من نفائس الفتح.
ـــــــــــــــــــــــ

نقل الحافظ ابن حجر في الفتح (11/435) الأقوال في تفسير قوله تعالى (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)، وذلك أثناء شرح قول عيسى عليه السلام - في حديث الموقف - للناس حين أتوه يطلبون شفاعته: (ائتوا محمدا صلى الله عليه وسلم، فقد غفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر)
ثم رجح (اللائق بهذا المقام) أن الذنب مغفور للنبي صلى الله عليه وسلم، غير مؤاخذ عليه لو وقع.
ثم قال: (ويستفاد من قول عيسى في حق نبينا هذا، ومن قول موسى فيما تقدم «إني قتلت نفسا بغير نفس، وإن يغفر لي اليوم حسبي» مع أن الله قد غفر له بنص القرآن، التفرقةُ بين من وقع منه شيء، ومن لم يقع منه شيء أصلا، فإن موسى عليه السلام – مع وقوع المغفرة له – لم يرتفع إشفاقهمن المؤاخذة بذلك، ورأى في نفسه تقصيرا عن مقام الشفاعة مع وجود ما صدر منه، بخلاف نبينا صلى الله عليه وسلم في ذلك كله.
ومن ثم احتج عيسى بأنه صاحب الشفاعة، لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وتأخر؛ بمعنى أن الله أخبر أن لا يؤاخذه بذنب لو وقع منه).
ثم قال: (وهذا من النفائس التي فتح الله بها في فتح الباري، فله الحمد).

قلت: وقلما يتضَوَّعُ إفضاءُ الحافظ في الفتح مسكا على هذا النحو الصريح، فهذا - من ثم - موطن ظفَر نفيس، حري بالتقييد والتوضيح.
فمراد الحافظ توجيه حجة عيسى عليه السلام التي صرف بها المستشفعين به، وهي قوله: (ائتوا محمدا صلى الله عليه وسلم، فقد غفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر)، وهو قول يوافق مضمون قوله تعالى في مطلع سورة الفتح (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)، فجاء قول عيسى عليه السلام - بالنظر إلى أحداث الموقف - كالتفسير لهذه الآية، انتزعه الحافظ رحمه الله هذا الانتزاع الفطن اللطيف، وأبدع به نوعا آخر من أنواع التفسير، لا يقع لكل مفسر، وهو تفسير القرآن بكلام غير من نزل عليه من الأنبياء، حيث جمع بينه وبين قول موسى عليه السلام: (إني قتلت نفسا بغير نفس، وإن يغفر لي اليوم حسبي)، فنتج له من هذا الجمع وجه احتجاج عيسى عليه السلام وقوته، ثم رجح به القول الأليق بآية الفتح ترجيح المفسر البصير بما تقتضيه معارف الوحي والنبوة من دقيق الاجتهاد، خفي الاستنباط.

وهو ما ذكرني بنص نفيس جدا للعلامة الدكتور محمد أبي موسى في (القوس العذراء وقراءة التراث، ص 54-56) أن (اجتهاد أهل الاجتهاد من أئمتنا الكملة رضوان الله عليهم، لم يكن اجتهادا في استخراج مسألة من مسألة، أو في استخراج باب من باب، وإن كان ذلك نفيسا وهو علينا عزيز، وإنما كان يكون اجتهادا في استخراج علم من علم ).
اهـ من (بشرى الرفاق، وسلوى الوفاق).