رسائل الطاحونة
( الرسالة الثانية )
Lettres de mon moulin
Alphonse Daudet
للكاتب: ألفونس دوديه
• عربها: فيصل الملوحي
كان من قبل حلما طالما انتظرته، أما في ذلك اليوم فما عاد حلماً و لا انتظارا، بل صار واقعاً أحياه وأتمتّع به حين ركبت تلك العربة القديمة، لكنّ قدمها لم يؤثّر في متانتها.
في الحنطور الإمبراطوري
وصلت إلى هذه البلدة على متن تلك الحافلة الإمبراطورية الفخمة!! ( حنطور بوكير).
أتودّ – صديقي الباريسيّ - أن تنصت إلى حديثي عنها، و تسمع حكاية رحلتي فيها، و تتعرّف على شخصيّات ركابها!
كنا خمسة غير الحوذيّ
- الأول حارس في كامارغ أشعر( كثير الشعر)، قامته قصيرة وبدنه ممتلئ، وعيناه واسعتان محمرتان، وفي أذنيه حلقتان فضّيتان، تشمّ في جسده رائحة حيوان،
- ثمّ رجلان آخران من بوكير: خبّاز ويليه عجّان، بحمرة قانية يتنفّسان بعسر، لكنّ لهما طلعة بهيّة، يعلّقان وسامين ( ميداليّتين ) روميّتين ( رومانيّتين ) تحملان صورتي فيتيليوس.
- أمّا الأخير فجلس قرب السائق، كنت أحدّق فيه، وأتساءل في نفسي: هل ما تراه عيناي رجل؟! ثمّ قرّ في نفسي أنّه ما كان في الحقيقة رجلاً، إنّما قبّعة ضخمة مقرفة صنعت من جلد أرنب! قليل الكلام، أمضى وقته في مراقبة الطريق.
جمعت أصحابنا معرفة قديمة، فما كان لديهم حرج في أن يرفعوا أصواتهم وهم يتحدّثون في شؤونهم الخاصّة. روى لنا صاحبنا الكامارغي بأنّه جاء من نيم هرباً من التحقيق في قضيّة ضربِه راعياً بمذراة، لقد كان دمه حامياُ في كامارغ.
أمّا صاحبانا البوكيريان فتحدّثا وهما يتجادلان عن احتفائهما بالسيّدة مريم البتول؟! فالخبّاز- كما فهمت من حديثه - أقام مدّة غير قصيرة في أبرشيّة، ونذر نفسه فيها لخدمة صورة السيّدة مريم البتول وبين ذراعيها طفلها عيسى ( اليسوع )، التي كان أهل البروفنس يسمّونها الأمّ الحنون. والطحّان كان ينشد على منصّة كنيسة عصريّة جدّاً مخصّصة للحبَل بلا دنس، ونذر نفسه فيها لخدمة صورة بهيّة مبتسمة ظهرت فيها ذراعان ممتدّتان، وكفّان فيّاضتان بالنور. فوقع النزاع بينهما. كنت أصغي بكلّ جوارحي لأتعرّف على حقيقة الاختلاف بين الفضيلتين الكاثوليكيّتين، وتفسير كلّ منهما لصورة السيّدة مريم البتول التي آمن بها، و تمجيده لها. كلٌّ يُمجِّد دينه: أصورة الأمّ الحنون أفضل، أم صورة الحبَل بلا دنس، فما أفاداني بشيء وما توصّلت إلى الحكم: أيّهما الصحيح!
احتدّ نقاشهما، حتّى خشيت أن تخرج السكاكين من مخابئها، لولا أنّ الحوذيّ تدخّل بحُنكته لفضّ النزاع فقال وهو يضحك:
دعانا من صورتيكما، و أريحانا من هذا النقاش، ما كلّ هذا إلا سوالف حريم، و عيب على الرجال أن يهبطوا إلى هذا الدرك من الإسفاف!
ثمّ بهزّة من سوطه أوحى بالشكّ بهذه الفكرة، فسكت الجميع يقرّون برأيه !
بمثل هذا الأسلوب الحكيم أنقذنا الحوذيّ من المأزق، لكنّ الخبّاز أراد أن يتخلّص ممّا تبقّى من عنفوانه، فانقلب إلى تلك القبّعة المحشورة في الزاوية ببؤسها وصمتها وحزنها، وقال
لها وهو يسخر: وامرأتك، أنتَ، يا أرعن، ما الأبرشيّة التي تتبعها؟
لا يخفى أن في كلام الرجل سخرية لاذعة، جعلت كلّ مَنْ في العربة يُفجِّرون ضحكة مجلجلة. أمّا صاحبنا فلم يهتزّ، ولم يضحك، فكأنّه لم يسمع شيئا! فلمّا رأى الخبّاز منه ذلك التفت إليّ قائلاً: أيّها الرجل، أتعرف امرأته؟إنّها من أتعس النساء اللائي يعشن في أبرشيّة، فوالله مالها من مثيل في بوكير.
تكرّر الضحك، ومع ذلك لم يهتزّ صاحبنا، و ظلّ يردّد بصوت خفيض دون أن يرفع رأسه: اخرس، أيّها الخبّاز!
لكنّ هذا الخبّاز الملعون ما كان يرغب في السكوت، وكرّر فعلته بكلام أملح:
أيعقل ألا يضيق صاحبَنا بامرأةٌ على هذه الشاكلة: لا يمكنها أن تجد وقتاً للاستماع إلى همومه، و لا تسلم حين تذهب إلى عملها ممّن يُؤذيها أذى عنيفاً مهيناً ، ولا تتخلّى عن سفرها إلى أسبانيّة بصحبة تاجر ( شوكولا)! ألا ترى في هذه الحياة الزوجيّة غرابة؟! هل يتخيّل أحدكم أنه لم يمض على زواجهما سوى عام واحد!
هي تسافر، أمّا هو فيلزم بيته وحيداً إلا مع دموعه وشرابه، فيتخيّل كلّ من يراه أنّه مجنون. وسيّدتنا الحسناء تعود كلّ حين إلى بلدها في زيّها الأسبانيّ تعلّق عليها طبلاً ذا أجراس، و أمّا رجلنا المهجور فنظنّ به الظنون، نخشى أن يقتلها، فننصحها أن تختفيَ عن نظره، ولكنهما يخيّبان الظنون.. انظر إليهما و قد أفضى بعضهما إلى بعض في هدوء وسكينة، وأخذت تعلّمه الضرب على دُّفها ذي الجلاجل!
و بدون أن يرفع صاحبنا رأسه يكرّر - وهو قابع في ركنه - كلمته بصوت خفيض: اخرس، أيّها الخبّاز! فأخذتنا نوبة أخرى من الضحك,
لكن الخبّاز لم يأبه إلى قوله، وتابع كلامه لي:
أتحسب –سيّدي – أنّ سيّدتنا الحسناء ثابت إلى رشدها بعد عودتها من أسبانيّة؟! لا، لا، ما كان ذلك، فقد ألفت هذه الأمور، وألفها زوجها معها! فبعد الأسبانيّ جاء ضابط، ثمّ بحّار من الرون، ثمّ موسيقار، وبعدها، من؟ لست أدري! ولكنْ لماذا لا ننظر إلى هذا السلوك من جانبه الحسن ؟ لماذا لا نتمتّع بهذه الملهاة التي تتكرّر في كلّ حين: المرأة تذهب، والرجل يبكي، ثمّ تعود فيسلو! أتصدّق أنّ زوجاً يصبر على امرأة مغرورة بجمالها، لا تخلو من رعونة، عصفورة مغرّدة حبّوبة حيويّتها شديدة ، ذات بشرة بيضاء وعينين كستناويتين (بُنيّتين ) تثبِّتهما على الرجال وهما تضحكان لهم.
( ألا ترى معي– صديقي الباريسيّ - أنّ بوكير بلد يفرض عليك زيارته!؟ )
آخ، ثمّ آخ منك أيّها الخبّاز، أرجوك، اصمت.. ويكرّر الأرعن المسكين قوله بصوته الذي يوحي بالتمزّق والاضطراب!!
في هذه اللحظة توقّف الحنطور عند بيوت انغلور ولم أنتبه إلى نزول البوكيريين، فما زال صوت الخبّاز الضاحك يملأ الساحة أمام البيوت.
بدا الحنطور فارغاً بعد أن غادره البوكيريان. والحارس الكامارغيّ الذي تركنا قبله. وأخذ الحوذيّ يتمشّى بجانب أحصنته.. كنّا وحدنا على ظهر العربة، أنا والأرعن، كلُّ في زاويته مطبقَيْن شفاهنا. كان الجوّ من حولنا حارّاً، وجلد الكراسي تحتنا ملتهبا. كنت أحسّ في بعض اللحظات بأجفان عينيّ تنطبق، وبرأسي يثقل، و لكن لا سبيل إلى النوم. كانت عبارة صاحبنا: <أرجوك، اخرس..!> تتردّد في أذنيّ شديدة الإيلام، ولكنّها شديدة الظرف -. ولم يستطع هذا الرجل المسكين النوم مثلي. كنت أراه من قفاه بمنكبيه العريضين المرتعدين، ويده الطويلة الشاحبة كيد شيخ ترتعش على ظهر المقعد. كان صاحبنا يبكي!
وفجأة أيقظني الحوذيّ وهو يصيح:
- ها قد وصلت إلى بيتك، أيّها الباريسيّ.
- وبطرف سوطه أشار إلى تلّتي الخضراء والمطحنة المثيرة كأنّها فراشة ضخمة في أعلى القمّة!
سارعت إلى النزول..ولكنْ أحببت أن أرى وجه الأرعن قبل أن أذهب، فحاولت أن أنظر تحت قبّعته في أثناء عبوري قربه، فلمّا فهم المسكين مرادي رفع رأسه مثبّتاً ناظريه في ناظريّ، وقال لي بصوته المخنوق:
- انظر إليّ جيّدا- أيّها السيّد -، إذا سمعت في يوم قريب أنّ بائساً في بوكير ضرب أحداً ضربة قاتلة، فقل إنّي أعرفه.
كان وجها شاحباً حزيناً تبرز منه عينان دقيقتان ذابلتان دامعتان. ولكنْ لن أنسى ما أوحى لي صوته من حقد يولّده غضب الضعفاء! ولو كنت مكان تلك الرعناء لكان عليّ أن أحذر منه.