قصة قصيرة (5) قالت لي حواء......................!
قحطـان فؤاد الخطيب / العراق

جمعتني بها ظروف استثنائية ، في أحد المنتجعات الفخمة . كانت فارعة الطول ، ممشوقة القوام ، حسناء ، صارخة الجمال يغار منها حتى القمر . شعرها صنوبري يوحي ، عن بعد ، بأنه ليس طبيعيا ، انساب بدلال على وجهها الفاتن ، بخصلتين جذابتين توحيان وكأنها مراهقة شديدة الغرور بأنوثتها المتقدة !

من طراز ثوبها أدركت بأنها من بنات الذوات ، تعوم على خزين طافح بالأموال . ومن طريقة جلوسها على المصطبة تلمست بأنها مفرطة بالرومانسية ، استقرت نظاراتها الشمسية الحديثة بشفافية فوق مجلاتها الأجنبية ، فيما رقد زوج مضرب التنس على شمالها. كانت عيناها العسليتان تبعثان برسالة وكأن لسان حالهما يريد أن يقول وبسابق إصرار وبعناد أنثوي :

"
أريد أن أكلمــــــــــك ! "

كنت مجرد موظف بسيط في دائرة حجز البيوت السياحية . وتزامن وجود مكتبي السياحي الصغير أمام بيتها الذي استؤجر من قبلنا قبل بضعة أيام ، حيث تعرفت عليها. فأنا أعزب لا أستطيع استضافة أحد ولا أسمح لنفسي أن يستضيفني أحد . والسياح ، عموما ، اجتماعيون يستسهلـــون تكوين علاقات وصداقات بلمح البصر !

ترددت كثيرا في مد الجسور معها خشية الانجرار وراء ما لا تحمد عقباه . فنحن المنتسبون للسياحة مطالبون بتقديم أفضل الخدمات للزبائن وليس الانخراط بصداقات تعود بالضرر على العمل .

خرج أهلها ، كعادتهم كل يوم قبل فترة ، بمركبتهم الفارهة للتجوال بين الجبال والسهول والوديان ، حيث تنتشر ينابيع الماء هنا وهناك ، ونسمات الهواء العليل تسحر النفوس والأبدان...... وزقزقة العصافير ، وهديل الحمام ، وأنغام طيور الحب تجبر الناس على أن يسموا ويحلقوا عاليا في سماء الأحلام والخيال والتأملات ! المنتجعات ، وما أدراك ما المنتجعات ، ....... فردوس متكامل لكل ما تصبو له النفس المرهفة بالحس ،....... عالم خلاب لا تمارس فيه لغة سـوى لغـة الصدق والبراءة والعفوية والاستمتاع . حيثما نظرت تنبهر بالأشجار المعمرة ، وكيفما تحركت ينعشك الكلوروفيل المشاع في كل مكان ، مجددا نشاطك وحيويتك بعيدا عن الرتابة والتشاؤم والإحباط ، حيث تستمتع بالماء والخضراء والوجه الحسن!!!

"أريد علبة كبريت من فضلـك . " قالتهـــا السائحة بنبرة شجية تثير الفضول وتطرب الأذن!

"ليس لدي ما تطلبين !" أجبتها وقد أحسست للتو بذنب كبير في قرارة نفسي لسلبية الرد. ومع هذا.... تلاقت عيوننا من غير سابق ميعاد ، وعطرها الباريسي ما انفك يقتحم المكتب الصغير بعنفوان . تراجعت قليلا كي أعتذر... ولكن ، دفعني الفضول كي أستفسر منها لأي غرض تحتاجين علبة كبريت ؟!

"كي أشعل سيجارتي ....... هل تدخن ؟"

"كلا. شكرا ."

لم تجر الرياح بما تشتهي السفن ، إذ أن المشهد الميلودرامي ، وفي بحر ثوان أحالني إلى أسير سلوكها المتقد أنوثة وفتنة ، ونبرات صوتها الناعمة ...... خلتها حورية بمواصفات حواء ! بت أحس وكأنني لم ألتق بسائحة قط ! شعرت وكأنني في مجال مغناطيسي محكم لا فكاك منه إلا رفع الراية البيضاء!

عادت أدراجها وفي جعبتها ثمة شيء ما تريد البوح به . كانت السيجارة في فمها دون إشعال ، وقبعتها البيضاء تغطي ربع رأسها مما زادها جمالا وجاذبية . كانت وحيدة ومرتبكة ، تضرب أخماســا بأسداس . لا شك هناك شيء ما فعلا كان يدور في خلدها وتجهل طريقة التعبير عنه أو تتجاهله . حركاتها امتصت كل طاقتي بحيث لم أستطع تسيير أمور المكتب بصورة طبيعية كما ألفت، وأحسست بشبه شلل تام ! فقمت بوضع يدي على وجهي أروم فك رموز تلك الحسناء . أضحى يومي ليس كباقي الأيام وامتنعت عن تناول الغداء والعشاء في أوقاتها الاعتيادية بشكل لا شعوري . اضطرب جدول أعمالي الوظيفي والحياتي لسبب أجهله . أما نومي فحدث ولا حرج . لم أذق طعم النوم . وقررت مراجعة طبيب المجمع السياحي كي أقف على دقائق الحالة الغريبة التي انتابتني مؤخرا.

في الصباح التالي جلبت لي كعكا وقالت ، بلا تحفظ ، وكأننا أصحاب منذ فترة ليست بالقصيرة !

"أنا أعددته بنفسي . وأرجو أن ينال رضاك ." ثم جلست على كرسي وفتحت علبة سيجايرها وأخرجت سيجارة واحدة وأشعلتها وسحبت نفسـا عميقـا ثم نفثت الدخان من منخريها وكأنها من مدمنات التدخين !

لشدة انفعالي مما عانيت اليوم الماضي ، اعتذرت عن قبول الكعك مدعيا بأنني لا أميل إلى المعجنات بكل أصنافها . وهنا خامرني شعور أليم لذلك التهور السقيم في الرد عليها سلبا وللمرة الثانية ، مع غياب اللجوء إلى الأساليب الدبلوماسية التي تعلمتها في معهد السياحة! ويبدو أنني أردت إثبات فحولتي وأنا في بداية المشوار!

"أترد هدية سيدة وأنت في منتجع !"
فجأة قفز إلى ذهني سؤال ساذج :"هل أنت سيدة أم آنسة ؟"
احسبها كما تريد............ لماذا السؤال ؟

تلعثم وتصبب العرق من جبينه رغم عمل مكيف الهواء . وتمنى لو أنها عرفت ما عانى أمس من اضطراب بسببها ! ونسي أنه موظف منضبط لا تستطيع أية سائحة احتوائه مهما كانت المغريات ! نسي كل الأنظمة والتعليمات والقوانين بجرة قلم ، فهو أمام طراز فريد من البنات !

"كنت سيدة."

تعجبت من صراحتها العفوية وقلت " ماذا يعني أنك كنت سيدة ؟"
"أنا ، يا سيدي ، مطلقة قبل 10 أشهر . ولهذا أتيت مع أهلي إلى المنتجع كي أنعم بالمتعة والهدوء بعيدا عن الضجيج والصخب ، وأنت تصدمني برد هديتي المتواضعة!"

شعرت أن خيوطا درامية خفية تطوقني ، وأصبحت ، من حيث لا ادري ، أنني في عالم بعيد عن السياحة . مشاعري كلها انهارت أمام
هذا الجبروت من الفتنة والإثارة . الآن ، أستطيع القول ، وأنا في هذا الأتون الملتهب من العواطف الجياشة أن الولادة الطبيعية للحب وليس القيصرية حدثت!!

أردفت حواء قائلة، بشكل مباشر، ودون تحفظ، وكأنها سيدة أوربية تملك زمام القرار الحاسم بتهور واندفاع:

"أنت، إذن، فارس أحلامي ، شئت أم أبيت!"