الموهبة
دعد عبدالقادر
أبو الذهب
لا شكَّ أن القدراتِ العقليةَ للإنسانِ متفاوتةٌ
ومتباينةٌ، وهذا شيءٌ طبيعي منذ أن خلق الله الأرضَ وسكَّانَها، رفع بعضَهم فوق
بعضٍ درجاتٍ: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11]، وقد
خاطَب اللهُ أصحابَ العقولِ بقولِه:
• ﴿ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [يونس: 24].
• ﴿ لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 164]، وغيرِها من الآيات التي تحثُّ على التفكُّر
وزيادةِ المعرفة وتنميتِها؛ فالعقلُ منحةٌ من الله، بها يَعرِف الإنسانُ أسرارَ
الكونِ، ولكن الناسَ فيه متفاوتون تفاوتَ الأزهارِ في المروجِ، كاختلافِ الألوان
والألسنِ في الناس، ومتى وُجِد الفكرُ الجيِّد، والذكاءُ النابهُ الخيِّر، كانت
هناك بيئةٌ صالحةٌ للإبداعِ والابتكار، خاصَّة بين الطلابِ، الذين هم في أوَّل
طريقِ الحياةِ، ومُقتَبَل العمر.
في هذه الفترةِ يكونُ النشاطُ الجسمي والفكري في
الذروةِ، ويكونُ الحماسُ في القمَّة، فإذا تعهَّدنا هذه النبتةَ الناشئةَ بالرعايةِ
والسقايةِ، نَمَت وتَرَعرَعَت، وأَعطَت الكثير، وإلا وُئِدَت في مهدِها ولم ترَ
النور، فمن هنا يَجِبُ العنايةُ بالموهبةِ الخلاَّقةِ والموهوبين، والاستفادةُ من
هذه القدرةِ الجبَّارة، والطاقة الهائلة التي تَدفَع المجتمع إلى الأمامِ؛ ليُواكِب
عجلةَ التقدُّم والازدهار، ويقفَ على حلِّ الكثيرِ من قضاياه المستعصية.
أذكر هنا قصةَ طبيبٍ متدرِّب ناشئ، أرشد أستاذَه
القديرَ إلى عمليةِ طفل الأنابيب، التي لم تَخطُر على بالِ أكبرِ العمالقةِ من
أساطينِ الطبِّ آنذاك، فكانت حلاًّ شاملاً لمشاكلَ عويصةٍ أَحرَقتْ قلوبَ الكثيرِ
من المتزوِّجين والمتزوِّجات؛ إذًا فالعنايةُ بالموهبةِ تُتِيحُ اكتشافَ لآلئَ
مكنونةٍ في أصدافِها، وجواهرَ محجوبةٍ عن الأنظار، فما علينا إلا أن نفتحَها؛
لتشعَّ نورًا يبدِّد الظلام.
فأصحابُ المواهبِ
يَجِبُ تمييزُهم عن غيرِهم من الأشخاصِ ذوي القدرات العادية دراسيًّا؛ فلا
نُسَاوِي بينهم وبين مَن هم أدنى منهم في الإبداعِ؛ لأنهم أقدرُ على استيعابِ ما
يُعطَى لهم من موادَّ تعليميَّةٍ، فعندما يكونُ الطفلُ العادي يتعثَّر في حفظِ
دروسِه، فهو بالكادِ يَستَوعِبه؛ بسبب عدمِ الرغبةِ في التعلُّم، أو لقصورٍ
ومحدوديةٍ في مداركِه، نرى الطفل الموهوبَ قد هضَم الدرس هضمًا، وزاد عليه إيضاحًا
وإلمامًا بشتَّى الجوانب؛ فعقلُه يحلِّق في مساراتٍ فسيحةٍ، وأرجاءٍ رحيبةٍ
خصبةٍ.
فليس من المنطقِ أن يَدرُس نفسَ المستوى من
المادَّة الدراسيةِ، وهذا لا يتنافى مع العدلِ؛ فالعدل أن نُخَاطِب الناسَ حَسَب
مداركِهم.
فلنجعل الموهوبين بمثابةِ الرأسِ من الجسدِ في
الدراسة؛ أي: نحمِّله مسؤوليةً أكبرَ، ونُلقِي على عاتقِه مهامَّ أصعبَ.
فعندما نقدِّم لشخصينِ مختلفينِ في القدراتِ
الفكريةِ نفسَ المستوى من المعلوماتِ، لا شكَّ أن الموهوبَ يَضِيق بها ذرعًا؛ لأنها
لا تسدُّ جوعَه وتعطُّشَه إلى الإبداعِ والابتكار، ونكونُ قد ظلمناه فعلاً، ومثلها
عندما نقدِّم مادَّة دراسيةً تتعلَّق بالموهوبينَ للطلاب العاديين كالأسئلةِ
الاستنتاجية، نُربِكُهم ونُحرِجُهم بفعلِنا، هذا ليس معناه أن يَستَعلِيَ الموهوبُ
على غيرِه، بل يَتَواضَع للواهبِ القادرِ ويشكرُه، ويَمُدُّ يدَ العونِ لمن حولَه:
﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28].
وليكن دعاؤه: ﴿ وَقُلْ
رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114]؛ لذا:
أولاً: يَجِبُ
على المربِّين أن يهتمُّوا بالنشءِ، ويتفقَّدوا كلَّ ما يَصدُر عن الطلابِ والأطفال
من مخايلِ الذكاءِ، وما ينمُّ عن بوادرِ الفطنة والنباهةِ، ولا يَستَهِينوا بها
مهما قلَّتْ، ويوفِّروا لهم مناهجَ خاصةً تَعتَمِد على الاستنباط والاستنتاج،
بعيدًا عن التلقينِ والحفظِ، ويقدِّموا لهم الأدلَّة والبراهين، ويوفِّروا لهم
المشاهداتِ والتدريباتِ العمليةَ؛ لأنه لا شيءَ أقطع للشكِّ من اليقينِ.
فمَن رأى مصنعًا عيانًا، ليس كمَن سمع به، فمهما
بلغ الحديث من الدقَّة، لا يَفِي بالغرض المطلوبِ، ويبقى مجرَّد كلام.
ثانيًا: عدمُ
التقيُّد بالدراسةِ المنهجيةِ، فهناك طلابٌ يستطيعون اجتيازَ صفَّينِ من الدراسة في
العامِ الواحدِ، فلِمَ نتركهم يَقتُلُون الوقت سدًى؟
ثالثًا:
ليَحذُوا حذوَ الدولِ المتقدِّمة في برامجِها التعليميَّة، التي تنتهج الأوليَّةَ
للأقدر والأذكى والأجدرِ، بهذا نكونُ قد أعطينا الموهبةَ حقَّها.
وللعلم: كان
المسلمون أوَّلَ مَن سار في هذا الطريقِ، عندما كانت حلقاتُ الدروسِ العلميَّة
تُعقَد في المساجدِ، حيث كان الطالبُ يُجَازُ حَسَب جهدِه وتفوُّقِه، ونبوغِه
وإبداعه، وليس بناءً على مدَّة زمنية معينة.
رابعًا:
لنسابِق الزمنَ، ونأخذْ بيدِ مَن أَودَعَه الله ملكةَ الإبداعِ والتميز.
خامسًا:
لنبحَث عنهم في كلِّ مكانٍ، ونَصِل إليهم في مواقعِهم؛ فهناك أناسٌ لم تُتِح لهم
الظروفُ أن يَكشِفُوا عن موهبتِهم، ويَصِلُوا إلى ما يَستحقُّون؛ حتى لا تَمُوت
مقدراتُهم في المهدِ.
سادسًا:
الاعتناءُ بكوادرِ التعليمِ، وإتاحةُ الفرصِ لهم، وتأمينُ احتياجاتِهم؛ ليتفرَّغوا
للكشف عن الطلابِ الموهوبين، وإبرازهم إلى حيِّز الوجود.
سابعًا:
للموهبةِ فروعٌ شتَّى، يَجِبُ استغلالُها جميعًا وتنميتُها، فلا نترك منها شيئًا
إلا نَمَّيناه وتعهَّدناه، وخاصة ما كان مفيدًا للوطن والأمة الإسلامية والإنسانية
جمعاءَ.
ثامنًا: وضعُ
محفِّزاتٍ للمبدِعين؛ ليُخرِجُوا كلَّ ما عندهم، وليَعمَلُوا بأقصى طاقاتِهم،
ويستثمروا جلَّ إبداعِهم.
تاسعًا:
تشجيعُ المبدِعين؛ بإيجادِ عملٍ يَلِيق بهم بعد التخرُّج والممارسةِ المِهنيَّة؛
لأن المبدِع إذا وجِد في بلدٍ ليس فيها مجالاتٌ لممارسةِ إبداعِه؛ فإنه حتمًا
سيصابُ بالصدمةِ والإحباطِ، ويشعرُ بعدم جدواه وفائدتِه.
عاشرًا:
إيفادُ المبدِعين إلى الخارجِ؛ ليَستَفيدُوا من تجارِب غيرهم.
أحدَ عشرَ:
النهوضُ بكلِّ طاقاتِ الوطنِ، والسعيُ لتحسينِ مناحي الحياةِ فيه؛ ليكونَ بيئةً
صالحةً للموهوبين؛ لأن إشباعَ الحاجاتِ يعدُّ تربةً صالحةً لظهورِ الإبداع.
ثانيَ عشرَ:
تأمينُ كلِّ ما يَلزَم لأعمالِهم وتجاربِهم؛ فربما غَفَل العالِم الجليل عن شيءٍ،
يَكشِفُ عنه مَن لا نَأْبَهُ له، بكلِّ سهولةٍ.
ثالث عشرَ:
جعْلُهم في مجموعاتٍ؛ ليقوموا بعملٍ ما؛ فيَدُ اللهِ مع الجماعةِ.
رابع عشرَ:
الاهتمامُ بالطفولةِ منذ التنشئةِ الأولى، وتربيةُ الأطفالِ بعيدًا عن القمعِ
والاضطهادِ.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Social/0/41601/#ixzz1xNMMFvft