نـصْحٌ قرآنيّ بهيّ .. إلى صنّاع الربيع العربيّ


{ ولا تهنوا}

عني الشارع الحكيم بكتائب الحق المجاهدة أيما عناية , ولا أدلّ على ذلك من أنه واكب مسيرتها بالتوجيه والرعاية ، في خضمّ منازلتها ومقارعتها لأهل الضلالة والغواية ، حتى إذا ما احتدم الصراع ضربت عليهم من مولاهم الولاية ؛ إذ جاءت التوجيهات الربانية العليّة لتشد من عزائمهم وتذكي هممهم، على طريق بلوغ الغاية ؛ غاية إعزاز الدين ونصرته ، ودحر الباطل وكسر شوكته ، وإنقاذ البلاد والعباد من براثن الطغيان والفساد ، حتى إذا ما شارفت الجولة الجهاديّة على النهاية ، طالعتها التوجيهات القرآنيّة لتنوّر طريقها وتحوطها بالنصح والهداية .
وتفصيل ذلك : أن كتاب الله المجيد قد حمل بين طيّاته للشعوب المجاهدة جملة من النصوص تنهاهم عن وهن مخصوص ؛ فكان أن نهتهم عن الوهن قبل نشوب المنازلة مع الباطل وأشياعه وفي خضم هذه المنازلة وعقب انجلاء غبارها ، وساقت مع كل نهي مسوغاته ، ووضحت مقتضياته؛
فأما النهي عن الوهن قبل المنازلة فأفصح عنه قوله تعالى : (ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليماً حكيماً) [ سورة النساء 104 ] .
أي ( لا تضعفوا ولا تتوانوا في طلب الكفار) [ الرازي 6/31 بل جدّوا فيهم واقعدوا لهم كل مرصد [ ابن كثير 2/403 ] مُبيّنا مسوغات هذا النهي بأن حصول الألم قدر مشترك بينكم وبينهم(إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون) أي (فكما يصيبكم الجراح والقتل فكذلك يحصل لهم) [ تفسير ابن كثير 2/403 ] .
ومن مسوغاته أيضا قوله (وترجون من الله ما لا يرجون) أي (رجاء الشهادة إن قتلوا ورجاء ظهور دينه على أيديهم إذا انتصروا ورجاء الثواب في الأحوال كلها) [ تفسير ابن عاشور 5/190 وعليه (فأنتم أحقّ بالصبر منهم وأولى بعدم الضعف منهم، فإن أنفسكم قوية لأنها ترى الموت مَغنما، وهم يرونه مغرما) [ فتح القدير للشوكاني 1/650 ]،قال السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية: (لا تضعفوا ولا تكسلوا في ابتغاء عدوكم من الكفار ، أي في جهادهم والمرابطة على ذلك، فإن وهن القلب مُستدع لوهن البدن، وذلك يُضعف عن مقاومة الأعداء، بل كونوا أقوياء نشيطين في مقاومتهم ... فليس من المروءة الإنسانية والشهامة الإسلامية أن تكونوا أضعف منهم ، وأنتم وإياهم قد تساويتم فيما يوجب ذلك، لأن العادة الجارية أنه لا يضعف إلا من توالت عليه الآلام، وانتصر عليه الأعداء على الدوام، لا من يُدال مرة ويُدال عليه أخرى) [ تفسير السعدي ص199 ] . والمؤمنون إنما ( يتوجهون إلى الله بجهادهم ، ويرتقبون عنده جزاءهم ، فأما الكفار فهم ضائعون مضيّعون ، لا يتوجهون لله ، ولا يرتقبون عنده شيئا في الحياة ولا بعد الحياة ، فإذا أصرّ الكفار على المعركة ، فما أجدر المؤمنين أن يكونوا هم أشد إصرارا، وإذا احتمل الكفار آلامها ، فما أجدر المؤمنين بالصبر على ما ينالهم من آلام .
ولقد كان هذا التوجيه في معركة مكشوفة متكافئة ، معركة يألم فيها المتقاتلون من الفريقين ، لأن كلا الفريقين يحمل سلاحه ويقاتل ، ولربما أتت على العصبة المؤمنة فترة لا تكون فيها معركة مكشوفة متكافئة ، ولكن القاعدة لا تتغير ، فالباطل لا يكون بعافية أبدا ، حتى ولو كان غالبا ! انه يلاقي الآلام من داخله ، من تناقضه الداخلي ؛ ومن صراعه بعضه مع بعض ، ومن صراعه هو مع فطرة الأشياء وطبائع الأشياء ، وسبيل العصبة المؤمنة حينئذ أن تحتمل ولا تنهار ، وأن تعلم أنها إن كانت تألم فإن عدوها كذلك يألم ، والألم أنواع ، والقرح ألوان (وترجون من الله ما لا يرجون) وهذا هو العزاء العميق ، وهذا هو مفرق الطريق (وكان الله عليماً حكيماً) يعلم كيف تعتلج المشاعر في القلوب ، ويصف للنفس ما يطب لها من الألم والقرح .
وأما النهي عن الوهن في خضمّ المعركة فجسّده قوله تعالى: (فلا تهنوا وتدعوا الى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم)[ سورة محمد 35 ]، قال قتادة رحمه الله تعالى: (لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت لصاحبتها ودعتها إلى الموادعة) [ تفسير الطبري 26/63 ] فقد نهاهم عز وجل عن إسلام أنفسهم لخواطر الضعف، والعمل بهذا النهي يكون باستحضار مساوئ تلك الخواطر، فإن الخواطر الشريرة إذا لم تقاومها همّة الإنسان دبّت في نفسه رويدا رويدا حتى تتمكن منها فتصبح ملكة وسجية، فالمعنى : ادفعوا عن أنفسكم خواطر الوهن واجتنبوا مظاهرها التي أولها الدعاء إلى السّلم فهو المقصود بالنهي، قوله (وتدعوا إلى السلم) من باب عطف الخاص على العام ، وقد خُصّ بالذِّكر لئلا يُظنّ أن فيه مصلحة استبقاء النفوس والعدة بالاستراحة من العدوان على المسلمين ، فذلك يعود عليهم بالمعرة والمضرة لأنه يحطّ من شوكتهم في نظر المشركين فيحسبونهم طلبوا السلم عن ضُعف، فيزيدهم ذلك ضراوة عليهم ويُستخف بهم بعد أن أخذوا من قلوب عدّوهم مكان الحرمة وموقع البأس، فلهذا المقصد الدقيق جمع بين النهي عن الوهن والدعاء إلى السلم .[ انظر تفسير ابن عاشور26/131 ]قوله: (وأنتم الأعلون) أي (وأنتم الغالبون آخر الأمر وإن غلبوكم في بعض الأوقات وقهروكم في بعض الحروب) [ تفسير الطبري 26/64 ] قوله:(والله معكم) أي بالعَوْن والنصر والتأييد وذلك مُوجب لقوة قلوبهم وإقدامهم على عدوهم، (ولن يتركم أعمالكم) قال مجاهد: ( ولن ينقصكم ) [ الطبري 26/64 ]، وهذا يقتضي أن (لا تضعفوا عن قتال عدوكم ويستولي عليكم الخوف بل اصبروا واثبتوا ووطنوا أنفسكم على القتال والجلاد طلبا لمرضاة ربكم ونصحا للإسلام وإغضابا للشيطان، ولا تدعوا إلى المسالمة والمتاركة بينكم وبين أعدائكم طلبا للراحة والحال أنكم أنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم أي ينقصكم أعمالكم، فهذه الأمور الثلاثة كلّ منها مُقتضٍ للصبر وعدم الوهن) [ تفسير السعدي 790 ] .
وأما النهي عن الوهن في أعقاب المعركة فقد بيّنه قوله تعالى:(ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) [ سورة آل عمران 139]، قال السعدي رحمه الله تعالى: (ولا تهنوا وتضعفوا في أبدانكم ولا تحزنوا في قلوبكم عندما أصابتكم المصيبة وابتليتم بهذه البلوى ، فإن الحزن في القلوب والوهن في الأبدان زيادة مصيبة عليكم وعون لعدوكم عليكم بل شجعوا قلوبكم وصبّروها وادفعوا عنها الحزن وتصلّبوا) [ تفسير السعدي ص150 ]، ذلك أن (الوهن يورث خور العزيمة وضعف الإرادة وانقلاب الرجاء يأساً والشجاعة جبنا واليقين شكا ولذلك نُهوا عنه ، وأما الحزن فهو شدة الأسف البالغة حدّ الكآبة والانكسار ، والوهن والحزن حالتان للنفس تنشآن عن اعتقاد الخيبة والرزء فيترتب عليهما الاستسلام وترك المقاومة). [ تفسير ابن عاشور 4/98 ]، ثم بيّن المولى جلّ شأنه سبعة مسوغات لهذا النهي ؛
(أولها ) قوله: (وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) فتلك (بشارة لهم بالنصر في المستقبل فالعلو هنا علو مجازي وهو علو المنزلة ، والتعليق بالشرط في قوله(إن كنتم مؤمنين) قُصد به تهييج غيرتهم على الإيمان، إذ قد علم الله أنهم مؤمنون ولكنهم لما لاح عليهم الوهن والحزن من الغلبة كانوا بمنزلة من ضعف يقينه فقيل لهم: إن علمتم من أنفسكم الإيمان ) [ تفسير ابن عاشور 4/99 ].
و(ثانيها) قوله تعالى: (إن يمسسكم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله) أي فأنتم وإياهم قد تساويتم في القرح ولكنكم ترجون من الله ما لا يرجون، فتلك تسلية لما حصل لهم من الهزيمة.
و(ثالثها) قوله تعالى: (وتلك الايامُ نداولها بين الناس) أي: ( نديل عليكم الأعداء تارة وإن كانت العاقبة لكم لِما لنا في ذلك من الحِكم) [ تفسير ابن كثير 2/127] .
و(رابعها):(وليعلم الله الذين آمنوا) فمن الحِكم أنه يبتلي عباده بالهزيمة والابتلاء ليتبين المؤمن من المنافق ، لأنه لو استمر النصر للمؤمنين في جميع الوقائع لدخل في الإسلام من لا يريده ولآنخرط في صفوف العصبة المجاهدة من لا يريد لها سوى الخبال وسوء العقبى والمآل.
و(خامسها) قوله: (ويتخذ منكم شهداء) يعني يُقتلون في سبيله ويبذلون مُهَجهم في مرضاته ذلك أنّ (الشهادة أرفع المنازل ولا سبيل لنيلها إلا بما يحصل من وجود أسبابها، فهذا من رحمته بعباده المؤمنين؛ أن قيّض لهم من الأسباب ما تكرهه النفوس لينيلهم ما يحبّون من المنازل العالية والنعيم المقيم) [ تفسير السعدي ص150 ] .
و(سادسها)(وليمحص الله الذين آمنوا) والتمحيص ( درجة بعد الفرز والتمييز، التمحيص عملية تتم في داخل النفس، وفي مكنون الضمير..إنها عملية كشف لمكنونات الشخصية ، وتسليط الضوء على هذه المكنونات تمهيدا لإخراج الدخل والدغل والأوشاب ، وتركها نقية واضحة مستقرة على الحق ، بلا غبش ولا ضباب ) [ في ظلال القرآن 1/482] والتمحيص طريق لمغفرة الذنوب وستر العيوب ورفع الدرجات عند علام الغيوب .
و(سابعها )(ويمحق الكافرين)أي (يستأصلهم بالهلاك، وأصل التمحيق محو الآثار والمحق نقصها) [ فتح القدير للشوكاني 1/488 ] .
وكون غلبة الكافرين في جولة مَبْعث مَحْقٍ لهم ، ذلك (أنهم إذا ظفروا بغوا وبطروا فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ومحقهم وفنائهم ) [ تفسير ابن كثير 2/127 ] وذلك كله يقتضي من المجاهدين في قلب المعركة الثبات والجلد أمام الأوغاد ليلتقي الجميع على شعار (إنه جهاد نصر أو استشهاد).
في ضوء ذلك امتدح الشارع الحكيم ثلة من الرّبيين المجاهدين أتباع النبيين حين نفضوا عن أنفسهم الوهن في تلك المقامات الآنفة الذكر فقال جل شأنه(وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثيرٌ فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين) [ سورة آل عمران 146 ] فالمراد بالوهن هنا ( قلة القدرة على العمل وعلى النهوض في الأمر، والضعف : ضد القوة في البدن ، وهما هنا مجازان ؛ فالأول أقرب إلى خور العزيمة ودبيب اليأس في النفوس والفكر، والثاني أقرب إلى الاستسلام والفشل في المقاومة ، وأما الاستكانة فهي الخضوع والمذلة للعدو ، ومن اللطائف ترتيبها في الذكر حسب ترتيبها في الحصول ؛ فانه إذا خارت العزيمة فشلت الأعضاء وجاء الاستسلام فتبعته المذلة والخضوع للعدو) [ ابن عاشور 4/119،118 ] هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد .