مشروع التحرير ومشروع التغيير،
هما بوصلة الحقيقة في العلاقة بين الهويتين الأردنية والفلسطينية
ولا قيمة ولا قداسة لأي من الهويتين إذا تعارضت مع مشروعي التحرير والتغيير
في ظل جدل الهوية في الأردن وما يفترض فعلُه لحسمه على نحوٍ منتجٍ وفعالٍ، نجد أنفسَنا مدفوعين بادئَ ذي بدء، إلى التأكيد على أن "الهوية" مفهومٌ لا يقوم بذاته، ولا يتكوَّن بمعزلٍ عن محيطه الثقافي والسياسي والقانوني، ولا عن سياقه التاريخي، ولا عن مضامينه التنموية والنهضوية والتحررية، بل هو مرتبط بكل ذلك ارتباط تشَكِلٍ وتكوُّن وصيرورةٍ وتطورٍ ونماء. فلا توجد "هوية أردنية" معزولة عن واقع أن فلسطين شأن أردني وطني، ولا وجود لهوية فلسطينية منفصلة عن حقيقة أن التغيير الحقيقي في الأردن نحو اللاوظيفية هو الطريق نحو تجسيد تلك الهوية على أرض الواقع.
ومن هنا فإننا عندما نتحدث عن "الهوية الأردنية" أو عن "الهوية الفلسطينية"، لا يحق لنا الانطلاق من واقع أنهما هويتان مقدستان، ومن أن تجسيدَهما أو أيٍّ منهما يكتسي الأولوية على غيره، ويتسم بالدلالة الوطنية دائما، أو أن ذلك التجسيد مسألة معلقة في الفراغ يمكنها أن تتم بذاتها ولذاتها، لأنهما بالفعل ليستا كذلك. فلا توجد "هوية أردنية" تعتبر أساسا ومرجعا يُبْنى عليه فيما يتعلق بقضايا الأردنيين، كما لا توجد "هوية فلسطيتية" بالاعتبار نفسه فيما يتعلق بقضايا الفلسطينيين.
فهما فضلا عن كونهما نشأتا في الأساس في ظروفٍ وظيفية متناقضة مع المشروع القومي الذي أسقطته اتفافية "سايكس بيكو" بتحالفها مع الانقلابيين الهاشميين، فتجاوزتا حتى مشروع سوريا الطبيعية باعتباره وعاء الهوية الأكبر لهما، مرتا في تاريخهما بمنعطفات جعلت دلالاتهما تتغير وتتبدل، بحيث لم يعد لتجسُّدِ أيٍّ منهما أو لغيابها، المعنى نفسه دائما وفي كل الظروف، سواء في السياق الوظيفي أو في السياق الوطني.
لم يتقن النظام الوظيفي الأردني عبر تاريخه منذ تأسيسه وحتى الآن، ممارسةَ فعلٍ وظيفِيِّ الدلالة، كما أتقن التلاعب بالهويتين "الأردنية" و"الفلسطينية"، في إطار ما يمكننا أن نطلقَ عليه "لعبة لوغو الهويات"، وذلك تشبيها منا لتلك اللعبة بلعبة "اللوغو" الشهيرة، القائمة على تبديل مواقع قطع اللعبة أثناء التركيب، كلما شئنا أن ننتج من عملية التركيب لعبة تختلف عن سابقاتها.
فعندما لا يتمكن النظام من أداء دوره الوظيفي المنوط به إلا بتركيب الهويات بالشكل "أ" فوق و"ب" تحت، فإنه كان يركبها بالشكل "أ" فوق و"ب" تحت، وعندما كان يضطر لتغيير نمط تركيب الهويات ليمارس دوره الوظيفي إذا أصبح التركيب السابق غير منتج ولا فعال على صعيد الوظيفية، فإنه كان يلجأ بلا أدنى تحفظ إلى إعادة إنتاج الواقع ومُكوناته وثقافته وحراكه، بما يساعد على تمرير التركيب الجديد، حتى لو كان هذا التركيب هو "ب" فوق و"أ" تحت.
ما معنى هذا الكلام؟!
نشأ النظام الأردني، ونشأت الهوية الأردنية، بل والدولة الأردنية في الأساس، لاحتواء واستيعاب تداعيات المشروع الصهيوني المرتقب، كما حددت مواصفاتِه كلٌّ من اتفاقية سايكس بيكو وإعلان بلفور.
وهذا ليس محل خلاف بين عاقلين في هذا البلد، حتى لو كانا ضابطي مخابرات.
وبالتالي فما كان من النظام الوظيفي الذي قاد هذه الدولة منذ نشأتها إمارةً عام 1921، إلا أن مارسَ دوره المنوط به على مدى الفترة التي انتهت بـ "طوشة" عام 1948. لكنه منذ هذا التاريخ اضطر لإعطاءِ وظيفيته شكلا جديدا دفعته إليه تداعيات تلك الحرب، لتبدأ معالم "لعبة لوغو الهويات" تتجلى للعيان.
كانت متطلبات الوظيفية عقب "الطوشة" مباشرة، أن يصار إلى تغييب "الهوية الفلسطينية" تغييبا كاملا، بعدم إعطائها أيَّ فرصة لأن تتجسَّد على أيِّ شبر من أرض فلسطين "البلفورية" أو "السايكسبيكوية" على شكل دولة، بسبب أنها ستكون لو تجسَّدت بمثابة "الهوية" الأكثر تناقضا مع الحالة الصهيونية الناشئة، وهو المطلوب وطنيا وقوميا، وغير المطلوب وظيفيا وقطريا، لأنه غير مطلوب في الأساس صهيونيا.
وهذا ما حصل فعلا بأن سيطر النظام الأردني على الضفة الغربية، وبأن وضعت مصر يدها على قطاع غزة. فالأول منع أيَّ محاولة لإقامة دولة فلسطينية في الضفة وضمها إلى الأردن بمؤتمر أريحا ثم بقانون التجنيس، والثاني أسقط حكومة عموم فلسطين في القطاع، وتولى إدارته نيابة عن الفلسطينيين.
إذن من حيث الشكل والمضمون، فإن ما حدث من ضم للضفة الغربية في مؤتمر أريحا كان مؤامرةً بكل معنى الكلمة. وهو من حيث كونه مؤامرة لا يختلف في مضمونه عن مؤامرة سايكسبيكو التي أوجدت الدولة والهوية الأردنيتين، والنظام الأردني ذاته قبل أكثر من ثلاثين عاما من ذلك التاريخ. وبالتالي فنحن قادرون على التعامل معه – أي مع موضوع الضم وتداعياته – بالشكل نفسه الذي تعاملنا من خلاله وما زلنا، مع نتائج سايكس بيكو.
فكما أن وعينا بأن الأردن ليس إلا نتاجا لمؤامرة استهدفت البناء القومي للأمة، لم يمنعنا من القبول بالأمر الواقع لنؤسس عليه ما يساعدنا على استعادة هذا البناء، دون المطالبة بهدم الدولة التي نشأت بمؤامرة، فكذلك فإن وعينا بأن وحدة الضفتين عندما تمت عام 1948 ليست إلا نتاجا لمؤامرة بدأت بمؤتمر أريحا، لن يمنعنا من القبول بالأمر الواقع لنؤسس عليه ما يساعدنا على استعادة الهوية المغيبة وعلى استيلاد مشروع التحرير المستهدف بتلك المؤامرة، دون أن نطالب بهدم الوحدة التي نشأت بمؤامرة.
لا بل، إذا كنا قد قبلنا وإن نكن مجبرين بحكم ضرورات الواقع، بالتعامل مع "الدولة الأردنية" ومع "الهوية الأردنية" للبناء عليهما، رغم أنهما خطوتين تآمريتين في الاتجاه التفتيتي للأمة، فمن باب أولى ألا نرفض وإن نكن مجبرين وبحكم ضرورات الواقع أيضا، بالتعامل مع "وحدة الضفتين" للبناء عليها، مادامت خطوة وإن تكن تآمرية في حينها، إلا أنها جاءت في الاتجاه التوحيدي!!
وهذا ما وعاه الأردنيون والفلسطينيون على حد سواء في تلك المرحلة من الزمن.
فقد تمكن الفلسطينيون الذين تم تغييب هويتهم بمؤتمر الضم في أريحا، من إسقاط المؤامرة التي هدفت إلى تغييب الفعل المقاوم، بأن حولوا الشعب الأردني الجديد بشرق أردنييه وفلسطينييه إلى شعبٍ مقاوم عبر إنجازاته التي حققها على صعيد مواجهة النظام الوظيفي في الفترة الوجيزة 1952 – 1957، ومنتج لمشروع تحرير حقيقي باتجاه الأرض المحتلة بدءا بعام 1965.
ما هي المعادلة الجديدة في سياق لعبة "لوغو الهويات" بعد هذه المستجدات؟!
"هوية أردنية" وظيفية ابتلعت "هوية فلسطينية" كان تَجَسُّدُها سيكون وطنيا.. فتحولت "الهوية الأردنية" الجديدة بفعل عملية الابتلاع، التي مثلت عملية تلقيح تاريخي، إلى هوية وطنية بدأت تعد الأردن لمرحلة لاوظيفيته، وتجهز الساحة لتكون قاعدة آمنة لمشروع التحرير..
ورغم أن الوجه الأول من المشروع فشل في عام 1957، إلا أن الأردنيين والفلسطينيين أعادوا إحياءَه من جديد على شكل مقاومة أخذت صفة "الهوية الأردنية" في العام 1965، حتى لو غطى الكثيرون على هذه الحقيقة، "ولا يهمنا في هذا السياق أن معظم من أسسوا للمقاومة كانوا من أهل قطاع غزة، لأن هؤلاء أنفسهم كانوا يدركون أن المشروع يجب أن يكون أردنيا ديمغرافيا وجغرافيا كي يتسنى له أن يولد ويستمر، وهذا ما حصل بالفعل، وهذا ما أعطاه هويته الأردنية بحق". وتثبَّت المشروع وترسخ وتجذر بعد معركة الكرامة عام 1968، وأصبح مهددا لوظيفية النظام بشكل أكثر وضوحا وجلاء مما أحدثه المشروع الذي تم إفشاله في عام 1957.
وإذا كان إفشال مشروع تجسُّد "الهوية الفلسطينية" كمقدمة حقيقية لمشروع التحرير في عام 1948، حصل بتغييب هذه الهوية في قلب الهوية الأردنية..
فإن إفشال مشروع التحرير الذي جسَّدته المقاومة ذات الهوية الأردنية بالتابعية، بعد أن تحولت هذه الأخيرة من الوظيفية إلى اللاوظيفية وإلى الوطنية والتحررية.. إلخ، تم وما كان له أن يتم إلا بإعادة إحياة "الهوية الفلسطينية" من قلب "الهوية الأردنية" الثائرة، لإجراء عملية إزاحة في لعبة لوغو الهويات، تمنح الثورة وهويتها للفلسطينيين، للتمهيد لاستعادة النظام لمشروعيته المتهالكة، كممثل للهوية الأردنية بعد أن غدت الثورة تمثل الفلسطينيين وهويتهم ولا تمثل الأردنيين وهويتهم.
أي أن "الهوية الفلسطينية" التي كان تغييبها مؤامرة عام 1948 للأسباب التي ذكرناها، أصبح إظهارها لتقسيم الهوية الأردنية الموحِدة والثائرة والمتناقضة مع النظام الوظيفي، هو المؤامرة، مادام هذا الإظهار قد جاء وتحقق في ظروف خدمت المشروع القطري الوظيفي، وحمت النظام القطري الوظيفي، وخلقت كل أسباب التنابز والتناقض العصبي بين أبناء الهوية الواحدة التي وحدت الجميع في مواجهة النظام والمشروع الصهيوني دونما أيِّ قلق لا من الشرق أردنيين ولا من الفلسطينيين بشأن الهويات منذ عام 1948 ولغاية عام 1968.
بحيث أصبحت الفترة من 1968 وحتى 1970، هي المرحلة التي تمكن النظام بالتآمر المذكور، وقادة المقاومة بالوقوع في فخ ذلك التآمر، بعد أن ابتلعوا الطعم الموقعَ في شراكه، من أن يعدوا الساحة لتهدم في أقل من سنتين، كل ما تم بناؤه في الفترة 1948 – 1968، أي في عشرين عاما.
وإذن فإن "الهوية الفلسطينية" التي كانت مقدسة ووطنية الدلالة عام 1948، لأن تجسَّدها المتآمر عليه حال بينها وبين تحقيقها لمشروع وطني حقيقي في ظروف تلك الفترة، أصبحت بعد عام 1968 هوية غير مقدسة ولا تختلف في وظيفيتها عن وظيفية الهوية الأردنية عام 1948 عندما تآمر ممثل هذه الأخيرة عليها، أي على الهوية الفلسطينية..
وبالمثل فإن "الهوية الأردنية" التي كانت وظيفية في العام 1948، والتي ما ابتلعت "الهوية الفلسطينية" في جوفها إلا لتغرقها معها في الوظيفية، أصبحت حتى عام 1968 هوية غير وظيفية ومقدسة ووطنية الدلالة، لأنها اضطلعت بالمهمة نفسها التي حرمت من الاضطلاع بها الهوية الفلسطينية عام 1948..
وبنجاح مؤامرة النظام المتفاعل مع أجندة المقاومة بعد عام 1968، والقائمة على تقديم الهوية على التحرير، عادت الأمور لا إلى وضعها الطبيعي الذي كانت عليه عام 1948، بوظيفية أردنية ولاوظيفية فلسطينية، بل هي قد عادت إلى ما هو أسوأ من ذلك، بأن أنتجت تلك اللعبة في تلك المرحلة من لعبة لوغو الهويات، هويتين وظيفيتين، ونظامين وظيفيين، هما "الهوية الأردنية" و"الهوية الفلسطينية"، و"النظام الأردني" و"النظام الفلسطيني" الذي مثلته الثورة منذ أن أصبحت فلسطينية وتخلت عن أردنيتها.
ولكن لماذا لا يمكن اعتبار أن الثورة بعد أن أصبحت فلسطينية وتتحدث باسم هوية فلسطينية وتحديدا بعد أيلول.. لماذا لا يمكن اعتبارها مشروعَ تحريٍر حقيقي، واعتبارها مجرد مشروعِ تأسيس لنظام وظيفي عربي جديد هو النظام الفلسطيني؟!
إن الإجابة واضحة..
فالثورة كانت تمثل مقدمة لمشروع تحرير حقيقي عندما كانت تملك الديمغرافيا الثائرة والجغرافيا الآمنة للثورة.. وهو ما كان متحققا في الفترة التي كانت فيها أردنية الهوية بالتابعية ديمغرافيا وجغرافيا.. ولكن عندما أصبحت فلسطينية الهوية، فإن هذه الفلسطينية ارتبطت بخسران الديمغرافيا والجغرافيا.. أي بفقدان عنصري التحرير الفاعلين والأساسيين، فكيف يمكن اعتبارها مشروعَ تحرير؟! فأيُّ مشروع تحريرٍ هذا الذي يقوم بدون ديمغرافيا متجسِّدة على جغرافيا؟!
وأيضا، وبما أن ذلك حدث من خلال أيديولوجية ضحت بالديمغرافيا والجغرافيا الأردنيتين للثورة كمشروع تحرير، لحساب مشروع هوية قطرية جديدة فاقدة لكل عناصر التجَسُّد، فما كان بالإمكان اعتبارها أمرا آخر غير كونها نظاما عربيا وظيفيا جديدا هو النظام الفلسطيني، الذي تتجلى أبشع عناصر وظيفيته في افتقاره إلى أي عنصر من عناصر السيادة الحقيقية التي تمكنه من أن يدعى أيِّ قدرة على التمرُّد على وظيفيته هذه!!
النظام الوظيفي الأردني الذي كان همه من لعبة لوغو الهويات أن يفقدَ مشروع التحرير كل عناصر قوته وديمومته، ما أن نجح في استعادة الهوية الفلسطينية ومنحَها الثورة التي حرّر منها "الهوية الأردنية" فاستعاد شرعية حمايتها وتمثيلها بعد أن كانت هذه الهوية ذاتها هي التي تكاد تلفظه، لأنه لم يعد يمثلها بثوريتها وبمشروع تحريرها الجديد في الفترة 1965 - 1968..
نقول.. هذا النظام الوظيفي وما أن نجح في تمرير مؤامرته تلك، وضَمِنَ أن الجغرافيا والديمغرافيا الأردنيتين أصبحتا بمنأى عن الثورة، حتى عاد إلى لعبة اللوغو إياها..
فقبل أن ينقضي عام على أحداث جرش وعجلون عام 1971، حتى طرح مشروع "المملكة العربية المتحدة" الذي كان يهدف من جديد إلى ابتلاع الهوية الفلسطينية رغم أنها لم تتجسَّد إلا في الوهم، كي يبتلع ثورتها التي تم تشريدها إلى لبنان، وذلك بغرض إقحامهما، أي "الهوية" و"الثورة" في متاهات التسويات منذ وقت مبكر، ويفقدهما بالتالي كل إمكانات إعادة إنتاج الفعل الثوري سواء خارج الأردن أو داخله..
ومع أن مؤتمر الرباط أقر بأن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للفلسطينيين، في أخطر كارثة ألمت بالفعل الثوري في تصورنا، عندما تم التأكيد على أن هذا الفعل فعل فلسطيني، وأنه فعل يجسِّد نظاما عربيا جديدا لا يختلف عن الأنظمة العربية التي أنتجته وأقرت بشرعيته، فتم تقييد كل فعله وحراكه في عنق زجاجة متطلبات هذه الشرعية الجديدة..
نقول.. رغم ما حدث في مؤتمر الرباط، إلا أن النظام الوظيفي الأردني لم يعترف بذلك ورفض التجاوب معه، لأنه لم يكن في واقع الأمر معنيا باستقلالية الهوية الفلسطينية إلا في سياق جعل هذه الاستقلالية المدَّعاة والموهومة تساعد على استعادة نفسه وتمثيله للأردنيين..
وبالتالي فبعد أن تحقق له ذلك، فسوف لن يجد أيَّ غضاضة في الاستمرار في محاولاته استرجاع الفلسطينيين إلى حضنه بأي طريقة إن استطاع، كي يضمن سيادته على الديمغرافيا وتلجيم الفعل الثوري نفسه..
وقد تجلى ذلك في مشروع الكونفدرالية عام 1984 بعد أن فشل مشروع المملكة المتحدة عام 1972.. ولما فشل مشروع الكونفدرالية نفسه كآخر محاولة للنظام الوظيفي الأردني في محاصرة الثورة واستعادة تمثيل الفلسطينيين، كان لابد من التفكير على نحو مختلف تجلى هذه المرة في اللجوء إلى الخيار الإسرائيلي..
فما هو الخيار الإسرائيلي؟!
وظيفية النظام الأردني تلتقي بشكل كامل مع وظيفية المشروع الصهيوني في ضرورة عدم السماح لمشروع النظام الوظيفي الفلسطيني الجديد بأن يتحرر من وظيفيته ويعيد إنتاج ثوريته، خاصة وأنه رغم وظيفيته، ورغم تكبيل نفسه بمقررات مؤتمر الرباط، ورغم.. ورغم.. كان ما يزال يملك بعض عناصر استعادة المبادرة على الصعيد الجماهيري العربي، لو فكرت قيادات الثورة على نحو غير وظيفي، ولو أنها تحررت ولو للحظة من الانطلاق في أيديولوجيتها ما بعد أيلول من أولوية الهوية على التحرير..
هذه الأولوية المقلوبة التي جعلتها تعتبر البندقية أداة للاعتراف بالهوية وليس أداة للحصول على الأرض، دون أن تعي أن الهوية بلا أرض وهم، وإن اعترف بها كل العالم، وهذا هو مع الأسف حال "الهوية الفلسطينية".. بينما الأرض حتى لو لم يعترف لك بها أحد، فهي حقيقة ملموسة تُصنع بها الهويات وتُرسم بها الخرائط، كما هو مع الأسف أيضا حال "الاحتلال الصهيوني للضفة الغربية"..
إن التقاء الوظيفيتين الأردنية والصهيونية على هذا الهدف جعلهما تتقاسمان أو تتبادلان الأدوار في أداء ما من شأنه تحقيقه.. فمنذ أن خرجت الثورة من الأردن بردائها الفلسطيني نازعة عنها رداء أردنيتها محيية الوظيفية الأردنية من جديد، كان التوافق الضمني بين الوظيفيتين الأردنية والصهيونية، على أن يبذل الملك حسين كل ما في وسعه لتحقيق ذلك الهدف سياسيا وفي الأردن، فيما تقوم إسرائيل بالواجب في لبنان بمساعدة ضمنيه من باقي أضلع الوظيفية العربية التي تجسد دورها في التدخل السوري في لبنان عام 1976..
وعندما استنزف النظام الأردني كل إمكاناته وفشل في مهمته.. وبعد أن أصبحت المقاومة تعاني من تشرد جديد بعد خروجها من لبنان عام 1982، ما جعلها تفقد كل البوصلات الفاعلة في مسيرتها منذ تلك الفترة، فقد بدا واضحا أن المهمة في مرحلة ما بعد عام 1984 أصبحت تقع على كاهل إسرائيل لتحقيق ما عجز عن تحقيقه النظام في عمان.. أي أن مصير ومستقبل الثورة أو بتعبير أدق "النظام الوظيفي الفلسطيني" الذي كانت تعبر عنه الثورة، يجب أن يُرَحَّل التعامل معه من الخيار الأردني إلى الخيار الإسرائيلي..
ومع أن إسرائيل ومعها باقي الوظيفيات العربية كانت تدفع بهدوء وروية إلى هذا الخيار الإسرائيلي بهدف الزج بما تبقى من جسم هشٍّ للنظام الفلسطيني إلى داخل الأرض المحتلة ليلقى حتفه ومصيره هناك بين أنياب الكيان الصهيوني وشرايين مستوطناته، إلا أن الانتفاضة الأولى وما أحدثته من انقلاب في الأحداث أصبح يهدد بإمكانية استعادة النظام الفلسطيني الوظيفي الرابض خارج الأرض المحتلة لعناصر إعادة إنتاج انطلاقته الثورية الجديدة بموجب تطورات وتداعيات الانتفاضة، دفع إلى الاستعجال في تنفيذ الخيار الإسرائيلي..
وإذا كان الوهم الرابض في خيالات قادة النظام الفلسطيني بإمكانية تحرير الضفة الغربية وإقامة الدولة الفلسطينية عبر الرهان على إمكانية تحقيق مشروع هوية تتبرع بها إسرائيل تحت ضغط الانتفاضة، ساعد على إنجاح كل الوظيفيات في تنفيذ "الخيار الإسرائيلي"، فإن الانتفاضة ذاتها جعلت إسرائيل نفسها تتجاوب مع عنصر العجلة، بهدف القضاء عليها قبل أن تنجح في إحداث المحظور والمحذور..
في هذا السياق الجديد من سياقات لعبة لوغو الهويات والقائم على تآمر وظيفي وعلى وهم فلسطيني، جاء قرار فك الارتباط الذي هندسه عدنان أبو عودة باعترافه الصريح، وبالتالي ففي هذا السياق ولأجل الأسباب إياها جاءت كل المرجعيات التي بنيت عليه، بدءا من مدريد ومرورا بأوسلو وانتهاء بوادي عربة..
أي أن آخر حلقة من حلقات لعبة لوغو الهويات كانت هي تنازل النظام الأردني الكامل عن الضفة الغربية لنحر معالم وبوادر مشروع التحرير الثاني الذي أشَّرت عليه الانتفاضة الأولى..
والخلاصة هي أن الهويتين الأردنية والفلسطينية، لا قيمة لهما في ذاتهما لا على صعيد دلالاتهما على الواقع، ولا عند صانعيهما إلا بقدر ما يخدمان المشروع الوظيفي ويحققان أهدافه.. في حين نجح هؤلاء الصانعين والوظيفيين في جعل الهويتين لدى الشعبين مقدسات تهون دونها ذُرى الجبال.
والتلاعب بالهوية الفلسطينية، تغييبا أو تجسيدا، ثم محاولات تغييب ثم إيهاما بتجسيد، ما هو إلا تجسيد ماكر للعبة لوغو الهويات.. الهدف منه هو الحيلولة دون إنجاح مشروع التحرير على صعيد الأرض المحتلة، ومشروع التغيير على الصعيد الأردني..
إن هذين المشروعين، "التحرير" و"التغيير" يعتبران بوصلة الحقيقة في أي فعل وطني فلسطيني أو أردني.. منهما تبدأ كل المشاريع الإصلاحية، وبهما تتكامل وتتجسَّد، وبهما ومنهما تنطلق كل مشاريع الهوية وتتكامل وتتجسَد.. وأيُّما مشروع للإصلاح أو للتغيير أو لحسم جدل الهويات، لا يقوم عليهما ولا ينطلق منهما، هو مشروع فاشل ومنقوص، يقوم على سياسة تعميق الأزمات عبر ترحيلها الأبدي..
ومن هنا فعلينا أن ندرك حقيقة غاية في الأهمية تعتبر بمثابة القاعدة الأساس في التعامل مع المشاريع والبرامج المطروحة للتعاطي مع الشأنين الأردني والفلسطيني، وهي أن التغيير والتحرير هما الطريق الوحيد لتجسيد الهوية الفلسطينية وليس العكس، فأيما وضع للهويات يخدم هذه الحقيقة الإستراتيجية فهو الأصل، وبه نأخذ ولا نبالي..
ولأننا نرى أن قرار فك الارتباط قام على مؤامرة تشبه شكلا ومضمونا كل المؤامرات التاريخية التي هدفت إلى تغييب مشروع التحرير ومشروع التغيير، بصرف النظر عن واقع الهويات الذي يساعد على تغييبهما، فما لا شك فيه أن العودة عن هذا القرار بكل التداعيات المطلوبة لهذه العودة يعتبر بداية الطريق نحو حل أزمة الهوية في الأردن، وبالتالي نحو إنجاز مشروعي التغيير والتحرير المترابطين..
إن أي واقع للهويات يعرقل مشروع التغيير في الأردن هو قطعا واقع يعرقل مشروع التحرير، وبالتالي يعرقل مشروع تجسيد الهوية الفلسطينية، وهو من هنا واقع هويات لا قيمة له..