جغرافيا التقزيم الجبرى
قراءة فى ديوان محمد السيد سليمان
بقلم / محمود الديدامونى

" الشعر ضرورة .. وآه لو أعرف لماذا ؟" . بهذه العبارة الجميلة عبر جان كوكتو عن ضرورة الفن .
لكن هناك رأيا آخر عبر عنه المصور موندريان ذلك المصور الهولندى الذى اشتهر برسوماته التجريدية ذات الأشكال الهندسية ، معتمدة على الخطوط المتقاطعة وحدها .. حيث يرى أن الفن بديل للحياة ، ووسيلة لإيجاد التوازن بين الإنسان والعالم الذى يعيش فيه ، وحتى هذا أمر مستبعد حتى فى أرقى أشكال المجتمع .
ولست هنا فى هذه القراءة أحاول تحديد ماهية الفن ودوره ، بل البحث عن مدخل نظرى لدراسة تطبيقية حول ديوان ( جغرافيا التقزيم الجبرى ) للشاعر محمد السيد سليمان ، مؤكدا على أنه كفرد يسعى دائما للاكتمال ، فليس من طبيعة الإنسان أن يكون فردا مجردا ، ولو كان كذلك لما كان لهذه الرغبة نحو الاكتمال معنى ولا مضمون ، لأن الإنسان الفرد فى هذه الحالة " كلا " قائما بذاته ، كلا مكتملا ، يحوى كل ما يستطيع أن يكونه ، ولما كانت الرغبة لدى الإنسان فى الزيادة والاكتمال ، فدليل على أنه أكثر من مجرد فرد ، له تجاربه ومستفيدا أيضا من تجارب الآخرين ، مطوعا فى ذلك الشعر لخدمة تلك التجارب الإنسانية . " 1 " ضرورة الفن لأرنست فيشر
ولعل تناولنا للديوان سوف يكون مقصورا على حتمية الكتابة وركائز التجربة الإبداعية التى انطلق منها هذا الديوان تحديدا .
وقبل الولوج إلى النص الشعرى كان من الضرورى البحث فى دلالة العنوان ( جغرافيا التقزيم الجبرى ) فهو من العناوين المركبة مثله مثل معظم العناوين الموجودة داخل الديوان التى كانت لافتة للنظر بشكل كبير مثل ( روبابيكيا الأعراف العرقية – سنوغرافيا الأفلام الهابطة – سكرات التغريب النفسى –شيزوفرينيا – لوغاريتم التخنيث التسيسى ) . ألستم معى فى أن العناوين لافتة للانتباه ؟ لغرائبيتها وحداثتها ، وكونها جملا مركبة .
لماذا هذا العنوان ؟ هذا أول ما يبزغ إلى الذهن النقدى دائما ، كون العنوان غالبا هو أحد المرتكزات المهمة لقراءة النص باعتبار أنه عتبة النص ، الذى ننطلق منه لفك مغاليق وشفرات النص الشعرى أو الأدبى بصفة عامة .
• جغرافيا : -
هى كلمة تعنى - بعيدا عن التعريفات الدقيقة بالنسبة للمتلقى – تلك المساحة المتخيّلة من دراستنا لعلم الجغرافيا من تقسيمات مكانية للكون ( تضاريس – مناخ .....الخ )وبدقة أكثر هنا فى هذا الديوان هى المساحات الجغرافية القومية ، أى التقسيمات على أساس من العرق والجنس واللغة بل والقومية ، إنها جغرافيا الوطن الأكبر مكانيا وسكانيا واقتصاديا واجتماعيا .. الجغرافيا بمعناها الواسع فى إطار الحيز المقصود .
• التقزيم :-
وهى كلمة دالة على أن هناك كيانا كبيرا موجود بالفعل أو كان موجودا ، ثم تحول هذا الكيان إلى قزم من الأقزام ، وهذا بالطبع يضع أيدينا على كون وجود فاعل وراء محاولات التقزيم هذه .
وهذا أمر واقع بتقسيم الوطن الكبير إلى أوطان صغيرة متشرذمة ، تملك كل واحدة منهاعصبيتها ، غير مندمجة فى الكيان الكبير إلا على أساس من عنصر وحيد مهمش ، وهو هنا اللغة .
• الجبرى : -
وهنا يوضح الشاعر الآلية التى تتم بها عملية التقزيم ، حيث يقر بجبريتها ، ولا يكون الإجبار إلا فى وجه ضعف ، ولندخل للنص سريعا لنرى حقيقة الرؤية وحتمية التجربة ودلالة العنوان كلا مكتملا ، غير منفصل عن بقية العناصر .. كما أود أن لا يفهمنى أحد بتعمدى للتفكيكية فى معرفة دلالة العنوان ، حيث لا ترغمنى مدرسة أو اتجاه ، بل هى محاولة للفهم ، قائمة على إفادة من كل المدارس والاتجاهات ، فليس ثمة اتجاه يقبل الثبات أو لا يقبل النقد .
الليل بينام ..
على حجر الشمس المستنية شروق
لو بينّا فروق ..
ف البصمة وطول القامة وجنس ونوع
أو ف المشروع الممنوع م الصرف
راح يبقى العرف السايد فينا ..
التقسيم " 2 " جغرافيا التقزيم الجبرىالديوان
وهنا فى هذا المقطع تتجلى للمتلقى الدلالة والقصد ، وهو هنا فى مخاطبته إنما يخاطب أبناء قوميته ، أهله – أيا كانوا هم ..


مفردات حاكمة : -
من القاموس الشعرى للشاعر تطفو على السطح بعض المفردات المؤثرة فى البناء الدلالى للنص الشعرى عند شاعرنا محمد سليمان ، فلو أحصينا مثلا كلمة الخوف فى الديوان لوجدناها تقارب فى كل قصيدة مرتين على الأقل ، إن لم تكن مفردة حاكمة أيضا على بعض المفردات الأخرى المرادفة أيضا لها فى بعض القصائد ،( ومفردة الصبر ، والصمت ، والشرنقة ، والرهبة ، والقلق ، والمكبوت ، والأوهام ، وتتآمر ، والأقزام ، وسراب ، وتابوت ، وقبر، النخاسة ، استكانة ....الخ ) .
ومن قصيدة " الوصايا " "3 " الديوان ص28 يقول : -
إياك يابنى ف وسط العامة تستعمى
يطرشك الصمت اللى مخيش ف الشفة
اتعلم حرفة فك اللوغاريتمات ..
الطابقة على الأنفاس
اطلع م الشق بلأ الرافضة للعيب
الخوف لعيب بيسرطن جين التراكيب
وبيعمل منك تمثال قابل للمط
إوعاك تتلط تتطاطى زى نعام الرمل
من عرق النمل اتمضمض بل الريق
الفقر صديق ما بيتخلاش عن صاحبه
ويستمر الشاعر بهذا القاموس اللغوى فى بث رؤاه وأفكاره ووصاياه التى تبعث على المقاومة وتضع الإبن دائما محملا بالتركة الصعبة ، مكتفيا هنا الأب بسلطة توجيه الوصية التى يرى فيها حكمته وقدرته على أن يوجه جيلا آخر ، من خلال وصاياه التى لا تنضب ولا تنتهى ، وإن كنت أرى الأب هنا على إطلاقه ضحية أو مشاركا فيما وصل إليه حال التركة .. بما تحمله من مرارة الحدث ، وحتمية المواجهة والصمود .
ولنا أن نتخيل هذه الصورة بما تحمله من مفردات فى قصيدته ( تل الكلام ) .
تل الكلام من شفتينك نز
وكأن الكلام تكوم بعضه على بعض ليكون فى النهاية تلا ينز شيئا فشيئا ، وهنا تبزغ عوالم الحزن والأسى ، وكم كانت كلمة ( نز ) معبرة تماما على بطء حركة الفضفضة رغم أنها تجيء من تل للكلام والهموم ، فيهتز كل شيء داخل الشاعر فتخرج حروفه متقطعة ، تخرج مندمجة فى ذبذبات الصوت ، فتطمس المعانى ، وتصبح غير معبرة وغير حية ، يصبح ذلك كله منعكسا على روح الشاعر الذى يتحرك مثل دودة قز ، تلك الحركة البطيئة للغاية ، ورغم ذلك ينسج من خيوط الحبيبة شرنقات للموت ( تابوت ) .
تل الكلام من شفتينك نز
سقّط حروفه ف ذبذبات الصوت
طمس المعانى فوق سطورك هز ..
يونس وقبله هز جوف الحوت
وأنا اللى داير زى دودة قز
تنسج خيوطك شرنقاتي تابوت. " 4 " الديوان ص5

الموروث وتوظيفه فى الديوان : -

من خلال فهمى للأدب ونظرياته النقدية ، تتبدى أمام عينى حقيقة أن الشاعر يظل متجادلا مع نفسه ، وواقعه ، محاولا إعادة صياغة الذات والواقع والمتلقى بنصه ، من خلال صياغة متجددة ، ولا يختلف الشاعر إلا بأدوات شعريته وتشكيل نصه ورؤيته ، إذ يتحول الحق عنده إلى حقيقة ، والخير إلى تحقيق الرفاهية ، وتعرية الفوضى والسلبيات والمعوقات ..( 4)
الخوف مش طبعك .. بقى طبعك
وصوابعك .. مش هيه صوابعك
قرطمها الشلل الرعاش
ما بقاش لضوافرك خرباش
تتهرش بيه ساعة الزنقة
أحلامك كنكة بتمدد بالصهد الذاتى
ما تكونش
زى حالاتى فلاتى بكاش
حوليك لحناش وإحناش لحناش
والسحرة ... وعصاية موسى السحرية
ماذا يريد أن يقدم الشاعر هنا للمتلقى ، إنه يحاول إعادة صياغة التراث من جديد ، من خلال تعرية للذات وللواقع ولعل ما أشار إليه الشاعر يؤكد على أن التراث هنا جاء فى بنية النص الشعرى بل فى بنية الشاعر النفسية والاجتماعية والعقائدية .
ولنذهب لمنطقة أخرى استطاع فيها الشاعر أن يوظف موروثنا الغنائي الشعبي ، كما جاء فى قصيدة ( بهية ) فيقول : -
دثرينى
دثرينى
طيف ياسينك لاح ف عيني
واللى ما بينك وبينى
بحر مالح
والشطوط ناشفين قوالح
زى ريقى وأنت لسه الخوف عميكي
عن وجودى
لو تجودى بيا جودى
هذه هى العلاقة بين الشاعر وبين المحبوبة ( الوطن ) مبتدئا فى مناجاتها بكلمة من التراث الدينى الإسلامي وذلك الأمر الجلل الذى ألم بالشاعر متناص فى ذلك مع قصة نزول القرآن على رسولنا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
من ذلك نجد أن التراث خصيصة جوهرية تتوظف تلقائيا داخل النص ، عبر تناص موظف من الشاعر بطريقة توضح فهما جيدا للتراث ، فالشاعر يهيئ المتلقى لاستقبال رؤاه وفكره .
الديوان ينفتح على قراءات عدة ، ويقدم لنا شاعرا جميلا يعى حقيقة الإبداع ، ويؤمن بمشاركة المتلقى فى بناء النص الأدبى