كثيرون هم الذين يطلقون لقب المجنون على كلّ من يتعاطى المخدرات، وإن كانوا أكثر لطفاً فإنهم سيحولون فكرة الجنون من الشخص إلى الفكرة في حد ذاتها.
أما المتعاطي فهو غارق في عالمه الخاص، بعيداً كل البعد عن نصائح أولئك المتطفلين، بدءاً بعائلته وانتهاء بالأصدقاء، ومن عالمه تبدأ حياته وقد تنتهي أيضاً.
.
في حياة مدمن المخدرات يبقى الرّعب سيّدَ الموقف، فهو يدرك أنّه في حال حالفه الحظ، ولم يُصَب بطلق ناري من أحد عناصر الشرطة أثناء شرائه المادة، يكون معرضاً لجرعة زائدة قاتلة، وفي أحسن الأحوال لوشاية من أحد زملائه ذوي الحظ السيء، الذين يعترفون في مخفر الشرطة.
التجارة شطارة
عالم المخدرات مختلف حتى في مصطلحاته وأحكامه، والعلاقات التي تنشأ ضمن ذلك العالم السرّي إنما تعتمد على "شرف المهنة" من وجهة نظر التاجر والمدمن على حدّ سواء، فالتجارة شطارة في كل العالم، وتاجر المخدرات يجب ألا يقلّ شطارة عن غيره، ولكن ما يراه هو ذكاءً يراه المدمن غشّاً وتلاعباً.
ويتلخص الغش في بيع مادة "مضروبة" ـ بحسب تعبيرهم ـ والمادة "المضروبة" هي أن تغلب الحبوب المخدرة على الوزن المباع، فبدل أن يكون غرام الهيروئين صافياً (نت)؛ يمكن أن تشكل الحبوب المطحونة الجزء الأكبر منه، ليصبح اسمها "مادة مغسولة"؛ أي ناقصة الوزن.
وللحلال والحرام معنى مختلف تماماً في عالم المخدرات، ليصبح الحلال لقباً يطلق على المادة ذات النوعية الجيدة، فيسمَّى الغرام الكامل منها بـ "الحلال"، ويساوي وزن سيجارة "مارلبورو" على الميزان العادي، أو 3 فوارغ طلقة من نوع 9 ملغ مليئة بالمادة، أو 3 أغطية قلم "بيك"، ويتراوح سعر الغرام الواحد من الهيروئين ما بين 400 - 600 ليرة في المناطق الحدودية، ويصل إلى 1200 - 1500 داخل المدن، ونادراً ما تتوافر المادة "النت" غير المخلوطة نهائياً، أو "السفرلة" المعدَّة للتصدير، وفي حال وجدت تكون غالية جداً، وأما "الحشيش" فهو رائج في سورية، وسعر الغرام الواحد منه بحدود الـ 50 ل.س، ويندر وجود الكوكائين بسبب ارتفاع أسعاره، حيث يصل سعر الغرام الواحد منه إلى 6000 ل.س.
من معيل إلى مستجدٍ!!
يعدُّ الهيروئين الأكثر خطورة ورواجاً، والأسرع إدماناً في المجتمع، وعلى اختلاف طرق تعاطي الهيروئين يأتي الحقن في مقدمة الطرق الأكثر شيوعاً، باعتباره الأشد فاعلية وتأثيراً في الجسم، وتأتي هذه الطريقة على قمّة الهرم من حيث الخطورة، إذ تتزايد احتمالات الوفاة بسبب جرعاتها الزائدة، والتي تأتي غالباً بعد "الكريزة"، أو ما يسمَّى علمياً "أعراض سحب المادة من الجسم"، وتتجلَّى هذه الأعراض على شكل آلام هيكلية وعضلية، وآلام بطنية، ودموع وسيلان أنف، بالإضافة إلى القلق والتوتر، وتبدأ هذه الأعراض بعد 24 - 48 ساعة من آخر جرعة، وذلك بحسب د. غسان شاكر مديرالمرصد الوطني لرعاية الشباب.
وتكمن الصورة المأساوية لتعاطي الهيروئين في التبعية الجسدية والنفسية السريعة والقوية، والتي ترغم المدمن على تناول جرعات متزايدة، والبحث بصورة جنونية عن تأمين المخدِّر وبأي طريقة، وإن اضطرَّ إلى سرقة زوجته أو أمه، ويتحوَّل المدمن إلى شخص عاجز عن السيطرة على رغباته، ما يدفعه إلى سلوك إجرامي أو عدواني لإشباع حاجته، وقد ينتهي الأمر به إلى الانتحار في حال لم تتم معالجته نفسياً واجتماعياً وطبياً.
والمشكلة تكمن في أن المدمن تجاه المخدرات كالعاشق، ولكنه عاشق ينسى احترامه لنفسه، لتنسى عائلته احترامه أيضاً، فيهمل بيته وزوجته وأولاده، ولايتورع عن الكذب والاحتيال والسرقة لتأمين المال اللازم لشرائها، وباختصار يرتكب كلّ شيء وأيّ شيء.
عالم سحري
للمخدرات عوالم أقل ما يقال فيها إنها سحرية، وتكمن سحريتها في صعوبة التخلُّص منها، والتي تصل في معظم الأحيان إلى حدِّ الاستحالة، ولعل الدخول المتكرِّر لنفس المريض إلى المرصد للمعالجة يوصلنا إلى بعض أسباب العودة عدة مرات لمحاولة التخلص من الإدمان، ولعل أول الأسباب وأكثرها انتشاراً هو افتقار المتعاطي المال اللازم لشراء المادة، وإن كان المرصد يستقبل كلَّ مَن يريد العلاج للتخلص من الإدمان، إلا أنَّ تكرار رجوع الشخص قد يعطي بعض المؤشرات على استحالة المعالجة في تلك الحالة، وكيفية العلاج، شرحها الدكتور غسان شاكر مدير المرصد في وقت سابق قائلاً: "يمكن أحياناً قبول بعض الحالات في المرصد أكثر من مرة، ولكن ذلك يخضع لعدة اعتبارات، أهمها مرور المريض بظروف حالت دون انتظامه في العلاج"، وعن كيفية العلاج ومدته أضاف: "المرصد يستقبل المرضى المدمنين من جميع المحافظات السورية، ويكون الدخول إليه طوعياً وبشكل سري، ويمنع تسريب أي معلومة عن أي مريض في المرصد، كما ويشرف على المرصد أطباء اختصاصيون في الأمراض النفسية وأطباء مقيمون في الطب النفسي وكادر تمريضي مدرَّب للعناية بالمرضى، ويوجد قسم علاج فيزيائي، وهناك قسم للبحث النفسي والاجتماعي ليقف عند الثغرات النفسية والاجتماعية التي يمكن أن ترتبط بإدمان المريض، ويستمرُّ العلاج لمدة أسبوعين على الأقل وبشكل مجاني تماماً من حيث الإقامة والدواء والإطعام ولزوم الحياة اليومية".
4745 قضية..
لعل وصول عدد القضايا المتعلِّقة بموضوع المخدرات خلال 2008 إلى 4745 قضية، عدد المتهمين فيها 7296 متهماً، ليس بالرقم الصغير، آخذين بالاعتبار أنَّ الإحصاءات الرسمية لا يمكن بحال من الأحوال أن تكون دقيقة شاملة لكل من يتاجر أو يتعاطى المخدرات، على أساس أنَّ الكثيرين من أولئك لايزالون في بيوتهم يزاولون مهنتهم ويربحون من تجارتهم من أموال أولئك المساكين.
ووفق آخر إحصائية لوزارة الداخلية في ما يتعلَّق بالعام 2008، فإنَّ الأجهزة المختصة استطاعت ضبط ومصادرة 911.5 كغ من الحشيش المخدر و47 كغ هيروئين و150 كغ كوكائين وأكثر من 11 مليون حبة كبتاغون و390 ليتراً من أنهدير الخل و22 كغ من زيت الحشيش و1.125 طن مواد أولية لصناعة الحبوب المخدرة، بالإضافة إلى 357.369 من الحبوب المخدرة من مختلف الأنواع.
وبحسب المرصد الوطني لرعاية الشباب، فإنَّ عدد المدمنين الذين يراجعون المرصد للعلاج يتراوح ما بين 600 – 700 مريض سنوياً، وهو معدل وسطي سنوي، وفي ما يتعلَّق ببيانات المرصد لعام 2008 حتى الشهر التاسع منه، فقد جاءت على النحو التالي:
عدد المرضى المقبولين في المرصد 760 مريضاً؛ منهم 742 رجلا و18 امرأة، ومن المعروف أنَّ الإدمان يزداد في بعض الفئات العمرية أكثر من غيرها، تبعاً لعادات مجتمعنا التي تسمح لبعض الفئات العمرية بالحرية، ويبدو من أرقام المرصد دخول 155 مريضاً ضمن عمر 36-41 ، و146 مريضاً بين 42 - 47 سنة، و102 مريض في عمر 30-35 ، و181 ما بين 24-29 سنة، و61 مريضاً في الفئة العمرية 19-23 عاماً، وليكون عمر 53 فأكثر من أقل الفئات العمرية تعرُّضاً للإدمان بدخول 20 مريضاً ضمن هذا العمر.
لنا كلمة
المروِّج سلطان في مملكته التي يبنيها على حساب حياة الآخرين، ومن الواضح صعوبة إيقاف عملية وصول المخدرات إلى مَن أدمنها، ولتكون تلك البودرة بمثابة النار التي تبخِّر عشرات الملايين من الليرات، وتصبح كالضربة القاضية لأحلام وآمال عائلات أدمن معيلها ليتحوَّل دوره إلى مستجدٍ ناسياً كرامته وواجبه.
لا يمكننا أن نطالب بأن يتمَّ القضاء على هذه الظاهرة بشكل جذري من المجتمع، ولكن أقله تشكيل لجنة نفسية اجتماعية خاصة لتنظِّم عملية مكافحة المخدرات بدءاً من الإعلان التلفزيوني إلى الحملات التوعوية، ولعله طلب صعب ولكنه بالتأكيد ليس مستحيلاً.
تسهم سورية من خلال المكتب العربي لشؤون المخدرات التابع لمجلس وزراء الداخلية العرب، في الحدِّ من الانتشار والاتجار بهذه الآفة ضمن الوطن العربي، عبر تبادل المعلومات والاتصالات وتفعيل التعاون مع الدول الشقيقة والصديقة بهذا الخصوص، إضافة إلى أنها أسهمت في إعداد مشروع القانون العربي الموحَّد للمخدرات، ووقَّعت على الاتفاقية العربية لمكافحتها