في زِحامِ الأوراقِ والُكُتُبِ
وعَبْرَ ذلك الضوءِ الخافتِ المُنبعثِ من مِصباحِه المكتبيِّ على طاولتِه
كانَ يبدو وَجهُهُ الشاحِبُ ذو الجَبهَةِ المَليئةِ بالتَّغَضُّناتِ، والعينانِ الغارِقَتَانِ في تَتَبُّع آثارِ الكَلِماتِ على سُطورِ كِتابٍ ضَّخْمٍ مفتوحٍ أمامَهُ لا يظهر منه بوضوح سوى تلك البقعة الدائرية حيثُ سُلِّط نورُ المصباح.
كانَ يبدو كُلُّ ما فيهِ ساكناً، إلا شَفَتيهِ اللَّتينِ كانتا تَتَحَرَّكانِ أحياناً، لِتَدُلَّان على مدى انشِغالِه ..
رُبَّما، في فَهْمِ الأفكار المُستَعصيةِ لذلِكَ الكِتابِ وحِفظِها.
لمْ يمْضِ على جَلْسَتِه أكثرَ منْ نِصْفِ ساعةٍ، حتَّى نَهَضَ مُتَوَجِّهاً إلى النافِذَةِ يَفتَحُها، ويُتَمْتِمُ مُحْتجَّاً على الجَوِّ الخانِقِ في الغُرفَة.
ثمَّ انتَظَرَ قُربَها حتَّى أَحَسَّ بِلَسعةِ البردِ، فأَغْلَقَها وعَادَ يحتَسي كوبَ شايِهِ السَّاخنِ، وعادَتْ كذلِكَ صفحاتُ الكتابِ الضخمِ تلمَعُ في عينيهِ ثانيةً.
وبعدَ بُرْهَةٍ قصيرةِنَهَضَ ثانيةً ليزيدَ منْ سُرعَة تقطيرِ النِّفْطِ لمِدْفَأَتِهِ الضعيفةِ
لكنَّها..في واقِعِ الأمرِ كانتْ قدِ انطَفَأَتْ، .. فتناوَلَ عودَ ثقابٍ وضَرَبَهُ عِدَّةَ مرَّاتٍ على حافَّةِ العُلبَة فلمْ يشتَعِلْ، .. إلى أنْ حانَتْ منهُ نظرةٌ فاكْتَشَفَ أنَهُ قد أمسَكَهُ مَقلوباً.. فسارعَ إلى إصلاحِ وَضْعِهِ، وعادَ يَضرِبُ ثانيةً، لكنَّهُ أدْرَكَ، قبلَ أنْ يعودَ بنَظَرِهِ إلى فوهَةِ المِدفَأَةِ المَفتوحةِ، أنَّ عُودَ ثقابِهِ هذا لا يحتَوي على "دواءٍ"، لا في رأسهِ، ولا على ذيلِهِ، فقذَفَهُ في فوهَةِ المِدفَأةِ وهوَ يقول:

"آه .. يا حُبِّيَ الكبيرِ، يا وردةً حمراءَ أتمنى أنْ أُعَلِّقَها على صدري، وأُداعِبَ وُريقاتِها المِخمَليَّةَ، وأشتَمَّ عَبَقَها الرائِعَ. ولكن .. قدْ يموتُ الحُبُّ قبلَ أنْ يولَدَ، وخَوفي منْ أنْ يحدُثَ ذلِكَ، فرُبَّما قَدَري أنْ لا أُحِبَّ إلا المُلهِماتِ فحَسْبُ، لا أُدرِكُ منهنَ غير العذابِ والمُعاناة، فلا يأبَهنَ بشيءٍ من عَذاباتي !"

أخرجَ عُوداً آخرَ وضَرَبَهُ فاشْتَعلَ سريعاً ثمَّ انطَفَأَ، فنَظَرَ إلى بقايا "الدواءِ" المُحتَرقِ، فإذا بِهِ كَمَنْ يَغْمِسُ إصبَعَهُ الجافَّةَ في كومةِ رملٍ، لا يَعلَقُ منهُ بها إلا بِضْعَ حَبَّاتٍ، فقَذَفَ بهِ في فوهة المِدفَأَةِ قائلاً:

"ما أَتْعَسَ أنْ يَعيشَ المرءُ ضعيفاً هزيلاً، ويالَتعاسَةِ من ابتُلِيَ بقَلبٍ حالُهُ في الجُرأة كحالِ هذا العودِ، يتَحَفَّزُ طويلاً فلا يَبدُر من جُرأتِهِ إلا كوهجِ ما يبدو من حَشَرةِ الليلِ أو أقَلَّ.
إنهُ تناقُضٌ رهيبٌ، فعاليةُ التي رُبَّما أسأتُ لها نتيجةَ ظروفٍ خاصَّةٍ قاهِرةٍ، هي ذاتُها التي أُعجِبتُ بها إلى حدِّ الهوى، والتي أريدُ أن أبوحَ لها بما كَتَمتُ سنيناً، فكيفَ ستتلقَّاني يا تُرى؟
أأهربُ أم أغامِرُ؟ فكلمَةُ لا تنهي كلَّ مشاكِلي، وأنا لديَّ قُدرةٌ عجيبةٌ على احتواءِ الكوارثِ، أمَّاُ نعَم .. فصورةُ اللهِ في الأرضِ".

تناوَلَ عُوداً ثالثاً، فإذا به نِصْفُ عودٍ، فلَعَنَ الثقابَ وصانعي الثقابِ:

"أي حظٍّ هذا الذي يقودُ لي أعواداً تتشابَهُ مع أيامي، تَراني أَجِدُّ السيرَ أحياناً إلى مُنتَصَفِ الطريقِ ثم تخورُ قِوايَ، فإلامَ يا ربَّاه هذا التردُّدِ، وإلامَ يستَهلِكُني ضعفي".تناولَ الرابِعَ، ونَظَرَ إليهِ مُتَفَحِّصاً قبلَ أنْ يُباشِرَ الضَّربَ، فكانَ سليماً مُعافى، فضرَبَهُ على طرفِ العُلبةِ مرةً واحدةً، ووَجَّهَ يَدَهُ إلى فوهةِ المِدفأةِ، ظَنَّاً منهُ أنَّ كُلَّ شَيءٍ على ما يُرامُ، لكِنَّهُ سرعانَ ما اكتَشَفَ أنَّ العودَ لم يشتَعِلْ، فأعادَ ضربَهُ ثانيةً وثالِثةً ولمْ يَشْتَعِلْ.. لقدْ كانَ العُذرُ في حافَّةِ العُلبةِ هذهِ المرَّةِ.

"ما ذَنبُها إذا كُنْتُ لا أُتْقِنُ الإجابَةَ على تَساؤلاتِ عَينَيها، فرُبَّما أَحسَسْتُ أنَّ بها حاجَةٌ لحبيبٍ، وربما كَرَّرَتْ لي خطابَها هذا مرَّاتٍ ومرَّات، ولكنَّ جُبني وتتردُّدي، قاداها إلى اليأسِ، فما عادتْ تجيبُ شظىً بأكثر مما تنبري لهُ حافَّةُ عُلبَتي هذهِ، مهما أتقَنْتُ في قَدْحِ الزنودِ."

قَلَبَ العلبةَ وضربَ بالعودِ على الحافَّةِ الثانيةِ فوَرَّاهُ وقذَفَهُ في الفوهةِ، ونَظَرَ والخوفُ يَطغى على مَلامِحِ وَجهِهِ:

"لا بُدَّ أنْ أُحَدِّثَها قبل أن تَضيعَ فُرصَتي إلى الأبد .. إلى الأبد".

يا إلهي .. لقدْ غَرِقَ العودُ في النَفطِ الذي مَلَأ القاعَ

"أخشى أن أغرقَ في زِحامِ هَواجسيَ المُتَراكمةِ حولي كزِحامِ الطوفان"

رَبَطَ لولبَ المِدفَأَةِ وعادَ يَبحَثُ عنْ عودٍ جديدٍ بعدَ أنْ أَحْضَرَ لفافة وَرَقٍ، عَلَّها تَصمُدُ في لُجَّة النَفطِ المُغرِقَةِ، قال:

" يجبُ أن ألملمَ كلَّ قوايَ دُفْعَةً واحدةً فأقوى على مُواجهةِ أوهاميَ المُتَرَاكِمات".

امتدت أصابِعُهُ إلى آخرِ عودٍ في العُلبة .. أشعَلَهُ ثم أشعلَ به الوَرَقَةَ، وقَذَفَها في أحشاءِ المِدفأةِ، فأخَذَتِ النارُ تضطَرِمُ في جَوفِها منْ جَديد.عِندَهَا .. عادَ إلى كُرسيِّهِ وهُوَ يقولُ في نَفْسِه:

"خَوفي منْ أنْ تَيأسَ منَّي حبيبتي فأفْقِدَها لِلأبد، وأخافُ أنْ أُكَلِّمَها فلا أجدَ لَديها قبولاً فأفتَقدها أيضاً للأبدِ، فويلتي من هذا التناقُضِ المريرِ، وأيُّ حَلٍّ إلَّا أن أحتَرِقَ بضرامِ النارِ دُفعَةً واحِدةً، عندها .. قد يكونُ هناكَ جدوى."

كانَتْ جلستُهُ أقربَ ما تكونُ إلى الاستلقاءِ، واضعاً يَدَيهِ وَراءَ رأسِهِ، مُسْتَغرِقاً في نَظرةٍ كادتْ تكونُ هي الأبدُ أوِ الأزلُ منْ شِدَّةِ عِمْقِهَا:

"إعياء ومرارةٌ وعذاب .. هذه هي حياتي .. ويَمُرُّ يومي لا أعرِفُ كيفَ أُطفِئُ حِمماً تستَعِرُ في مُهجَتي .. وساعاتي باتتْ ثقيلةٌ، واليأسُ يدُبُّ في أوصالي، وكلما أتى يومٌ جديدٌ، تحوَّلَ جِزءٌ جديدٌ من جسدي إلى عِشقٍ لعينيها، وصارَت أنفاسي كأعوادِ ثقابي .. لاهِثةً ضعيفةً ..

وأنا ما تَعَوَّدْتُ إلا الصمتَ .. وبِتُّ أعرِفُ أنَّ الحياةَ أضحوكةٌ، وأنَّ الموتَ أضحوكة، ..
وأعرِفُ أنَّ الناسَ أشباحٌ
وأنَّ القبورَ مقاهي
وأنَّ كلِمَةَ حبٍّ واحدةً هيَ الشيءُ الوحيدُ الَّذي يمكِنُ أنْ يبعثَ في أَوصاليَ الحياة"


.30/11/1985