تغييب العقول
بين
المشائخ وأحرار العقول !!
أولا : المشائخ
.. وضجّ المسجد بأصوات المريدين من أرباع المتعلمين – وربما أدنى من الأرباع – وتعالت تكبيراتهم ، وتهليلاتهم ، إظهاراً لما توصل إليه الشيخ المعمّم من حكم شرعي بديع، يعينه ما آتاه الله من علم غزير، ونبوغ لم يسبقه إليه عالم نحرير، أو مفكّر خطير ، ونظرات ثاقبة ، وحكمة في الوصول إلى اجتهادٍ ما سبقه إليه أحد من العالمين . أتدرون الحكم المقرر؟ لقد أخبرته الآيات الكريمة أن ليلة القدر في السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك ، فليلة القدر تتكوّن من تسعة أحرف – كتابة - و تكررت ثلاث مرات ، و لأن شيخنا رياضي مصقع ، فقد قام بعمليّة حسابية مفحمة( 3×9 =27 ) ، وكانت النتيجة الملهَمة ما نراه مما هو آت آت : أحيِِ ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك وحدها تتفتّحْ لك أبواب السماء ، وتغرفْ من نعيم الله ما شاء .
وما كان في علم الطلبة المؤدّبين أن فتوى الشيخ ليست من بنات فكره البرّاقة، ولا من إبداعات العصر الحديث بسبقه العلمي المفلق، وإنما قالها بعض الأقدمين معتمدين منهجاً في التفسير الشاذّ، سُمِّي ( التفسير الإشاريّ ) ، ثم امّحى من عقول كبار العلماء ، وحافظ عليه مَن دونهم أو من كان في قلبه مرض .
حاش لله– فنحن لا نتّهم شيخنا بالغفلة عن هذا،{إنما نشبّه سلوكه بما كان الأديب العربي طه حسين يفعله، فقد ألِف – غفر الله لنا وله - أن يضع المراجع – أو المصادر، سمّها ما تشاء- خلفه، ولا يقدّمها أمامه إلا إذا رأى الفكرة التي يسوقها تفتقر إلى التأييد }. فلو جاء شيخ آخر بفكرة لم تهضمها معدة شيخنا، وكانت تعتمد(التفسير الإشاريّ) لردّها لأن العلماء لم يقبلوا بهذا النهج. ولو كان الحديث الشريف يوافق رأيه لساقه، ويكفي أن يختاره لتأييد رأيه في قبول الحديث الشريف ، ولا حاجة إلى مصطلح الحديث وعلومه، أما إذا دعّم الخصم رأيه بحديث شريف كان الحاجة ماسّة إلى اعتماد مصطلح الحديث وعلومه لإبطال الأخذ بمدلول الحديث.
لا تظنّوا بي الظنون ، فما في قولي سخرية أو تلذذ - حاش لله – وإنما تذكروا معي قول الشاعر الذي يردّده الخاصّة والعامّة: ( والطير يرقص مذبوحاً من الألم)، وإنما أقول نصيحة لله ربما يسمعها من يتصّدر المجالس، ويعملون بها خوفاً من الله – عزّ وجلّ - : لا تستغفلوا عقول العامّة أو الخاصّة، ولا تشلّوا عملها، فما جاء الإسلام بذلك ، إنما جاء الإسلام بطاعة ولي الأمر – في غير معصية – وإجلال العلماء الربانيين ، ولكنه لم يأت بتغييب العقول، بل حثّ على التفكير السليم ، فكلنا يعرف تربية الصحابة، فما منعتهم طاعة من الجهر بما يعتقدون – بدون فتنة – .
إنما همّي في هذا أن ينأى من يتصدر المجالس بأنفسهم عن استغفال عقول السامعين والمريدين ، وعن إيقاف عملها ، وأن يعتمدوا أسلوب التفكير المنطقي معهم في فرض شخصياتهم على الأتباع ، ( كل يُردّ عليه إلا صاحب هذا القبر- أي محمد – صلّى الله عليه وسلّم - ) ، و لا مانع من غرس الحبّ في القلوب ، وافتداء العلماء الربانيين بالأرواح ، بل هذا واجب شرعيّ. ولكن من أشدّ الخطر أن يسوقوا الناس سوق النعاج ، ويظنّوا أن الاحترام لا يكون إلا بإلغاء التفكير، وتعطيل العقول وقدرتها على الحوار البناء، وليحذروا – إذا انقلب عليهم هؤلاء المخَـــدَّرون – من التسفيــه والتجـريح .. ما أثبت الاحترام القائم على محبّة في القلوب، واقتناع بالعقول. ولنحذر من أمثال هذا الشيخ ، فما أكثر ما قالوا و ما فعلوا في تاريخنا القريب ، فأدّت أقوالهم و أفعالهم إلى تحكّم غيرنا بحياتنا وقدراتنا ! و لن يخلّصنا الله من هذه المحنة ، و لن نخرج من هذا المستنقع
حتى نغيّر ما في نفوسنا . قال الله – تعالى – في سورة الرعد الآية – 11 - : لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ.
Il (l’homme) a par devant lui et derrière lui des Anges qui se relaient et qui veillent sur lui par ordre d’Allah. En vérité, Allah ne modifie point l’état d’un peuple, tant que les (individus qui le composent) ne modifient pas ce qui est en eux-mêmes. Et lorsqu' Allah veut (infliger) un mal à un peuple, nul ne peut le repousser: ils n' ont en dehors de Lui aucun protecteur.ومن وسائل هذا أن ندرّب الناس على التفكير السليم والابتعاد عن ( الغوغائية ) ، والتعالي بالباطل، وتحكيم الهوى ، و أن يحترم كلٌّ منهم رأي الآخر، وأن يجلّوا العلماء الربانيين ، دون أن يُلغوا عقولهم ، و أن يلتزموا بطاعة أولياء الأمور دون أن يكون في ذلك ترغيب بمكافأة أو ترهيب بعقوبة ، دافعهم إلى هذا قوله – تعالى - :
{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله والرسول و أولي الأمر منكم . Les croyants ! Obéissez à Allah, et obéissez au Messager et à ceux d'entre vous qui { détiennent le commandement سورة النساء59.
ثانياً : أحرار الفكر !!
نحن في زمن لا ندري أَ نِصفُه بعصر التقدّم – ونحن صادقون– أم نصفه بعصر عبودية الفكر لغير خالقها ، والوقائع لا تنفي هذه الصفة ؟!
يقولون - أم يدّعون - ، فلم نعد ندري شيئاً بعد هذه الإبداعات الغريبة ، ولست أدري، أن منْ حرية الرأي أن تغيّب العقول، ويُساق أصحابها إلى المسلخ سوق النعاج ، أيريدون من الناس أن تسير وراءهم، والعالِم في مقدمتهم ينادي بالفكر الحرّ، وهم لا يدرون عنه شيئا ، ماذا فعل هؤلاء ( الأحرار )، هل كانوا خيراً من أولئك المشائخ ( الجاهلين ، أو العلماء الذين يجهّلون الناس على علم منهم ) حين يوهمون الناس بأفكار سخيفة وآراء بعيدة عن الدين ، يأباها العقل والمنطق ، أهؤلاء خير من أولئك ؟! و كلّما فتح أحدهم فاه ليتكلم - و أحسّوا أن فكرهم لم يؤثّر في فكره- أخرسوه فورا لأنّه عدوّ الحرية والتفكير السائب الذي لا يتقيّد إلا - وأرجوهم العفو عن زلّتي – بقيد عقولهم المنغلقة على ذاتها، أتريدون أن أسرد كلّ التهم التي يلصقونها بمن لا يتبنّى فكرهم، لأثبت أنهم أوّل من يُتّهم بالعبودية الفكرية، ليست حريّة الفكر شعارات، كل ما أردت أن أشير إلى كثير من الفِكَر التي دّست ألفاظها، ثم ديست عملياً بالأقدام، وارتكبت أفدح الجرائم تحت لافتات أسمائها .