11:49
على الرغم من أن هذا المقال , لا يقتصرفيه البحث على "السريالية الصورية فى بيت شعر للمتنبي" , بل هو يبحث في معنى الصورة في الفن على العموم , والسعر بخاصة, قديما وحديثا, وتطورها من خلال نماذج شعرية متنوعة , إلا أننا تكريما للمتنبي , آثرنا الابقاء على العنوان ,متخصا به دون سواه , على ما في ذلك من مفاجأة لمن يعرف شعر المتبي وخصائصه فى الشعر,وهي أبعد ما تكون عن السريالية.
والمتنبي قال بيتا واحدا فريدا في الشعر، من ألف عام خلت على وجه التقريب، ولم يقل هو مثله في سائر شعره، ولم يقل سواه مثله أيضا، ولعله في هذا البيت، استبق زمانه بأكثر من ألف عام، في تأليف صورة سريالية في الشعر، لم تعرف مثلها سوى العصور الحديثة.
ونقصد بالسريالية الصورية، إدخال عنصر السريال - Le Surriel- في تأليف الصورة. والصورة على أنواع، فإما أنها مرتبطة بالتصوير كفن قائم بذاته وعناصره، ذي تاريخ غربي وعالمي معروف، وتظهر سماته فيما يسمى اصطلاحا بالفن التشكيلي. وهو فن حديث العهد عربيا، قياسا على عراقته في أوروبا، وتنوعه في العالم... أو أنها (أي الصورة )، جزء من تركيب مشهدي سينمائي أو تليفزيوني أو مسرحي. أو هي عنصر من عناصر نص أدبي (قصيدة أو قطعة نثرية أو قصة.. الخ )، فقد كان فيثاغورس اليوناني ينظر الى الشعر، قديما، على أنه هندسة صورية ونفعية في آن، أي أن القصيدة ليست سوى تركيب صوري بإيقاعات وأوزان محددة. وكان يقول إن الكون برمته ليس سوى "نغم وعدد"، وتحدث عن موسيقى الفلك. ومثله أرسطو في كتابه "الشعر" وأفلاطون في "المائدة "، فهما يعولان على الصورة في فن الشعر، وهي لدى أفلاطون، بنت المخيلة، وتدخل كعنصر من عناصر تمثيل الواقع أو مثاله.
والصورة، كأداة من أدوات الشاعر، قديمة جدا. وهي تدخل في الوصف والتشبيه والاستعارة. وكانت ملتصقة بالمحسوسات البصرية ذات الأشكال والألوان، ولم تصل لمرحلة التجريد الصوري، من جهة، وللتأليف الصوري من جهة ثانية، إلا مع تطور الفكر والمخيلة البشريين، والتجارب الشعرية. ترى امريء القيس الجاهلي يبدأ معلقته بتشبيه الليل بموج البحر المتراكب المتعاقب عليه لكي يبتليه، ثم يستعير له صورة جمل كبير يتمطى بصلبه، ويردف اعجازه وينوء بكلكله... هكذا يتحول الاحساس الذاتي للشاعر بالهم، الى صور محسوسة مترادفة متوالية من بحر وصحراء معا وربما أضيفت صور السماء والنجوم والرمال وخرائب الديار الى صور الشاعر في جاهليته. كما أضيفت صور المعالم المدنية فيما بعد، ليبقى الاطار العام للصورة في خطه الأساسي، وحدود المصدر والدور، حسيا، قليل التجريد، بل قليل التحوير. فأصل الانطباع للصورة في الشعر أصل بصري وحسي، وبقي هذا الأصل ضاغطا على النص الشعري بهذه الصفة، حتى العصور الحديثة، حيث طرأ تغيير جوهري على معنى الصورة ودورها من خلال الاختزال والتحوير، كما من خلال التجريد والتركيب. فانتقالها من الانطباعية الى السريالية مر بمراحل كثيرة. ولعبت عناصر المكان وسحريته (كالصحراء مثلا) أدوارها الفاعلة في هذه النقلة، إضافة للدور الأهم والأكثر حسما وهو تحرير المخيلة من أسر الواقع، والتجاؤها للحلم كبديل عن الواقع.. فيما هو فوقه أو بعده.. فحل السريل ( (Le Surriel (المافوق الواقع ) محل الواقع ,(Le Reel) ) وحل المابعد التاريخ (الميتاتاريخ ) محل التاريخ.
إن المخيلة الصورية هي المحرك لعوالم شعراء كثر حديثين ومعاصرين، وهي تضاهي الغريزة اللغوية في صنع النص الشعري، من "ادغار ألن بو" الأمريكي، حتى "غارسيا لوركا" الأسباني، وصولا لأدونيس "العربي"، وسواهم.
يقول لوركا في إحدى قصائده "القمر يدق دفوفه "، ويصور الكنيسة الجالسة على الأفق وهي تدمدم "كدب منقلب على ظهره ". وغالبا ما يجسد لوركا الصور في قصيدته، أو يجاورها مجاورة سحرية، وربما تركها لتفاعلها الذاتي:"تحت القمر الأسود/ صرخة / وفرن نار طويل ". وهو يضرب على كافة مضارب الحس: المضرب البصري لتوزيع الكتل، مثل قوله: "المركب في البحر/ والحصان على الجبل / تحت القمر الغجري/ الأشياء تنظر اليها/ وهي لا تنظر الى الأشياء".. والمضرب اللوني من الحس البصري: "عيناها خضراء/ صوتها بنفسجي" أو كقوله "خضراء/ هكذا أبدا أحبك خضراء/ الريح خضراء/ الغصون خضراء/ لحما أخضر/ شعرا أخضر/ وعينين من فضة باردة.."
وتبدو لدى لوركا الصورة أحيانا قارعة «قلبي ينزف مثل نبع "، لكنه يبقى واقفا دون الصورة السريالية أو التركيب السريالي للصور.
ولو التفتنا بنقلة طويلة المدى والمكان، الى مشهد صوري يبتكره الشاعر اللبناني حسن عبدالله، لرأينا السريال يتدخل من خلال تشكيل سحري طفولي، ما يوقعنا في الدهشة الشعرية، فيقول في "الدردارة ":
"طائر في الجو/ لكن طابة في الجو/ لكن جدتي في الجو...".. فهذا الشيء الذي يصوره الشاعر ويقول مباشرة إنه " له»: "هذا الشيء لي " ويسميه العالي، هو هذا السحر التصويري بالذات، الذي يبدأ بطائر في الجو، ينقب فجأة الى طابة في الجو، لكنه في النتيجة ليس سوى الجدة في الجو. فالمخيلة الصورية هنا هي مخيلة تشكيلية سريالية بامتياز.
مثل ذلك الشاعر العماني سيف الرحبي، في مجموعته الشعرية الصادرة له حديثا بعنوان "يد في آخر العالم " فالصورة المجسدة والهائلة التي يمنحها العنوان لليد البشرية وهي تنتشر الى آخر العالم، تذكر بسريالية سلفا دور دالي المضخمة، حيث في إحدى لوحاته، حصان ينطلق من نافذة مفتوحة في أعلى برج، واتجاهه في الفضاء، ينطلبق على صورة بوق. كذلك للرحبي، في الديوان نفسه، استناد جوهري على الصورة الشبحية المضخمة والقاسية في تقديم القصيدة. من ذلك مثلا صورة "الباشق " الذي يرسمه في مقطع من قصيدته الأولى، وهو منقض على السلاحف والأسماك والقيعان البحرية المثلمة، وفي الكهوف والخلجان، ثم ترده يحتوي الفريسة "ويلتهم الفضاء كعريس " كما يقول. والباشق، سيد الجوارح، مشرد، أو بصورة مشرد في النص الشعري الرحبي، ومسافر بين جزائر زرقاء ونيران غجر مندلعة في "مسودة أفق ".. أفق خرافي عصبي بصواعق وأمطار محتقنة. فالمشهدية الصورية الملحمية للامكنة وعناصر الطبيعة تحقن النص بحركة وروح من الهياج، وهي تتجه معه كيفما اتجه.. "مع العواصف القادمة من بحار الهند باتجاه بحر عمان المتاخم لقلاع الفرس وأناشيد الرعاة المنحدرين الى رقب الأفلاج ".
واضح أن موسيقى السرد الشعرية متأتية من تدافعات الصور الوحشية، بل البدائية، الطالعة من محلية المكان (عمان ) الذي ينتسب اليه الشاعر، (عمان بجبالها وبحرها وأفلاجها ومدنها)، فالكتابة التي هي كتابة بالصور لتحولات الأمكنة تحولاتها الشديدة والصاعقة.. متأتية من أصل مشهدي إلا أنها تعود، من ثم، فتتشكل في رأس الشاعر، أو "المسافر" في أقاليم عديدة وبلاد شاسعة حتى كأنه مشرد كوسموبليتي من مسقط الى تايلاند حيث بقايا عنادل وعناصر من عصافير وطيور.. فبحر العندمان، فبلاد الهنود فالحي اللاتيني في باريس فالإسكندرية.. المنارة والبخور.. فنحن هنا أمام ذاكرة شعرية صورية، تتدافع الى الامام والى الوراء وفي مكانها (محليتها) وفي كل الاتجاهات ويقود الشاعر مركبته الشعرية (يده ) من أصل الأمكنة، حيث الأدغال العظيمة، والشجر يرفي غصونه، وأفعى الصيف بدأت تجوالها الليلي في ضوء القمر نحو ناطحات السحاب الأرصفة أو دهاليز الكهوف.
النقلة الجوهرية والتاريخية الحاسمة التي خضعت لها الصورة في النص الابداعي التشكيلي والشعري، هي تلك النقلة التي انتقل فيها الفنان أو الشاعر من التشبه بالمشهد أو تذكره، الى تخيلة أو تأليفه بحرية مطلقة، وبلا شروط مسبقة في حيزي المكان والزمان والأبعاد.. بل نكاد نقول بقدرة تغييرية تصل به الى الهذيان أو الجنون.
لقد انتقل الفن بالصورة من الذاكرة الصورية الى المخيلة الصورية. هنا تدخل المعني السريالي كمفجر للمخيلة، أو مطلق له من عتالها.. وإطلاق قوى المخيلة، أطلق في آن، اليد واللغة لريادة ما لا يحد ويحصى وما لا يخطر ببال بشر في آفاق.
سئل بابلو بيكاسو: لماذا لا ترسم اليد البشرية مثلما رسمها رافاييل ؟ فأجاب: لأنني قادر على أن أرسمها تماما كما رسمها رافاييل، فإنني حر في أن أرسمها كما أريد.
هذا التحرير لقوى الداخل، كما يقول جورج حنين في وصفه لأصل السريالية، أو العثور على كنوز الداخل، حدد النقلة الهائلة من الواقعية الى اللاواقعية، حيث العالم الوحيد الحقيقي هو العالم الذي نتخيله لا الذي نعيشه. فالصورة الحقيقية ليست الصورة الكائنة، بل تلك التي لم تكن.. الصورة المصنوعة أو المبتكرة. فالشعر بقول حنين "هو أداة التحدي الأكبر.. ومن خلال أسراره الأسطورية يتعلم الشاعر أن يضحك في القبور، يستخدم الحلم سلاحا ضد تعاسة الواقع ". فالحلم إذن، هو أساس التحول الكبير الذي لحق بالصورة التشكيلية والصورة الشعرية معا. إذ أنهما ظهرتا في العصور الحديثة , مقترنتين اقترانا كبيرا. إنها حركة بروثون واليوار وسار وأرتو وبيكاسو ودالي معا. كما أن حركة جورج حنين في مصر وفرنسا اقترنت برسوم كامل التلمساني ورمسيس يونان وانجيلو دي ريز وسوأهم.
تنظر الى صورة من صور سلفا دور دالي ( 1904- 1989)، وهو سيد السيريالية في الفن التشكيلي الحديث والمعاصر بلا منازع، فماذا ترى:
تبدأ اللوحة من جانبها الأيسر، من كوز رمان مشقوق جزئيا (سقطت منه حبتان )، وطلع من شقه المكشوف أو اندلع - سمكة قرش مفترسة فتحت عينها وفمها بشكل واسع، وطلع من فمها، أو اندلع أيضا، نمر بتعابير هائجة مفترسة، بجانبه نمر آخر بنفس التعابير المفترسة، مندفعا نحو امرأة نائمة عارية ومستلقية على ما يشبه خريطة مجسدة لجزيرة في مياه. واتجاه النمر المفترس، تمثيلا للرغبة المفترسة، موجه نحو ذراع المرأة من خلال بندقية تنطلق من فكي النمر وينتهي رأسها غارزا في لحم المرأة الشفاف.
يتشكل في الصورة انطلاقا من كوز الرمان، مرورا بالسمكة فالنمرين فالبندقية، قوس أو نصف دائرة، يستدير فوق المرأة النائمة على مسطح، وبجانبها كوز رمان آخر، تطير فوقه فراشة صغيرة.
فإذا انطلقتا في الصورة الى قسمها الأعلى، فوق قوس النمرين والسمكة والرمان، وجدنا فيلا أصغر حجما من النمر، معلقا في سقف الصورة بما يشبه قطعة قماش، وتنحدر من قوائمه (يديه ورجليه ) خيوط أو خطوط مستطيلة مستدقة على صورة حبال صغيرة تنتهي للامساك ببعض الصورة: هناك خيط (وهو امتداد لطرف من أطراف الفيل ) ينغرس في البحر، وآخر ينغرس في ساق المرأة النائمة العارية وثالث في أقصى المشهد من جهة اليسار، ورابع في كتلة عن يمين الصورة على شكل تمثال أو ما يشبهه، مما يؤمن التوازن العظيم بين أجزاء الصورة.
الفيل صغير جميل مائي وضاحك. كأنه القدر الخرافي الضاحك من قسوة الافتراسات المتوالية والممسك بأطراف اللعبة بخيوط ممتدة من قوائمه. ألوان الفيل مائية بين أزرق وأبيض ورمادي على العموم. وهي هادئة بل ساخرة... في حين أن ألوان الرغبات المفترسة في كل من السمكة والنمرين والبندقية هي حمراء قرمزية.. تغدو صفراء مخططة بخطوط سوداء في النمرين، مع شدق قرمزي. أما المرأة العارية النائمة التي نحوها تتجه الرغبات المؤججة، وفوقها يضحك الفيل المائي المعلق.. فبالألوان الشفافة الزهرية.
حسنا: هذا هو التأليف الصوري السريالي الفذ للوحة سلفا دور دالي. وهي باختصار، منطوية على تأليف صوري لمخيلة الرسام، بعناصر من أبدع عناصر التشكيل، لجهة توازنات الكتل والألوان والخطوط والفكرة.. ما يوحي بعلاقات الافتراس في الحياة. من النبات للسمكة للحيوان للمرأة العارية.. واللعبة التشكيلية كلها ممسوكة بخيوط ممتدة في قوائم فيل مائي ضاحك معلق في أعلى الصورة، لعله القدر، أو ما هو أقصى منه وأبعد.. هكذا.. هكذا.. الآن، علينا الوصول للمتنبي، منطلق البحث ووعده. فماذا قال هذا الرجل حتى استدعى منا عمل البحث والمقارنة وبهجة هذا السفر في الصورة ؟
لقد قال المتنبي بيتا فريدا من الشعر، كما سبقت الاشارة. ولم أجد ما يشبهه في ديوان الشاعر بكامله، كما لم أجد ما يشبهه في الشعر العربي على العموم، حتى العصور الحديثة،.
والبيت ورد في قصيدة للمتنبي قالها في مديح عبدالرحمن بن المبارك الانطاكي... وهي على الوزن الخفيف، ومطلعها:
"صلة الهجر لي وهجر الوصال
نكسانى في السقم نكس الهلال
فغدا الجسم ناقصا ,والذي
ينقص منه يزيد في بلبالي"
ثم يصف بعد ذلك مسيره وأصحابه في الصحراء نحو ابن المبارك طلبا لرفده. وبيت القصيد في بحثنا هو البيت التالي الذي يصف فيه المتنبي هذا الموكب السائر في الصحراء، يقول:
"نحن ركب ملجن في زي ناس
فوق طير لها شخوص الجمال"
والصورة مؤلفة، بقليل من الايضاح، من العناصر التالية.
- ركب:أي جماعة راكبة في صحراء. ممن الركب ؟
- ملجن: أي من الجن فأدغم الشاعر الكلمتين لضرورة الوزن إنما الجن هنا في زي ناس.
- يستطرد الشاعر فيقول: الجماعة تركب الطير (فوق طير)، إنما الطير لها شخوص الجمال. فمثلما الجن بزي الناس، كذلك الطير لها هيئات الجمال.
حسنا.. فلننظر في هذا التشكيل الصوري السريالي الخرافي المعقود في بيت شعر واحد مؤتلف بجميع عناصره. فماذا نرى؟ تكفي ريشة رسام مبدع ليتمثل صورة المتنبي بتشكيل لا أحسبه يقل عن صورة سلفا دور دالي آنفة الذكر. وما نريد اضافته هنا هو أن هذه المخيلة السريالية الصورية لبيت المتنبي إنما هي وليدة عبقرية الصحراء التي مشى فيها الشاعر وسط خيالاتها وأشباحها وجنها.. فهي جزء من عبقرية المكان، على ما نرى، ولست أدري إذا كان المتنبي على وعي تام بما صنع في هذه الصورة، إذ هو فيها، غيره في سائر شعره، حيث يتفرد بأنه شاعر حكمة عربي عظيم، وصاحب فلسفة في القوة ونظرة للانسان الكامل المنطوي على الحكمة والشجاعة معا، سبق بها نيتشة بمدة طويلة، فهو في جوهره أبعد ما يكون عن السريالية.
بقلم / محمد علي شمس الدين