مصطفى محمد غريب
في المقدمة ليس دفاعاً عن الاتحاد السوفيتي السابق فهناك العديد من المآخذ على أوضاعه الأخيرة وبخاصة بعد أن أصبح القادة فوق حزب الطبقة العاملة شغيلة اليد والفكر والذي أطلقوا عليه بعد ذلك حزب الشعب بأجمعه لكن ما يؤسف له أصبح هذا الحزب فوق الطبقة العاملة وفوق الشعب وتفشت البيروقراطية والمحسوبية والانحراف عن المبادئ التي كانت قد حددت لبناء الاشتراكية ومن بينها النهج الديمقراطي فضلاً عن تخليه عن مبادئ التضامن الأممي، وعند قول الحقيقة لا يعني التحيز أو نكران الأخطاء والمثالب التي رافقت عملية بناء الدولة السوفيتية وبخاصة بعد الحرب العالمية الثانية.
على ما يبدو أن الزعماء الروس الجدد وفي مقدمتهم فلاديمير بوتين الذي شبهته “براسبوتين ذلك الدجال المعروف في تاريخ روسيا القيصرية” مازالوا يعتقدون أنهم يستطيعون خداع أكثرية الشعب الروسي مثلما فعلوا سابقاً بحجة الحريات والديمقراطية والرفاهية الرأسمالية لكن فاتهم أن الحياة لايمكن أن تتوقف وبديمومتها البشرية ستجد الحقيقة عاجلاً أم آجلاً، وأن الصحيح هو الذي تزكيه الحياة، كما أن الصراع الجاري في المجتمع الروسي لا يمكن إنهائه بقرارات رسمية وفوقية وإن ابتكروا قضية عودة فلاديمير بوتين بشكل لا أخلاق فيه، وهنا لابد أن أٌنوه لمهزلة إعادة انتخاب فلاديمير بوتين لرئاسة الجمهورية بعد ولايتين متتاليتين بين (2000 و 2008) للمرة الثالثة بعد أن تولى رئاسة الوزراء في مسرحية مكشوفة، والمتابع لحيثيات هذا الترشيح سيجد أن هؤلاء الزعماء البائسين لا يختلفون إلا بأشكالهم عن أي دكتاتور أو متسلط اعتمد التزوير والتلاعب والتجاوز تحت يافطة وسخة يسميها الديمقراطية، وعملية عودة فلاديمير بوتين المهزلة دليل ليس على الاستهانة بالشعب الروسي فحسب بل لكل من رفع ويرفع صوته بتأييد ديمقراطية العهد الجديد وبخاصة بعدما وضع قبل مجيئه بيدق الشطرنج ديمتري مدفيديف كرئيس لروسيا الذي كان عبارة عن ممثل فاشل سرعان ما ظهر ضعفه وتبعيته لبوتين، هذه الحركة المكشوفة جعلتنا نتيقن إن ما جرى في روسيا بعد تسلط ليتسن وهيمنة الفساد عن طريق اللصوص الرأسماليين الجدد وانتشار المافيا السياسية لم يكن تغيراً نحو الأحسن مثلما طبلت له وسائل الإعلام الغربية والإدارة الأمريكية والكثير من الدول الأوربية بما فيها قوى الردة في أوربا الشرقية أو حتى أحزاب تدعي الثورية بل في حقيقة الأمر تراجعاً نحو الأسوأ الذي لم يسلم منه أي شيء لا السياسة ولا الاقتصاد ولا الاجتماع ولا الثقافة ولا التربية والتعليم.. الخ كل شيء أصبح مباحاً أمام جشع الرأسماليين وفلاديمير بوتين ورهطه بحجة كاذبة إعادة روسيا القوية إلى موقعها الحقيقي لتكون نداً قوياً أمام التحديات التي تجابها مراهنين على سباق التسليح ومساندة الحكومات الدكتاتورية التي تبطش بشعبها، فأين الموقف من معاهدة وارسو وحلف الناتو وقضية السلام، إذن لم يكن التغيير كما أعلن عنه تغييراً لصالح الشعب الذي لم يكن فيه عاطلاً واحداً ولم تكن هناك مساعدات اجتماعية للعاطلين عن العمل مثل “ناقوط الحِبْ” مثلما هو الحال في الدول الغربية فالكل يعمل ومن لا يعمل يحاسب قانونياً ولم يكن هناك طفلاً بدون حضانة أو روض للأطفال أو طالباً بدون مقعد دراسي في الابتدائي وحتى الجامعة وكان هناك نظام صحي مجاني ليس له مثيل في أكثرية الدول الرأسمالية الصناعية المتطورة وليس هناك إنساناً أو عائلة تسكن الشوارع والمجاري مثلما هو الحال الآن في العديد من دول أوربا الشرقية وحتى الولايات المتحدة الأمريكية، ولم يكن هناك بغاء رسمي محمي بالقانون أو أماكن للدعارة والمقامرة، لم تكن هناك مافيا تجوب الشوارع ومناطق السكن للاعتداء وإخافة المواطنين للحصول على الأموال بطرق مختلفة، علاوة على تصدير الرقيق الجنسي وتهريب المخدرات وانتشارها مثلما نراه في الوقت الحاضر وقد ينبري احدهم فيسأل:
ـ أين كانت الحريات بما فيها حرية الرأي في وجود النظام الشمولي السابق؟ نجيب أن ذلك الخطأ الكبير الذي كان من أحد الأسباب إضافة إلى أسباب أخرى ذاتية وموضوعية في ذلك التفكك الذي شهده العالم.
نعم يذكرنا ما آلت إليها الأوضاع الجديدة في روسيا الإمبريالية التي تلهث خلف الأسواق في الوقت الراهن ويذكرنا بتلك الحملات الدعائية الأمريكية والأوربية الغربية التي كانت تساق حول الدكتاتورية ومصادرة حقوق الشعب في الحرية واحترام الرأي الآخر وحقوق الإنسان في الاتحاد السوفيتي السابق، هذا التذكير جعلني أدقق في السنوات التي تلت تفكك الاتحاد السوفيتي وتشكيل الدول على أساس قومي بما فيها روسيا الاتحادية فوجدنا أن لا حريات ولا ديمقراطية حقيقية كما كانوا يصورونها للناس ولا كرامة للمواطن العادي بل هي كرامة المافيا اللصوصية والرأسماليين الجدد الذين استغلوا كل شيء حتى وضع ضمائرهم في البورصة، لا ديمقراطية ولا سلام اجتماعي مثلما كانوا يعدون شعوب الاتحاد السوفيتي وقد شاهدنا الحروب التي اندلعت وآخرها الحرب التي شنتها روسيا بالضد من جورجيا.
لقد شاهدنا منذ البداية قصف دبابات العهد الديمقراطي الجديد للبرلمان الروسي والاعتصام والاحتجاج السلمي في زمن السكير ليتسن وتسريح عشرات الآلاف من العمال والموظفين وغيرهم وتأخير رواتب وأجور مئات الآلاف من الروس لشهور عدة وذلك عندما بدأت القوى الطفيلية بدفع عجلة الاقتصاد إلى اقتصاد السوق وتنفيذ الخصخصة ببيع قطاع الدولة الاقتصادية والصناعية والثقافية وبعدما كان باستطاعة أكثرية المواطنين الروس شراء أي شيء يطرح في السوق أصبحوا غير قادرين على تأمين لقمة عيشهم إلا بالمشقة لأن النقود صارت تتحكم فيهم وفي حياتهم فاضطر أكثرهم للعمل الرخيص حتى أن الكثير منهم اخذوا ببيع ما جنوه في العهد السوفيتي بأرخص الأثمان كي يحصلوا على النقود.
لقد كشفت وقائع الانتخابات الأخيرة الكم الهائل من الخداع والتزوير ولمجرد خروج المحتجين على التزوير بشكل سلمي والمطالبة بإعادتها حتى قامت الشرطة البوتينية الديمقراطية!! بالتدخل وفضهم بالقوة فضلاً عن الاعتقالات التي نالت العشرات منهم إلا أن ذلك وبالرغم من تهديد رئيس الوزراء بوتين “بالقمع” لم يثن من عزيمة عشرات الآلاف من المواطنين وفي العديد من المدن الروسية مطالبين بإعادة الانتخابات المزورة لأنها حسب صراخهم “أنها باطلة” وقد شهدت حوالي (90) مدينة روسية بما فيها العاصمة موسكو احتجاجات واسعة، وقد أشار العديد من المراقبين أن هذه الاحتجاجات والمظاهرات لم تشهدها روسيا منذ حوالي (20) عاماً وما زاد الطين بلّة عندما أشارت بعثة المراقبة الدولية بكل صراحة “أن الانتخابات البرلمانية الروسية تميل بنحو غير نزيه لصالح الحزب الحاكم الذي ينتمي له رئيس الوزراء بوتين” وقد فضح العديد من المنظمات الحيادية والمراقبين من أوربا ومن البرلمان الأوربي بأن الانتخابات افتقرت إلى النزاهة وأعلنوا عن وجود صناديق “اقتراع محشوة بأوراق مزورة” وكالعادة ومثل أي حاكم مزور وغشاش اتهم بوتين بأن هناك تدخلات خارجية وبالذات حلفائه السابقين في الولايات المتحدة الأمريكية وهدد بمعاقبتهم “نحن مُلزمون بالدفاع عن سيادتنا، وعلينا أن نفكر في تشديد العقوبة ضد مَن ينفذ مهام دول أجنبية للتأثير على العمليات السياسية الداخلية” وبهذه اللعبة قام بتحشيد عسكري وأمني لإرهاب المحتجين ومن ثم استمرت الاعتقالات بالضد من رموز وقادة الاحتجاجات ثم جرت إقالة رئيس اللجنة المركزية للانتخابات فلاديمير تشوروف ولأول مرة يبدو أن الرئيس الأخير للاتحاد السوفيتي ميخائيل غورباتشوف قد خرج من قمقمه الذي اتفق عليه مع السكير يلتسن واتهم بوتين بتزوير الانتخابات وقال عنها “كذبة لن تجد من يصدقها” وطالب الرئيس الدمية ديمتري مدفيديف وبوتين بإعادتها وحذرهما أن ذلك الحراك الشعبي الواسع لن يتوقف كما يتصورون، وعلى الرغم من الانتقادات الواسعة وتزعزع الثقة بين الشعب الروسي والمطالبة بتصحيح الأخطاء والاعتراف بها لتلافي مزيداً من الاحتقان الشعبي فقد صدرت الأوامر من زعماء الكرملين إلى قوات مكافحة الشغب وبدعم من وحدات الجيش إلى إغلاق ساحة النصر في موسكو لمنع المتظاهرين من الاستمرار في المظاهرات، وألقي القبض على العشرات واتسعت الاعتقالات لتشمل مدن أخرى مثل سنت بيترسبرغ وفلاديفوستوك وبطرسبورغ وموسكو وفي سبيريا وغيرهم من المدن حيث رفع المتظاهرون لافتات كتب عليها “الغوا نتائج الانتخابات” و”المزورون إلى السجن” وطالب عشرات الآلاف من المتظاهرين بالإلغاء واتهموا الحزب الحاكم الذي يترأسه فلاديمير بوتين بتزويرها لكي يعود بوتين للمرة الثالثة إلى رئاسة جمهورية روسيا في لعبة مثيرة للسخرية والتهكم بعدما ابتعد عنها إلى رئاسة الوزراء إلا أن عيناه كانتا عليها طوال فترة الرئيس الحالي ديمتري مدفيديف الذي كان مجرد ظلاً لبوتين على كرسي رئاسة الجمهورية.
إن جمهورية روسيا الاتحادية اليوم لم تصبح ذلك المثال الجميل الذي حاول الغرب وأمريكا تصويره بعد تفكك الاتحاد السوفيتي بل بالعكس فقد انتقلت الأوضاع إلى الأسوأ على الرغم من الوعود التي طرحها ممثلو النظام الرأسمالي الجديد، فالمقارنات التي قام بها مختصون محايدون توضحُ أن البطالة سمة ظاهرة كبيرة ومستمرة والفقر ازداد بعشرات المرات عن السابق والجريمة تكاد أن تكون زاد يومي تحصد حياة المواطنين، وانتشار المخدرات والبغاء والمافيا ضرب اطنابه في كل المدن الروسية تقريباً، وبعدما تحججوا بالحريات المدنية والشخصية فهي اليوم لا تحسد عليه فالويل لأية معارضة ونحن نتذكر عدد الاغتيالات ضد المعارضين والصحافيين، والآفات الاجتماعية تكاد تلمسها في كل مكان والفساد والسرقات قائمة على قدم وساق.
ـ فأين الحريات الموعودة ؟
ـ وأين الرفاهية التي طبل لها؟
ـ وأين تلك الإشاعات التي كانوا يطلقونها بأن أي شخص يستطيع أن يكون غنياً إذا تبدلت الأوضاع؟
ـ وأين أحلام الأفلام الأمريكية والدعاية الغربية بالفردوس الرأسمالي الموعود؟
لكن والحقيقة تقال أنها حريات للرأسماليين الجدد الذين ظهروا بلمح البصر وأن الرفاهية هي من حصتهم بالاستيلاء على الأموال بطرق مافيوية والاستيلاء على عشرات المرافق الصناعية والاقتصادية والزراعية ويبدو أن المواطن الروسي بدأ يشعر بما آلت عليه الأوضاع ولهذا أصبح صوته هادراً في الشارع ولسنا متفائلين بالإصلاح وإعادة الانتخابات لكن ذلك لن يمر بسهولة فهناك الكثير من التداعيات ستحدث وقد تكون وبالاً على المزورين وقادة الحزب الحاكم.. لننتظر وسنرى!
ـــــــــــــديمقراطية راسبوتين بوتين والانتخابات الروسية الأخيرة