى ميدالية رئيس الجمهورية! ترومان وصحراء النقب بين التقرير والتنفيذ
إن كان الرئيس ولسون وضع أسس إستراتيجية السياسة الأمريكية الحديثة، وحدد أهدافها نحو وطننا أثناء وأعقاب الحرب العالمية الأولى، في العمل على إنشاء الكيان الصهيوني في قلب الأمة والوطن، فإن الرئيس هاري ترومان أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية وضع هذه السياسة موضع التنفيذ والتطبيق، وجعلها تَفِ بوعد ولسون لليهود برعاية كيانهم في فلسطين والحفاظ عليه، حيث جعل مصلحة وحماية الكيان الصهيوني محور ومركز السياسة الأمريكية في وطننا. وإن كانت فلسطين كلها في حدودها التي رسمتها المخططات اليهودية والغربية مهمة للهجمة الغربية التوراتية على وطننا بأبعادها الدينية، والحضارية، والجغرافية، والسياسية، والإستراتيجية، فإن صحراء النقب ذلك الجزء الجنوبي من فلسطين هي أخطر ما في المشروع الغربي التوراتي بعد القدس! لأن صحراء النقب تمثل الجسر وهمزة الوصل الأرضي بين شطري الوطن، الذي تحاك المؤامرة لشطره وضرب عقيدة شعوبه، ومنع عطائهم الحضاري، وكف تهديدهم المستقبلي للغرب وفصله كلياً عن بقية الوطن حتى تتحقق إمكانية العزل الكاملة بين شطري الوطن، وتصبح عملية الاتصال بينهما صعبة، وهكذا يضمن الغرب عدم قيام أي وحدة حقيقية أو قوة في المنطقة يمكنها أن تهدد مصالحه في وطننا. لذلك عندما قررت الأمم المتحدة عام 1947م تقسيم فلسطين بين المسلمين واليهود؛ "وأثناء مناقشة حدود الدولتين المقترحتين اقترح الوفد الأمريكي منح القسم الأكبر من صحراء النقب للعرب، للتعويض عن بعض التعديلات التي أدخلت حول مسألة تقسيم يافا والقطاع الغربي من الجليل الأعلى وغيرها. هذا الموقف تصدت له الحركة الصهيونية بسرعة وحزم، فأوعزت إلى كافة مكاتبها ومؤيديها بإرسال برقيات إلى كل من ترومان ووكيل وزارة الخارجية الأمريكية روبرت لوفيت، تستنكر فيها موقف الوفد الأمريكي في الأمم المتحدة ولهذا الغرض بالذات قام الزعيم الصهيوني حاييم وايزمان بزيارة خاصة للبيت الأبيض في 19 نوفمبر"! وقد اعترف وايزمان أنه كان قادماً لإقناع ترومان بأن يكون التقسيم في النقب على أساس خط عمودي بين العرب واليهود فوجد ترومان أكثر منه حرصاً على تسليم النقب كلها اليهود! ومما يؤكد أهمية النقب لتحقيق الأهداف اليهودية الغربية ضد الإسلام، اغتيال اليهود الكونت "برنادوت" موفد الأمم المتحدة لحل المشكلة الفلسطينية عام 1948م، لمجرد أنه نص في مشروعه لحل المشكلة على اقتطاع النقب والقدس من قرار التقسيم وإعادتها للعرب! ذلك لم يرفضه اليهود فقط لأنه يتعارض وأطماعهم في المنطقة بل كافحته كل الدول الغربية الأعضاء في الأمم المتحدة بكل ما أوتيت من قوة، بما فيها روسيا البلشفية التي كان "صوتها هو صوت الغالبية الذي رجح قرار التقسيم عام 1947 لدى التصويت في اللحظة الأخيرة"! وإذا ما نظرنا إلى مطلب العدو الصهيوني بعد حرب أكتوبر وتعطيل المفاوضات مع مصر لإصراره على الاحتفاظ بشريط حدودي يمتد بطول ساحل خليج العقبة الغربي إلى شرم الشيخ جنوباً، وبعمق عشرة كيلو متر داخل سيناء، لأدركنا عمق المخطط وأهمية تلك القطعة من الأرض في المشروع اليهودي الغربي لإحكام عملية الفصل بين شطري الوطن الإسلامي. لو كنا نقرأ التاريخ لنتعلم منه وليس قراءة أيديولوجية انتقائية، أو بلا وعي ولا فهم فقط لنتكتب ونرتزق، ولو كان المسئولين وموظفي الدولة المختصين حريصين على مصلحة الأمة والوطن، ولو ... كنا أدركنا منذ عقود مضت أبعاد الهجمة والمشروع اليهودي الغربي ضد الأمة والوطن، ولَما فاوضنا ولا أضعنا عقود في المماطلة اليهودية ضاعت مع الأرض والحقوق ووصلنا إلى صفقة القرن، والمصيبة مازال أدعياء الثقافة والفكر يقرأون ويعيدون علينا قراءاتهم العقيمة! سبحان الله فتحت المقالة لأبدأ بنشرها على صفحتي على الفيس فطالعني منشور لأحد الأصدقاء ورابط الخبر التالي الذي يؤكد ما أوردناه في المقالة عن حقيقة الموقف الأمريكي الديني ولا علاقة له بالمصالح: الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب) يشير إلى أن بإمكانه خفض الوجود العسكري في المنطقة حيث أن انخفاض أسعار النفط يؤدي إلى تقليل الإعتماد على السعودية، ولكنه لن يفعل ذلك، لأسباب منها المخاوف بشأن أمن إسرائيل!!! التاريخ: 29/11/2018