منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 3 من 3
  1. #1

    في النقد التطبيقي للقصة القصيرة جداً (3)

    في النقد التطبيقي للقصة القصيرة جداً (3)
    شريف عابدين: كتابة القصة القصيرة جداً.. كتابة الحياة
    د. يوسف حطيني
    بعيداً عن النقد:
    يعرف معظم الناشطين من عشاق القصة القصيرة جداً، كتاباً ونقاداً، الطبيب المصري د. شريف عابدين، الذي يتقدّم نحو كلّ محفل من محافل القصة القصيرة جداً، وهو يحمل على كتفه عقود عمره المديد، يجري بنشاط يغبطه عليه أولئك الذين لم يبلغوا نصف عمره بعد، ليشارك في مؤتمر هنا، وندوة هناك، أو ليشكل رابطة هنا وجمعية هناك.. كل ذلك انتصاراً لفن القصة القصيرة جداً، وسعياً لنشرها.. ومن أجل ذلك أصدر مجموعتين قصصيتين قصيرتين جداً، حملت أولاهما عنوان (تلك الحياة[1])، بينما حملت الثانية عنوان (تلك الأشياء[2]).
    وإذا كنت أدّعي، في أثناء إنشاء دراساتي الأدبية أنني أقف موقفاً حيادياً من المؤلف، فإنني أجد في مواجهة د. شريف عابدين مشكلة يعرفها من يعرف هذا الرجل، إذ ثمة مشاعر إنسانية لا حدود لرقيّها في قصصه القصيرة جداً، مشاعر نبيلة لا يدانيها إلا نبل صاحب القلم التي أنشأ تلك القصص، وفي مقاربتي لقراءة قصص هذا الرجل عيب أعترف به، قبل إنشاء هذه الدراسة.. إنه الإعجاب بشخص مزج نبل حياته، بنبل قلمه، فأنشأ عالمين متوازيين لا يمكن بسهولة الفصل بينهما.
    تلك الحياة.. تلك القصص:
    في السطور التالية أحاول أن اقرأ بعض ملامح السرد القصصي القصير جداً عند د. شريف عابدين، من خلال مجموعته الأولى "تلك الحياة"، التي اتسمت بسمتين موضوعيتين أساسيتين هما: الإخلاص لأنقى مشاعر النبل الإنساني في أشكاله المختلفة، والثانية الاعتماد على كائنات غير بشرية في السعي إلى ترسيخ تلك المشاعر، إضافة إلى ثلاث سمات فنية هي قدرتها، في معظم الأحيان، على التكثيف، ولغتها الإخبارية التي تنأى ـ بشكل عام ـ عن التصوير، والنجاح في تقديم حكايات شائقة، تقوم مفارقاتها على تقابل المفاهيم المتضادة، كالخير والشر، والفناء والعدم، والغنى والفقر والسجن والحرية، وغير ذلك من المقابلات الفنية التي تعمّق الإحساس بالفكرة التي يسعى القاص إلى ترسيخها.

    في قصة "خلاص" تقوم المفارقة على المقابلة بين مفهومي البقاء والفناء، رامزة إلى سعي الإنسان المادي النفعي إلى تحقيق طموحات نفسه الجشعة حتى الرمق الأخير، حيث لا يجد ما يسدّ توق تلك النفس إلى الجشع إلا رمي الإنسان ذاته في أتون محرقة الفناء:

    "أهال كل ما لديه في الهوة السحيقة،

    لم تكن تمتلئ سوى بما بقي:

    جسده[3]".

    في قصة أخرى بعنوان "انتقاد"، يقابل القاص بين مشاعر شخصياته المليئة بالعواطف المتناقضة، فها هو ذا السارد يشهد، مع طفله، دهس قطة من قبل سيارة مسرعة، ويحاول توجيه اللوم إلى القطة، حتى يخلّص طفله من حزن محتمل، وكأنه يريد أن يلوم الضحية، حتى يخفض منسوب الحساسية في دماء الطفل الصغير، ولكنّ مشاعره الحقيقية، تأبى في النهاية إلا ظهوراً، عندما يحدث ما لكم يكن في الحسبان:

    "القطة التي دهستها السيارة أفزعت طفلي.

    ـ لمَ الاستعجال يا قطة؟

    ـ لم لم تنتظري الإشارة الحمراء؟

    ـ لمَ لم تستعملي الكوبري أو نفق المشاة؟

    حاولت أن القي بالذنب عليها لأهدّئ من روعه. لكني حين لمحتُ اندفاع صغارها نحوها لم أستطع أن أحبس دمعي[4]".

    وثمة في هذه المجموعة قصص متعددة تقوم على تقابلٍ حَدّاه الحاكم والمحكوم (أو الظالم والمظلوم أو السيد والعبد أو السجان والسجين)، فتأتي المفارقة لإنتاج دلالة وارفة، يستلهم منها القارئ ضرورة الوقوف إلى جانب الحدّ الثاني من حدّي ذلك التقابل. في قصة "طابور الماء" حيث الماء رمز الحياة والاخضرار والتجدد، لا تقدّم الحكاية الماء للعطاش، ولكنها تحفّز المتلقي على الوقوف إلى جانب ذلك الذي يقطع الصحراء عدواً للحصول عليه، بينما يسهم العنوان في إطلاق ذلك التحفيز من عقاله:

    "اجتزت الصحراء عدواً، كي ألحق بالطابور،

    لكنني استبعدتُ

    لكوني أتصبّبُ عَرَقاً[5]".

    كما تقوم المفارقة التي تقوم على التقابل بين الحاكم والمحكوم، في وجه من وجوهها، على ازدواجية الفهم اللغوي، على نحو ما نجد في قصة "سؤال" إذ ثمة حوار فارغ أجوف بين سجين يتوق للحرية، وسجّان لا يفهم معناها، ولا مرموزاتها المختلفة، ولا يفرح من أجل منحها للآخرين، لأنه لا يدرك طبيعتها:

    "حين بدأ يفكّ قيدي متكاسلاً، سألني متململاً:

    ـ لمَ تتلهف على الخروج؟

    أجبته كأنني أحلم:

    ـ أريد أن أستنشق ذلك العبير.

    فالتفتَ لي متجهّماً:

    ـ أما لديك قنينة عطر، من الزيارة الأخيرة؟![6]"

    الحاكم والسجان والمتحكم بمصير الماء ثلاثة أوجه لمستبدٍّ واحد ينجح في تأجيج المفارقة بين طرفي المعادلة، ويشبه صاحب المزرعة (أو الوطن) الذي يستأثر، في قصة "عدل" بمطر السماء[7]، ويمنحه، حين يمنحه، مجرّداً من كل معاني العطاء:

    "أخيراً سقط المطر. ارتوت الأرض وابتهج صاحب المزرعة ببيع الحصاد. حين قصده الفقير يتلوى جوعاً بقصعته الفارغة، طلب منه ثمناً للثمار. عندما ذكّره بأن المطر هبة السماء للجميع، وأنه لم يكلفه درهماً، ملأ اله القصعة بالماء، ونهره حاسماً:

    ـ تفضّل نصيبك من المطر[8]".

    وإذا كان السيّد قد تمكّن في القصص الثلاث السابقة من اغتصاب أحلام الشخصيات، ومن حرمانهم من أحلامهم اليانعة، فقد أخفق في قصة أخرى في تحقيق ذلك الحرمان، بفضل خديعة تعاون على تنفيذها الفقراء والعشاق. ففي قصة "أرزاق" يحجب الحاكم عن الشعب زيارة الحدائق، إلا في أيام العطلات، مما يفسح المجال لتنفيذ مؤامرة طريفة يتبادل فيها الجائعون للخبز والأحلام المنافع فيما بينهم:

    "بحجة الحفاظ على الزهور، سمح الحاكم للشعب بالتنزه فقط أيام العطلات.

    اصطفّ الناس في طوابير طويلة عند أبواب الحدائق.

    باع الفقراء أماكن أدوارهم للعشاق، واشتروا بقيمتها خبزاً[9]".

    ويشكّل التعامل مع الزمن شكلاً آخر من أشكال المفارقة عند د. شريف عابدين، ويتخذ هذا التعامل صيغة طرفة، قد تكون سطحية الدلالة، كما نجد في قصة "متابعة"، حيث لا إحساس بالزمن عند المذيعة التلفزيونية، ولا وعي عندها بما تقرأ:

    "على شاشة الفضائية يظهر خبر عاجل: "نهاية العالم الآن"، تظهر مشاهد خسوف ودخان، وتُسمع أصوات أناس فزعين، ثم مذيعة تطلّ في أناقة الصباح:

    نوافيكم بالتفاصيل كاملة في نشرة المساء[10]".

    وتصبح المفارقة الزمنية أكثر نضجاً في قصة "حدس" حيث تشكّل كلُّ شخصية في هذه الحياة زمناً خاصاً بها ينعكس على ما حوله، ويؤثر فيه:

    "الصبح كان واعداً، أغراه باليوم الجميل.

    حين ارتفع ستار اليوم استاء.

    في اليوم التالي تطلّع في وجه الصبح، فوجده ملثّماً[11]".

    وإذا كان عماد المفارقة يقوم عند القاص بشكل أساسي على تقابل المفاهيم، وبشكل أقلّ على اختلاف مفهوم الزمن المجرّد أو اليبائي، فإن تلك المفارقة تقوم في بعض قصصه على التضاد القائم بين المفاهيم السائدة بين البشر، وتجسيدها في كائنات غير بشرية، عبر اللجوء إلى التشخيص والأنسنة والتجسيد، ويمكن أن نلمس ذلك في قصص متعددة. ومن ذلك قصة الدودة والعصفور التي حملت عنوان "دغدغة"، حيث تمارس الدودة خدعة تشبه تلك الخدعة التي مارسها الديك ضد الثعلب في الأدبيات التراثية:

    "ملتقطاً دودة الأرض، أخذت تبثه الغرام: يا لسعادتي، أيّها الكائن السماوي، لقد سموتَ بي، لا تليق بك كائنة أرضية مثلي.

    حين خفق قلبه، وهمّ بفتح منقاره، أفلتت[12]".

    وفي قصة "صراع" يمنح القاص بطولة قصته المطلقة إلى وردة، تقف في مجابهة المعجبين الذين لا يعرفون من صفاتها سوى أنها أنثى مانحة، قادرة على إعطاء الرحيق، حتى ولو أدى ذلك إلى موتها:

    "حين هممتُ بقطفها استعطفتني، صارحتها بعشقي لرحيقها، همستْ مشفقة:

    ـ لستَ وحدك.

    قبلما تلفظ أنفاسها تأوّهت، فهاجمتني أسراب النحل[13]".

    * * *

    في النهاية لا بد لي من التأكيد، على الرغم من أن الدافع لكتابة هو ذلك التلازم الإنساني النبيل بين القلم وصاحبه، أنّ ثمة سمات بنائية بالغة الوضوح في تجربة د. شريف عابدين يمكن اختصارها في قدرته على التكثيف في معظم ما يكتب، وتقديم حكاية مشوقة، يحسن في كل مرة صناعة مفارقتها، بأشكال متنوعة وغنية الإيحاء.

    [1] شريف عابدين: تلك الحياة، قصص قصيرة جداً، التنوخي للطباعة والنشر والتوزيع، الرباط، ط1، 2012.
    [2] شريف عابدين: تلك الأشياء، قصص قصيرة جداً، 2013.
    [3] شريف عابدين: تلك الحياة، ص30.
    [4] المصدر نفسه، ص19.
    [5] المصدر نفسه، ص85.
    [6] المصدر نفسه، ص72.
    [7] تذكرني هذه القصة بقصة قصيرة جداً لعدنان كنفاني عنوانها "أنا"، يقول فيها: "تلبدت السماء بالغيوم واسودت، لمع البرق، وقصف الرعد، وهطل المطر بعد طول انحباس.. خرج الناس من بيوتهم للاستمتاع بالخير المنتظر.. فجأة انتصبت مظلة كبيرة.. كبيرة جداً.. غطت سماء المدينة، وساقت الماء الهاطل بغزارة إلى مكان واحد".
    [8] شريف عابدين: تلك الحياة، ص83.
    [9] المصدر نفسه، ص43.
    [10] المصدر نفسه، ص29.
    [11] المصدر نفسه، ص51.
    [12]المصدر نفسه، ص22.
    [13] المصدر نفسه، ص41.

  2. #2
    طبيب وشاعر من سوريا دير الزور
    تاريخ التسجيل
    Mar 2008
    المشاركات
    3,402
    ما شاء الله د. يوسف بحوث أدبية عالية المستوى
    التكثيف بعبارات سليمة جزلة والمقابلة والهدف النبيل...
    بارك الله بك وبدراساتك وجزاك خيراً

    هل يمكننا التعرف على كيفية إنتاج قصة قصيرة من إنتاجكم عملياً وكيفية تحديد طولها وطبيعة عباراتها وهدفها ؟
    واتقوا اللَّه ويعلمكم اللَّه واللَّه بكل شيء عليم

  3. #3
    نعم حسنا ساوافيك قريبا ولك الشكر للاهتمام.

المواضيع المتشابهه

  1. في النقد التطبيقي للقصة القصيرة جداً (11)
    بواسطة د.يوسف حطيني في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 08-24-2013, 06:03 AM
  2. في النقد التطبيقي للقصة القصيرة جداً (2)
    بواسطة د.يوسف حطيني في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 08-21-2013, 03:53 AM
  3. في النقد التطبيقي للقصة القصيرة جداً (6)
    بواسطة د.يوسف حطيني في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 08-21-2013, 03:47 AM
  4. في النقد التطبيقي للقصة القصيرة جداً(8)
    بواسطة د.يوسف حطيني في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 08-21-2013, 03:41 AM
  5. في النقد التطبيقي للقصة القصيرة جداً (1)
    بواسطة د.يوسف حطيني في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 08-21-2013, 03:35 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •