الفجائعية في مجموعة بئر الأرواح
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

الفجائعيةتمتلىء قصص مجموعة «بئر الأرواح» للقاص عدنان كنفاني بفجائعية محرضة تحاول نقل واقع أليم يحياه الشعب الفلسطيني، ويعايشه بشكل دائم .. منذ بداية الاحتلال حتى اللحظة.
فالدم والدمار.. والتخريب وهدم البيوت والحصار والموت الذي يتبعه موت حتى بات مؤشر الزمن الوحيد .. (ص120) في حياة أبناء الشعب الفلسطيني، وهذه هي العلامات الأكثر حضوراً في مشهد الحياة الفلسطينية.. مع إلماحات دائمة إلى أمل .. ضئيل يلتمع في مكان ما.. وفي مساحة ما..
فالمجموعة فلسطينية بجدارة من حيث الهم.. ومن حيث اللون الفاجع الذي يلفها كما يلف الحياة الفلسطينية الراهنة والسابقة منذ الاحتلال ولا يمكن ان نستثني واحدة من القصص في المجموعة لا تحمل هذا الهم الفجائعي إلا بعضاً من لمحات، كانت تستعرض فيها بعض شخوص الحياة الفلسطينية قبل الاحتلال، بما تحمله من محبة وشفافية وجمال وبراءة ودعة.. خربتها أيدي المحتلين ونفوسهم وبنادقهم ومدافعهم وجرافاتهم وطيارات الأباتشي، مما أحال حياة أبناء فلسطين إلى جحيم.. لا يطاق.. ودماء لا تكاد تنقطع.. وموت لا يتبعه إلا موت.

ترسم المجموعة لوحات فيها الكثير من الفجائع والدمار.. عبر مباشرة حيناً وعبر رموز شفافة أحياناً.. ففي المعبر، يبدو اليأس واضحاً على الشخصية التي أرادت تجربة الوقوف أمام المعبر فتكتشف مدى المعاناة والذل.. الذي يعانيه أبناء فلسطين، وتعرض بمن يستغلون هذه المعاناة من أصحاب النفوس الضعيفة من أبناء الشعب الفلسطيني.. «السمسار».
وفي ( جميلة).. يستمر النزيف من الجد إلى الأب - إلى الأبناء.. ثم الأم التي تجن، أو تموت ليؤشر الكاتب إلى حالة الموت والفاجعة التي وصل إليها الشعب الفلسطيني، وفي «حمدان القرباطي» يصل المناضلون المثقفون إلى زراية لا تقل عن حال اللصوص والمجرمين، بعد أن أوصلهم إلى هذا الطغيان الصهيوني.. وربما عدم التقدير الوطني أيضاً.
وفي «درباس» يستعيد القاص قصة الاغتصاب لأرض فلسطين عبر رموز شفافة، فدرباس مصاص الدماء تقوده خارطة لمغربي مشعوذ إلى تلة فيها كنز موعود .. هي أرض فلسطين التي تتحدث عنها أسفار قديمة بأنها أرض العسل واللبن..
تقوده هذه الخارطة لقضم أرض البلدة وإلقاء أهلها .. خارجها بل وقتلهم وتشريدهم دون شفقة أو منطق.
وفي (شاهدة دم) تصبح يافا الضائعة الفتاة التي فقدت أمها.. هي يافا فلسطين بل فلسطين كلها التي ضاعت ولا تزال تتعرض للاغتصاب وفي (عشر دقائق)... يكون أبناء فلسطين كلهم عرضة للقتل ولا فرق.. فحياتهم مهددة دائماً منذ بداية الاحتلال.. وهم يعيشون على انتظار موت بين كل عشر دقائق.
وفي (جرح في خاصرة) يظل الجرح الفلسطيني نازفاً.. ويظل صلاح مثل كل فلسطيني يبحث عن أرضه وانتمائه ووطنه ممثلاً بالبحث عن الأب الذي يراه صلاح في وجوه كل الآباء السمراء الداكنة.. ولكنه لا يجد أباه أبداً على الرغم من بحثه في كل المخيمات .
ولكن هذا السواد الطاغي الذي يلف المجموعة كلها.. لا يعدم ان يكون في فجواته بعضاً من لمحات النور والأمل.. ففي (الرواق).. سوف تستمر مسيرة المقاومة من أبي كنعان «ولا تفوتنا دلالة الاسم، إلى مصطفى بخيت.. إلى الطفل الذي يجلس في حضن أبي كنعان- الذي يعرف الراوي ان اسمه أبو كنعان أيضاً «الداعي أبو كنعان»، وفي (الغربان) يظهر الفعل المقاوم الذي يشكل الأمل عبر «البراميل المفخخة»، ولكنه يسند جزءاً من هذا الفعل المقاوم إلى قوى أخرى غير بشرية، وفي هذا مؤشر إلى يأس الكاتب من القوى الفاعلة، والالتجاء إلى قوى ربما لا علاقة لها بالقضية.. حيث أسند هذا الفعل إلى طيور الغراب .. ص 36، وكأنما يعود إلى مقولة «للبيت رب يحميه»، وفي هذا شيء من اليأس وشيء من العجز أمام معطيات الواقع المحاصر الذي لم يُبق أفقاً من أي نوع أمام الكاتب عدا فرحة صغيرة هي البراميل المفخخة.. وثمة أمل لدى جميلة.. أمل لا يتحقق ولكنه يظل معها.. وتحتفظ به في صدرها على الرغم من الشيب الذي لوّن خصلات شعرها.. وهو أمل العودة إلى دارها في مجدل عسقلان وقد برز هذا الأمل وهذا الفعل المقاوم «ممثلاً بتعليم الأبناء بأن لهم بيتاً في فلسطين، وهم سيعودون اليه يوماً في قصة «هكذا نحتفل»، ويبدو الانتماء مع شدة التمسك بالأرض في قصة «شجرة الليمون» تقوم القصص في غالبيتها على طريقة التداعيات التي يتناولها راوٍ يُمثل ضمير المتكلم غالباً.. وهذا ما طبع لغة المجموعة وبكثير من الذاتية والغنائية.. بحيث بدت في بعض الأحيان مقطوعات شعرية فيها الكثير من البوح الحزين والأسى على ضياع كل من المنمنمات الصغيرة الحميمة من حياة القاص نفسه، وليس من حياة الشخصيات فقط، وقد بدت هذه الخاصية منتشرة في معظم القصص.. ولكنها توضحت كثيراً في قصص من مثل بئر الأرواح.. جميلة - شاهدة دم - شجرة الليمون - عشر دقائق - وجرح في خاصرة.
استعار القاص بعض تقنيات الرواية في بعض قصص المجموعة، حيث استغرق كثيراً في وصف جزئيات المكان حتى جعلنا نراه.. وهذا على جماله لا يختص بتقنيات القصة القصيرة، لصغر حجمها وعدم احتياجها لهذا، كما فعل في قصة «الرواق»، حيث أكد كثيراً على كل المنمنمات الصغيرة، اضافة الى استغراقه في وصف المكان مما هو ألصق بأساليب الرواية، فقد بدا المكان بطلاً، بل شخصية رئيسية، وهذا ما كان في قصة «جرح في خاصرة»، وإن كان توظيفه في الأخيرة أكثر نجاحاً، حيث استطاع أن يجعل من المكان شاهداً على همجية الصهاينة وتتريتهم.
يلفت النظر في المجموعة اللغة التي تستغرق في بداية بعض القصص في الانشائية، وهذا ما أعطاها بعضاً من صفات الشعر، وقد بدا ذلك في قصة «أربعة أيام حصار» وفي جميلة.. وفي شجرة الليمون.. وفي جرح في خاصرة.
انفردت القصة «مساءً في ميلانو» في تصوير موقف بعض الصهاينة الرافضين لكل ما يحدث في فلسطين سواء أكان ذلك نتيجة موقف مبدئي.. أم كان نتيجة خوف.. فصموئيل ك يجد أن ما وعدوه به ليس إلا كذباً، وأن كل الأباطيل التي تخرّص بها الصهاينة لجلب الناس إلا كذباً، وهذا ما جعل الطائرة تبقى قابعة في مطار ميلانو سواء أكان ذلك بفعل الخوف «اليهودي الشرقي» والعجوز أم صموئيل.. أم كان بفعل المقاومة التي جعلت من بعض الشخصيات تتراجع عن القدوم الى تل أبيب حتى فرغت منهم الطائرة.
تتمتع المجموعة بحساسية عالية.. وتحاول رسم صورة يطغى عليها السواد.. مع بعض بقع من النور بسيطة غير مؤثرة أو فاعلة إلا القليل.. وتتوسل لغة فيها الكثير من الحزن على ذكريات وأسى على ضياع كل ماله علاقة بالجمال في حياة الفلسطيني، الذي باتت حياته سلسلة مآس لا تنتهي .. وسلسلة من موت لا ينفد.
وهذا ما أكسب اللغة في المجموعة خاصية شعرية مؤثرة.. كانت تطغى أحياناً على لغة السرد والقص.. فلا تخدمها، وتنزاح بها نحو لغة الشعر بكل ما تحمله من حساسية.. ورهافة.

د. غسان غنيم

http://www.albaath.news.sy/user/?id=303&a=27198