كتاب ـ قصة الإليزيه ـ الحلقة (1)
ديغول يرفض الذهاب إلى الإليزيه على متن مروحية عسكرية
تأليف :فرانسوا دورسيفال



يكشف هذا الكتاب عن أسرار كثيرة من خبايا السياسة الفرنسية في أعلى مستوياتها والتي ارتبطت بصورة مباشرة بمقر السلطة الفرنسية العليا ومطبخ سياستها الخارجية والداخلية في قصر الإليزيه. فخلف جدران قصر الإليزيه ينبض قلب فرنسا.




هذا القصر الذي قالت عنه ذات يوم السيدة برناديت شيراك، زوجة رئيس الجمهورية الفرنسية السابق جاك شيراك، ما نصّه: «لا يمكن تصوّر ما سمعته جدران هذا القصر من أسرار». ويحكي هذا الكتاب «قصة القصر» لكنها قصة حقيقية للأحداث والخطط والمؤامرات التي حاكت تاريخ فرنسا الحديث من نابليون بونابرت حتى نهاية حكم جاك شيراك. ففي قصر الإليزيه واجه الجنرال شارل ديغول لحظات صعبة عام 1968 أثناء «ثورة الطلبة» في شهر مايو ، وفيه أقام فاليري جسكار ديستان مقر القوة الفرنسية النووية الضاربة وفيه انتحر فرانسوا دو جروسوفر. وفي قصر الإليزيه أيضا اتخذ جاك شيراك بعض القرارات التاريخية حيال حرب العراق في ربيع عام 2003.




يطلق عليه البعض تسمية «القصر»، وهو قصر «صغير» لا يتعدّى بفخامته العديد من قصور مناطق بعيدة عن العاصمة باريس. بُني قصر «الإليزيه» من قبل أحد الأمراء في عصر لويس الخامس عشر قبل حوالي ثلاثة قرون. لكنه لم يتعرض خلال تاريخه كله لعمليات سلب أو حرق أو تخريب... لا من قبل الثورة الفرنسية الكبرى ولا من غيرها. تحتوي باريس على عدة قصور من بينها اللوفر ولكسمبورج (مقر مجلس الشيوخ حاليا) والبوربون (مقر الجمعية الوطنية الفرنسية) والقصرين الكبير والصغير (متحفين حاليا). لكن اثنين فقط من قصور العاصمة يطلق عليهما تسمية «القصر»، وهما «قصر العدالة وقصر الإليزيه» وكأنه يراد التأكيد على نفس القدر من الاحترام للعدالة وللسلطة.




خلف جدران هذا القصر «يخفق قلب فرنسا»، هذا ما يقوله المؤلف في متن هذا الكتاب. كان قصر الإليزيه في البداية ملكا لأسرة كبيرة ثم للملك وللإمبراطور وأخيرا للجمهورية. اتخذ أسماءً عديدة كإليزيه بوربون وإليزيه نابليون والإليزيه الوطني قبل أن يصبح قصر «الإليزيه» فقط. يؤكد مؤلف هذا الكتاب أن قصر الإليزيه، رغم تاريخه الطويل، لم يصبح مقرّا للسلطة الحقيقية سوى في عام 1959 بعد أن أقام الجنرال شارل ديغول الجمهورية الفرنسية الخامسة عام 1958.وكان قد أقام به مقر قيادة أركان جيشه بما في ذلك سلطة التحكم ب«الأسلحة النووية».


وباستمرار كان أمن القصر وأمن رئيس الدولة مناطين بالقائد العسكري للقصر وبحرسه الجمهوري. ويسهر على صحة الرئيس طبيب عام وأربعة أطباء عسكريين للطوارئ، وإذا اعتلّت صحة الرئيس، أو تعرّض لأي حادث، فإنه يتم نقله إلى المستشفى العسكري.


ومن الأحكام المطبّقة على قصر الإليزيه أن الرئيس عندما يغادره للمرّة الأخيرة بعد نهاية فترته الرئاسية، التي لا يمكن أن تنقطع إلا بسبب الاستقالة أو المرض أو حدوث انقلاب عسكري، فلا يحق له بعد ذلك الدخول إليه مطلقا.


والأمر نفسه مطبّق على زوجات الرؤساء، وكان الاستثناء الوحيد هو عودة دانييل متيران، زوجة الرئيس الراحل فرانسوا متيران إليه لمرّة واحدة ل«سبب قاهر». وإذا كان الرئيس الأسبق فاليري جسكار ديستان قد دخل من جديد إلى قصر الإليزيه بعد 24 سنة من خروجه منه لآخر مرة فإن ذلك بحكم «الواجب القانوني» الذي يفرضه انتخابه كعضو في الأكاديمية الفرنسية.


كان قصر الإليزيه يحمي «أسراره» من عيون المارّة بقربه خلف سوره الذي لم يكن يسمح برؤية سوى بعض درجات مدخله. لكن في ربيع عام 1978 قرر الرئيس الفرنسي آنذاك فاليري جسكار ديستان فتحه للزائرين بينما كان دخوله في السابق مقتصرا على المدعوين. وينقل المؤلف عن الجنرال ديغول في مذكراته قوله: «من الطبيعي أن يكون قصر الرئيس هو إطار لقاءات ودعوات واحتفالات مستمرّة (...). كانت الأمور تتم بقدر كبير من الأبّهة والدقة. وكانت تلك هي إرادة سيدة البيت، أي زوجتي».


وبمناسبة زوجات الرؤساء، فإن مؤلف هذا الكتاب يعتمد على السيدة برناديت شيراك، زوجة الرئيس السابق جاك شيراك، من أجل تعريف القارئ بقصر الإليزيه. كانت المرة الأولى التي دخلت فيها إليه عام 1967 عندما جرى تعيين زوجها سكرتير دولة للميزانية في حكومة جورج بومبيدو، رئيس الوزراء آنذاك. كان الجنرال قد دعا شيراك وزوجته لتناول طعام الغداء في القصر.


وينقل المؤلف عن السيدة برناديت شيراك قولها بخصوص ذلك: «كان الجنرال ودودا جدا وعندما شعر أن السيدة التي تجلس بجانبه مضطربة فعل كل ما في وسعه من أجل تلطيف الجلسة. وقد جرى استقبالنا بعد ذلك برفقة أسرة بومبيدو على وجبات العشاء وكان ذلك يتم غالبا بوجود فنانين. وكان يتم أحيانا عرض فيلم سينمائي جديد».


وتشرح السيدة برناديت شيراك أنه جرى تحويل إحدى صالات قصر الإليزيه الكبرى، التي كانت مكتب رؤساء الجمهورية الفرنسية الثالثة، إلى مكتبة. وأمام رفوف هذه المكتبة جرى التقاط الصور الرسمية لكل من الجنرال ديغول وخليفته جورج بومبيدو ثم فرانسوا متيران. وبجانب هذه الصالة يوجد «الصالون الفضي» الذي كان نابليون قد وقّع فيه «وثيقة تخلّيه عن العرش» بتاريخ 22 يونيو من عام 1815.


وفي الطابق الأول من القصر الذي يمكن بلوغه عن طريق سلّم أو عن طريق المصعد الكهربائي «الوحيد» في القصر يوجد المسكن الخاص للرئيس وزوجته. أما «صالون السفراء» فقد أخذ هذه التسمية لأن الرئيس يتسلّم فيه أوراق اعتماد السفراء الأجانب في باريس. وقد كان قاعة للاستقبال في زمن نابليون الثالث. وكان الجنرال شارل ديغول قد ألغى ذلك التقليد وحوّله إلى مكتبه الخاص ثم أصبح بعده المكتب الخاص لجورج بومبيدو.


لكن فاليري جيسكار ديستان رغب في «تغيير الحقبة» فاتخذ لنفسه مكتبا في قاعة أخرى. وعندما وصل فرانسوا متيران إلى الرئاسة أراد أن يحتل نفس المقعد الذي كان يشغله الجنرال ديغول فأعاد مكتبه الخاص إلى حيث كان بل وأعاد نفس الأثاث الذي كان يحتويه في ظل الجنرال ولم يغيّر هذ الأثاث إلا أثناء فترته الرئاسية الثانية. لكن عندما وصل جاك شيراك إلى قصر الإليزيه وجد نفس الأثاث الذي كان يشغله الجنرال.


حاضنة الجمهورية


بعد فصول عديدة يكرسها مؤلف هذا الكتاب لتاريخ قصر الإليزيه ما بين القرن الثامن عشر وما يزيد عن نصف القرن العشرين يتحدث عن الفترة الحديثة ابتداء من عام 1958، أي منذ تأسيس الجمهورية الفرنسية الخامسة التي لا تزال قائمة حتى اليوم حيث أن الرئيس الحالي نيكولا ساركوزي هو الرئيس السادس لهذه الجمهورية الخامسة. الفترة التي خطّ الجنرال ديغول فيها ملامح سياسة فرنسا على الصعيد الدولي لا تزال راهنة حتى اليوم ولا يزال قصر الإليزيه هو «حاضنتها» الرئيسية.


في نهاية عام 1957 شهدت فرنسا أزمتين حكوميتين كبيرتين خلال فترة ستة أشهر فقط. كان رئيس الجمهورية الفرنسية آنذاك -الجمهورية الرابعة- هو «رونيه كوتي». بدا الطريق مسدودا تماما، الأمر الذي دفع «اوليفييه غيشار» رئيس مكتب الجنرال ديغول إلى القول له: «سيدي الجنرال، ينبغي الخروج من هذا المأزق، وربما ينبغي عليكم الذهاب لرؤية رونيه كوتي وإفهامه أن الوضع هو في الطريق المسدود. إنه رجل عاقل وسوف يستمع إليكم، وهو الذي سوف يغادر قصر الإليزيه بعد اللقاء».


وينقل المؤلف عن «غيشار» قوله: «لقد رفع الجنرال نظّارتيه عن عينيه ورمقني بابتسامة رصينة وقال لي: أنت مخطئ تماما. إن كوتي سيكون مؤيداً لرأيي بالفعل. لكن الأمور لا تجري بهذا الشكل في الإليزيه، إذ هناك رجال الإدارة، وهؤلاء هم من أنصار المنظومة القائمة». ثم أردف الجنرال أنه «عندما لا يغدو أحد سيد اللعبة» فإن الإداريين والموظفين لا يعودوا يرون في الدولة سوى مجرد «ديكور». وأنهى الجنرال حديثه بالقول: «لن تعرف الجمهورية كيف تدافع عن نفسها إلا إذا عرفت كيف تصلح نفسها».


وينقل المؤلف في هذا السياق عن أحد المحللين السياسيين لتلك الفترة واسمه «جان اندريه نوشيه» قوله: «يمكن المراهنة بقوة على أن رونيه كوتي سيكون آخر رئيس للجمهورية الرابعة. ولن تستطيع آلة النظام أن تقاوم لسبع سنوات قادمة (...). وعندما لا يعود المهرّجون يثيرون ضحك الجمهور، يغدو من الملحّ جدا إغلاق السيرك».


بتاريخ 29 يناير 1958 كانت النقاشات تدور في قصر الإليزيه حول تونس التي جرى اتهامها أنها تخدم آنذاك كقاعدة خلفية ل«التمرّد الجزائري» أي لحرب التحرير التي اندلعت عام 1954. أبدى يومها «روبيرت لاكوست» الاشتراكي والوزير الفرنسي المقيم في الجزائر منذ عام 1956 قلقه الكبير لاسيما وأنه كان من المتحمسين لـ«الجزائر فرنسية».


بنفس الوقت كانت موجة العنف تتصاعد في الجزائر وكانت نشاطات الثوار الجزائريين تتعاظم عبر الحدود الفرنسية حيث كانوا قد اتخذوا من قرية «ساقية سيدي يوسف» في تونس قاعدة خلفية لهم. وبتاريخ 8 فبراير 1958 قامت الطائرات الفرنسية بقصف تلك القرية مما أدى إلى تدمير منازل ومدرسة وسقوط 69 ضحية من بينهم 21 طفلا.


أثار ذلك موجة استنكار وطنية ودولية. لكن من الذي أعطى الأمر بتلك الغارة؟ لم يكن رئيس الحكومة ولا حتى وزير الدفاع آنذاك جاك شابان دالماس وإنما الجنرال «جوهو» قائد سلاح الجو الفرنسي في الجزائر بموافقة من الجنرال «سالان» قائد الأركان ورأس حربة الداعين لبقاء الجزائر فرنسية.


قدّمت تونس شكوى لمجلس الأمن في الأمم المتحدة الذي أصدر أمرا لفرنسا بقبول «وساطة حسن النوايا» التي قام بها دبلوماسي أمريكي كان قنصلا سابقا في الجزائر عام 1942 برفقة وزير انجليزي. رأت الجزائر بذلك مؤشرا على قبول فرنسا بتدويل الملف الجزائري. بالمقابل ثارت ذكريات «سيئة» لدى القيادات الفرنسية مثل «ندوة جنيف» التي كرّست هزيمة فرنسا الذليلة في «ديان بيان فو» في فيتنام عام 1954 أو مثل عملية السويس المجهضة عام 1956.


وفي مثل ذلك السياق عرف الجيش الفرنسي حالة من الغليان بقيادة ضباط كانوا قد خدموا في فيتنام أو شاركوا في الحرب ببور سعيد مثل الجنرالات سالان وماسو وبيجار. كانت الأجواء ملبدة بالمؤامرات. ولم يكن رئيس الجمهورية «روني كوتي» يجهل ذلك أبدا إذ كانت له «شبكاته». بل وكانت المعلومات تصل إلى قصر الإليزيه بنفس الوقت الذي كانت تصل فيه إلى الجنرال ديغول.


ارتفعت آنذاك أصوات لبعض البرلمانيين الذين طالبوا بتشكيل «حكومة إنقاذ وطني عام». وينقل المؤلف عن النائب «جاك سوستيل» الذي كان حاكما عاما للجزائر حتى عام 1956 قوله: «ليس هناك بين رجال الدولة اليوم إلا رجل واحد يمكنه أن يتمتع على المستوى الخارجي بالسلطة الضرورية لفرض احترام المصالح الحيوية لفرنسا وفي شمال إفريقيا. هذا الرجل هو الجنرال شارل ديغول». وفي المحصلة أصبح الكثيرون يعتقدون أن السؤال لم يكن يتعلق معرفة ما إذا كان الجنرال سيعود، أو لا يعود إلى السلطة وإنما هو معرفة متى.


ألحّ الأمريكيون آنذاك على الحكومة الفرنسية من أجل قبول وساطة «حسن النوايا». بخصوص شكوى تونس لدى الأمم المتحدة، انقسمت الحكومة الفرنسية حول قبول الوساطة أو عدم قبولها بين من يؤيد القبول وبين من يعارض وصولا إلى قول أحد الوزراء أنه: «من الأفضل احتلال تونس».


البقاء في الظل


فضّل الجنرال ديغول البقاء في الظل و«عدم الظهور على المسرح السياسي» فترة طويلة من الزمن، وذلك إلى أن وصلته ذات يوم رسالة من رئيس أركان الجيش جاء فيها: «على مقامكم العالي أن يتدخل من أجل إنقاذ البلاد».


اعتبر الجنرال عندها أنه لم يعد يحق له أن يلوذ بالصمت بعد أن جرى إخطاره بالانهيار القريب للنظام من قبل رئيس الجمهورية ومن قبل رئاسة أركان الجيش. وقد كتب الجنرال بعد ذلك في مذكراته، كما ينقل عنه المؤلف، ما يلي: «كان أمامي عدة ساعات فقط من أجل اتخاذ قراري. ذلك أن الثورات تتقدم بسرعة. لكن علي مع ذلك أن أحدد اللحظة التي أظهر فيها على خشبة المسرح».


تسارعت الأحداث بعد ذلك والمظاهرات وعصيان الأوامر من قبل العسكريين. وتتالت الاجتماعات الحكومية في قصر الإليزيه حتى الساعات المتأخرة ليلا بينما بدا أن الجيش على وشك الاستيلاء على السلطة خشية أن تعمّ الفوضى. عندها قام الجنرال بنشر تصريح له جاء فيه: «لقد أولتني البلاد ثقتها كي أقودها إلى بر الأمان. اليوم وأمام التحديات التي تنتصب أمامها، فتدرك أنني مستعد كي أقوم بمسؤوليات السلطات الجمهورية».


لكن مجلس الوزراء قرر العمل من أجل فرض حالة الطوارئ -الأحكام العرفية- لمدة ثلاثة أشهر كما يسمح القانون الصادر بتاريخ 3 أبريل 1955. في تلك الأثناء أعلن الحزب الشيوعي الفرنسي القوي آنذاك، دعمه للحكومة من أجل «الدفاع عن الجمهورية ضد الفاشية». الفاشية المقصودة كانت بنظرهم ممثلة بالجنرال ديغول.


هذا ما رد عليه الجنرال بالقول: «دكتاتور؟ وهل يظنّون أنني وأنا بعمر 67 سنة سوف أبدأ مسيرة جديدة كدكتاتور»؟ كانت أفواج متزايدة من السياسيين تتقاطر نحو «كولومبي»، بلدة الجنرل، لتأكيد دعمها له تحت أنظار رجال وضباط الاستخبارات العامة. وقد عرض ضباط كبار عليه خطة يتم على أساسها استخدام جنود المظلات لحسم الأمور بالقوة لصالحه. لكن الجنرال أفهم الجميع أن لا ينوي الوصول إلى زقصر الإليزيه بطائرة مروحية عسكرية».


في مثل ذلك الإطار أصبح الخيار المطروح أمام السلطة الشرعية هو بكل بساطة التالي: أما الجنرال أو التهديد بقيام حرب أهلية طاحنة. وينقل المؤلف عن الجنرال ديغول أنه أسرّ لابنه فيليب ديغول، الذي أصبح فيما بعد أميرالا في الجيش الفرنسي، ما مفاده: «عندما سادت أجواء الخوف أرغمت ردود فعل الجيش رجال السياسة على أن يفهموا بأن الجمهورية الرابعة قد ماتت حقيقة».


دعا رئيس الجمهورية الجنرال ديغول للقدوم إلى قصر الإليزيه «من أجل البحث بتشكيل حكومة إنقاذ وطني» والعمل على «إصلاح عميق للمؤسسات». وصل الجنرال إلى القصر من الباب الخلفي عبر الحديقة تحاشيا للصحافة والمصورين. وكان الرئيس «رونيه كوتي» قد بعث رسالة للبرلمان وصف فيها الجنرال أنه الرجل «الأكثر شهرة بين الفرنسيين». وأضاف «إنه ذلك الشخص الذي كان قائدنا لاستعادة حريتنا في أحلك لحظات تاريخنا».


التقى الرجلان على انفراد في إحدى قاعات قصر الإليزيه بدون أي شاهد. «لقد تفاهمنا في الحال» كما قال الجنرال لاحقا مشيرا إلى أنه طالب يومذاك تولّي سلطات كاملة لمدة ستة أشهر وحلّ البرلمان وتحضير دستور جديد. واعتبارا من تلك اللحظة لم يكن هناك رجلان على قمة السلطة، وإنما رجل واحد هو الجنرال ديغول، ذلك أن السلطة نفسها لا تقبل الانقسام. كان «رونيه كوتي» لا يزال في قصر الإليزيه ولكن لا يملك إمكانية اتخاذ أية مبادرة.


وبتاريخ 21 ديسمبر 1958 جرى انتخاب الجنرال شارل ديغول رئيسا للجمهورية الفرنسية الخامسة بعد أن كان قد تمّ تبنّي دستور جديد باستفتاء شعبي عام أنهى الجمهورية الرابعة التي قامت أثناء الحرب العالمية الثانية. تسلّم الجنرال مهام منصبه كرئيس للجمهورية يوم 9 يناير 1959 لتبدأ إقامته في قصر الإليزيه. وكانت الخطوة الأولى التي قام بها هي تحويل الطابق الأول من القصر إلى مكاتب احتلّ هو نفسه واحدا منها وقد اختاره مطلاّ على الحديقة وعلى الأشجار التي تزيّن جادة الشانزيليزيه.


ثورة الطلبة


من بين الأحداث والأزمات الكبرى التي شهدها قصر الإليزيه في ظل الجنرال شارل ديغول يركز مؤلف هذا الكتاب على أزمة مايو 1968، أي الأزمة التي أثارتها الأحداث المعروفة باسم «ثورة الطلبة» التي كادت أن تسقط الجنرال. فبتاريخ 3 مايو 1968 كان الإليزيه «على بعد خطوات فقط» من المتظاهرين المتقدمين باتجاهه. يومها قال الجنرال: «إننا لن ندعهم يدوسون علينا ويسحقوننا بأقدامهم».


تساءل الجنرال أمام عدد من مساعديه في قصر الإليزيه: «لكن ماذا يريدون»؟ ربما كانت المرة الأولى التي لم يفهم فيها ما كان يجري في الشارع. كان آنذاك يراقب مسلسل العنف وهو معزول في مكتبه بالقصر عبر المعلومات التي يقدمها له مستشاروه وعبر النشرات الإخبارية ب«الأسود والأبيض» على شاشات التلفزيون. كان رئيس وزرائه آنذاك جورج بومبيدو يقوم بزيارة رسمية لإيران وأفغانستان.


وينقل المؤلف في هذا السياق ما جرى أثناء اجتماع مغلق في قصر الإليزيه بين الجنرال ديغول وثلاثة من وزرائه الرئيسيين والذين أفصحوا له أن «خير وسيلة لوقف التصعيد هي إطلاق سراح المعتقلين من المتظاهرين والوعد بإصدار عفو عام وإعادة فتح جامعة السوربون وسحب قوات الشرطة من الشوارع». كان الجنرال يريد أن يسمع منهم عكس ذلك تماما فقال: «لا يمكن الاستسلام أمام الشغب ولا يمكن التفاوض مع المشاغبين. السلطة لا تتراجع، فإذا تراجعت فهذا يعني أنها انهزمت».


في تلك الأثناء عاد جورج بومبيدو على عجل من كابول بسبب تفاقم العنف الطلابي والعملي بعد أن قررت نقابات العمال اليسارية مؤازرة حركة الطلبة. وطلبت رئاسة الحكومة من سكرتير الدولة الشاب جاك شيراك التدخل لدى بعض القادة النقابيين الذين يعرفهم. وقد ذهب شيراك إلى المواعيد التي ضربها معهم و«هو يحمل سلاحا» بعد أن كان بومبيدو قد حذره قائلا: «خذ حذرك من أن ينصبوا لك فخّا، وهل تريد أن يأخذونني رهينة مع أحد الوزراء؟»


لكن ديغول قرر اتخاذ مواقف حازمة وجمع حوله في قصر الإليزيه رئيس وزرائه وعددا من الوزراء ومحافظ شرطة باريس. تمّ ذلك الاجتماع في «الصالون الذهبي» وكان الجنرال غاضبا وقد قال للحضور: «لقد استمر ما يجري طويلا، وهذا لا يمكن السماح به. لقد اتخدت قراراتي وينبغي استرجاع المواقع التي سيطر عليها المتظاهرون. أي ساحة الاوديون اليوم وجامعة السوربون غدا.


بالنسبة لدار الإذاعة لا بد من اتخاذ الإجراءات اللازمة لحمايتها». كانت أوامر الجنرال محددة وحازمة ولكن الطلبة كانوا أكثر إصرارا من أن يأبهوا لأوامر الحكومة التي «ترددت» من جهتها في تنفيذ أوامر ديغول فيما يتعلق باللجوء إلى استخدام القوة.


وينقل المؤلف عن الجنرال ديغول قوله لمستشاره «جاك فوكار» ذات يوم في أواخر مايو 1968: «إذا كانت البلاد تريد أن تنام وأن تكون مشلولة فإنني لا أستطيع إنقاذها ضد إرادتها. لقد فعلنا ما باستطاعتنا. حسنا! سوف أرحل ففرنسا كالتي عرفناها هذا الشهر إنما هي فرنسا ميتة». وكان الجنرال آنذاك، كما ينقل المؤلف عن مصادر كانت على علم بالأمور، موزعا بين الإحساس بالإحباط وخيبة الأمل وبين هبّات من الأمل بامتلاك زمام الأمور من جديد عبر التوجه إلى الشعب مباشرة.


بتاريخ 24 مايو أعلن للفرنسيين أنه سوف ينظّم استفتاءً شعبيا عاما. لكن النتيجة كانت عكس المتوقع إذ أن أحداث العنف وإقامة المتاريس والحرائق والهجمات ضد رجال الشرطة تضاعفت في باريس، خاصة في الحي اللاتيني، وتوسّع بنفس الوقت إطار الإضراب العام. بنفس الوقت حاولت الحكومة أن تُظهر حزمها إذ صرّح وزير الدفاع بيير ميسمير: «إن الدبابات ترابط في ساتوري وهي جاهزة للتحرك».


أدرك الجنرال ديغول من خلال ردود الأفعال على اقتراح الاستفتاء العام أنه أخطأ الهدف. لقد اعترته حالة من القلق، وينقل المؤلف على لسان مستشاره جاك فوكار قوله له: «كان كل منهم يريد المساومة وقد أحاط نفسه بأساتذة ورؤساء جامعات ومستشارين من كل نوع كانوا يريدون في الواقع استمرار الحال على ما هو عليه. والنتيجة هي كما ترى، انفجر كل شيء فجأة لأنه ليس لدي رجال دولة وليس لدي حكومة».


كذلك قال الجنرال لوزير ماليته آنذاك ميشيل دوبريه: «لا أتمنى أن يحظى الاستفتاء بموافقة أغلبية الفرنسيين. ذلك أن فرنسا والعالم في وضع لم يعد هناك ما يمكن فعله حياله. وأمام الشهيات المفتوحة والتطلعات وأمام واقع أن جميع المجتمعات غير راضية عن نفسها لا يمكن فعل أي شيء. إن العالم كله مثل نهر لا يريد لمجراه أن يواجه أية عقبة. ولم يعد لي ما أفعله وبالتالي عليّ أن أرحل، ومن أجل أن أرحل ليس أمامي أية صيغة سوى أن أجعل الشعب الفرنسي يقرر بنفسه مصيره».


أما فيليب ديغول، الضابط آنذاك والأميرال لاحقا، فقد قال لوالديه أثناء اللقاء حول مائدة طعام عائلية: «لقد لاحظت البرود على الرسميين الذين قابلتهم عند مدخل الإليزيه بل وقد أشاحوا بنظرهم عني. وقد أخبرني البعض أن بعض الوزراء والموظفين الكبار أو حتى مستشاري الرئيس قد تركوا مراكزهم ولم يعد الاتصال بهم ممكنا حتى بواسطة الهاتف».


فقالت له والدته السيدة ايفون: «لقد رأينا أشياء أخرى كثيرة من هذا النوع بل ما هو أسوأ، لكنني لن أخفي عنك أننا ننام بشكل سيء». وفي مثل ذلك السياق التقى الجنرال ديغول بابنه فيليب بانفراد ولم يعرف أحد ما دار بينهما. وهنا ينقل المؤلف عن الابن قوله فيما بعد في مذكراته عن أبيه أن الجنرال كرر أيضا القول: «لم تعد لي سلطة على أحد.


ولقد فقدت عمليا السيطرة على الحكومة. بومبيدو يترك الأمور تتعفّن... فإلى متى؟ ويقول الابن فيليب أنه «أثار» أباه عن قصد عندما قال له: «ينبغي أن تدرك أن حكمك قد انتهى، وأن الفرنسيين لم يعودوا يريدونك». بل إنه دفعه لترك باريس التي أصبحت «فخّا». وفي هذا الإطار من الحديث جرى الاتفاق أن يذهب الجنرال «سرّا» للقاء الجنرال «ماسو»، قائد القوات الفرنسية المتواجدة في ألمانيا والذي قاد القوات الفرنسية أثناء حرب السويس 1956. وكان متواجدا في «بادن بادن». كان ذلك أحد الأسرار التي ضمتها جدران قصر الإليزيه.


وقبل أن يسافر الجنرال اتصل هاتفيا برئيس وزرائه جورج بومبيدو. كان باردا معه وقد قال له فجأة: «أنا عجوز وأنت شاب وأنت المستقبل». غادر الجنرال القصر برفقة زوجته على متن إحدى الطائرات. كان الجميع يعتقدون أنه ذهب للاستراحة في عطلة نهاية الأسبوع ببلدته «كولومبي». لكن الطائرة لم تحط هناك، وانفقد كل أثر لها. لقد اختفى الجنرال ووقع الجميع في حيرة و«ارتجفت فرنسا خوفا».


عاد الجنرال بعد غياب يومين فقط حيث كانت الحكومة تنتظره بكامل أعضائها في قصر الإليزيه. لقد أخبرهم أنه «اتخذ قراراته» وأنه سيكمل فترته الرئاسية ولن يغيّر الحكومة إنما سوف يحل البرلمان. ولن يسمح لمشروع شمولي «توتاليتاري» بمنع البلاد من العيش بشكل طبيعي. قرأ الجنرال نداءه عبر الإذاعة وما أن لفظ الجملة الأخيرة: «كلاّ إن الجمهورية لن تمت» حتى اجتاح المتظاهرون بالآلاف جادة الشانزيليزيه وهم يهتفون «عاش ديغول».


وبتاريخ 27 أبريل 1969 اقترع الفرنسيون باستفتاء شعبي حول زيادة دور المحافظات وإصلاح مجلس الشيوخ. ولم تؤيد نسبة 4,56 بالمائة ذلك المشروع. وفيما بعد منتصف الليل بقليل، أي في الساعات الأولى من يوم 28 أبريل 1969 نشرت وكالة الصحافة الفرنسية تصريحا بسطرين جاء فيه: «أتوقف عن ممارسة مهام وظيفتي كرئيس للجمهورية... يتم تنفيذ هذا القرار اعتبارا من ظهر اليوم. التوقيع: شارل ديغول».


عرض ومناقشة: محمد مخلوف