سوف أفصح لكم معشر الرجال عن حصادي في مهنة الطب، لا أتحدث عن المال، بل ما هو أثمن، نعم.. فطوال سنوات عملي السابقة بمهنة كثيرا ما كنت أٌستدعى لمناظرة مريض يحتضر في بيته، ولم يكن مطلوباً في تلك الزيارات سوى إسعاف المحتضر أو التحقق من فرصته في النجاة، و أغلبها للتأكد من وفاته، وهنا لاحظت القاسم المشترك في تلك المواقف والذي لم يخرج عن أحد موقفين
*******
المشهد الأول: تجد زوجة المٌحتضر تقف صلبة، مكتوفة الساعدين في أحد أرجاء الغرفة، شأنها كرجل المرور، تنظم الزائرين، وتصدر التعليمات للأبناء بدعوة الأعمام، وتأمر الابن الأكبر بالتوجه للمحل مكان عمل أبيه للسيطرة على الموقف وجمع الأوراق الهامة، بل وقد تصدر تعليماتها بتكليف الحانوتي لتجهيز التربة. كل هذا وهى متماسكة، لا عيناها محتقنة من البكاء، ولا قسمات وجهها تنبئ بمعاناة عاطفية، اللهم بعض الإجهاد من سهر الليالي السابقة للحدث
وتأتي لتسألني: ها يادكتور.. حالته منتهية، موش كده؟ لو في إمكانية لعلاجه، إحنا مستعدين، بس المهم يكون بفايده، وعادة لا تدقق في إجابتي ولا تنتظرها، فهي تكاد تقرر ما يجب أن يكون، وتشير لأحد أبنائها: ياللا ياحمادة.. حاسب الدكتور ووصلة، وقد تتمتم وهي تناظر الزائرين، مسكين أربع سنين بيتعذب، رحمتك يارب
المشهد الآخر: تجد زوجة المحتضر حانية على جسده، وهى تدرك انه منتهي لا محالة، ولكنها لا تسألني عن حالته خوفاً من أن تكون إجابتي مفجعة، وحتى إذا استفسرت، فهي تطرح تساؤلها مغلفاً بالأمل: ممكن يخف يادكتور.. موش كده ياخويا؟ أي مصاريف.. أي دوا إحنا جاهزين، خيره علينا.. على الناس كلها، وتراها تنتحب، ولا تزال تنظف بدن زوجها من فضلاته وتبدل ثيابه، بل وتحجبه عن عيون الزائرين، وتشهدها تتلصص لتختلس الأحضان بينما تبدل ما تبلل من فراشه. والويل كل الويل لمن يلمح بالشروع في أي إجراء يتعلق بتدبير إجراءات النهاية
ظللت أتأمل السيناريو المتشابه في تفاصيل كلا المشهدين، إلا صورة الزوجة، فالأولى تنفست الصعداء بدنو أجله، والأخرى ربما تلحقه بعد أسابيع أو أشهر
*******
أتدرون معشر الرجال أي من النموذجين برفقتك الآن؟
هذا هو حصادك في العلاقة معها طوال سني زواجكما... وأسأل نفسك
هل اعتدت أهنتها أمام أبنائها وأهلها؟
هل كشفت لها الصدفة علاقاتك مع أخرى من خطاب مطوي عدة مرات في محفظتك، أو مكالمة هاتفية نسيت نفسك وأنت تهمس بها لصديقتك، أو وشاية من الجيران أو الأقارب أو زملاء العمل؟
هل تذكر عندما هددتها بالطلاق مقابل إتاحة ميراثها من أبيها لك؟
هل تذكر عندما رأتك قبل عشرين عاماً تتأبط فتاة في شارع قصر النيل؟
*******
قد تغفر المرأة، ولكنها لن تنسى
قد تسايرك، ولكنها لن تقنع
راجع سجلك عزيزي الرجل.. فأنت الوحيد الذي يمكنه تخيل سيناريو النهاية
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 14- التغابن
*******
تكون العلاقة الزوجية في أرفع قيمتها عندما يتوافر عناصر ثلاثة
أولاَ: إدراك كل من الزوجين لقدسية هذه الشراكة
أو دعنا نُسميها المؤسسة الزوجية، وهى بالفعل مؤسسة شراكة قوامها عقد بين طرفين (عقد النكاح)، يجمعهما أهداف مشتركة.. السكن والسكينة وعمارة الأرض، ويشارك كل منهما بحصته في رأس المال، فالزوج يشارك بقوامته أي توليه مقادير الرعاية والإنفاق، والزوجة تشارك بخدمتها وحفظها لمقدرات زوجها وبأمومتها لذريتهما، وشأن بقية الشركات التي تُخضع أنشطتها للحماية وتوثق عقودها أمام السلطات، يوثق الزوجان وأهليهما هذا العقد أمام الحكم الأكبر، والذي يؤشر عليه بخاتم.. ميثاق غليظ.. ليكتسب شرعية تكفي لنقلهما من محنة الحرام إلى منحة الحلال
ثانياَ: الاحترام
ويعنى تقدير ذات الآخر، وليس بالضرورة تعظيمها، فأنت مٌطالب باحترام سائقك دون تفخيم، والشغالة دون تعظيم، والاحترام يعني التسليم بقدر الذات الإنسانية التي أعزها رب العالمين، ولست مٌطالباَ بالتعظيم في أي الأحوال، فهناك من يٌفخم رئيسه، وليس بالضرورة يقدره
ثالثاَ: العطاء
لا يعني العطاء تقديم الهدايا، أو بذخ الإنفاق، وإنما هو سخاء المشاعر، وتذكر أنك عندما كنت حديث العهد بوظيفتك، كنت تُفضل المنح النقدية على التقدير الأدبي بالشهادات والأوسمة، ولكن عندما يتقدم بك السن تتبدل لديك الأولويات فتؤثر التقدير المعنوي وربما تتغاضى عن التقدير المادي، فما بالك بمديري هذه الشركة (الزوجان).. الأحرى أن الزوجة المٌسنة أحوج ما تكون لتقدير زوجها، خاصة وأنها فقدت كل مقومات المنافسة أمام الأخريات في عين زوجها، وبالمثل، يٌصبح الزوج المُسن في أشد الحاجة لحنان الزوجة. وتخبرنا الدراسات الإنسانية أن النفس البشرية تنتكس إلى طفولتها خَلقاَ وخُلقاَ، فترى المُسن يشبه الطفل.. بلا أسنان، لا يتحكم في مخرجاته، يحنو ويحبو على أربع، وتضٌمر قواه الذهنية ويوهن بدنه، وتنفرج لديه زاوية الفك السفلي، وصدق الله العظيم في وصفه لهذا التحول إذ يقول العظيم القدير: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ.. يس – 68
*******
تأمل العناصر السابقة: إعلاء ميثاق الزواج، الاحترام، العطاء، وليس من بينها الحب، نعم.. فالحب هو مزيج هذه العناصر. لذلك نجد أن الأسر التي تنعم بهذه السمات تتمتع بدفء العلاقات وهو ما ينعكس إيجابياً على تربية الأبناء
وأقول لكل مقبل على الزواج من الجنسين، قبل أن تتأمل صفات من تختار، تأمل قبلها كيف تسير علاقة أبويه أحدهما بالآخر، فهذا كفيل بتبديد حيرك
نعم.. فهذه مقومات الخُلق الحسن وتقوى الله، ويعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوّجوه
من د/ بهى الدين موسى