رحيل الكاتب السوري الكبير عبدالسلام العجيلي


--------------------------------------------------------------------------------

رحيل الكاتب السوري الكبير عبدالسلام العجيلي (1918-2006م)

* رحل اليوم الكاتب السوري الكبير عبدالسلام العجيلي، وهذه سيرة ذاتية موجزة له:
* ولد الأديب الدكتور عبد السلام العجيلي في مدينة الرقة على ضفاف الفرات شمال شرق سوريا عام 1918م، لكن الوثائق التي يحملها العجيلي تؤرخ ولادته عام 1912 ذلك لأنه غير من مواليده ليسمح له بدخول البرلمان.
* تعلم القراءة في الرقة ودرس في حلب ودمشق وتخرج طبيباً من جامعة دمشق عام 1945م.
* مثل مدينته في البرلمان السوري عام 1947م. شارك مع جيش الإنقاذ في فلسطين عام 1948م.
* شغل عدداً من المناصب الوزارية (الخارجية الثقافة والإعلام) عام 1962م.
* بدأ الكتابة بأسماء مستعارة منذ ثلاثينات القرن الماضي.
* أصدر أول مجموعاته القصصية (بنت الساحرة) 1948م.
* كتب في الشعر (ديوان الليالي والنجوم) وكتب (المقامات).
* كتب في القصة القصيرة (ساعة الملازم، الحب والنفس، الخائن، قناديل إشبيلية، بنت الساحرة، رصيف العذراء السوداء، فارس مدينة القنيطرة، الخيل والنساء، مجهولة على الطريق، موت الحبيبة، الحب الحزين، عيادة في الريف).
* وفي الرواية باسمة بين الدموع، قلوب على الأسلاك، أزاهير تشرين المدماة، ألوان الحب الثلاثة (بالاشتراك مع أنور قصيباتي)، حب أول حب أخير سعاد وسعيد، أرض السياد، أجملهن،حمى الطبيب،قطرات دم، جيش الإنقاذ.
* وفي أدب الرحلات: (حكايات من الرحلات، دعوة إلى السفر، خواطر مسافر).
* في المقالات: (في كل واد عصا، فصول أبي البهاء، ادفع بالتي هي أحسن، جيل الدربكة، أشياء شخصية).
* في المحاضرات: أحاديث العشيات، السيف والتابوت، سبعون دقيقة حكايات، حفنة من الذكريات، محطات في الحياة).
* في السياسة: فلسطينيات عبد السلام العجيلي ذكريات أيام السياسة (مجلدان 1، 2). ترجمت أعماله إلى عدد من اللغات العالمية (الفرنسية، الإنكليزية، الألمانية، الإيطالية).
* حصل على وسام الاستحقاق السوري.
* توفي في 5 أبريل 2006م.

فيلمون الضاحك

بقلم: عبدالسلام العجيلي
............................

فيلمون وهبه، الفنان الكبير الراحل، ليس بين المستمعين العرب من لم يعجب بألحانه ويطرب له، ولاسيما في أغانيه الفيروزية، ومن لم يستمتع بمشاهدة أدائه التمثيلي الكوميدي. أما جانبه الفكاهي الذي يتبدى في دعاباته ونكاته وزجله، فقد كان الاستمتاع به من حفظ أصدقائه ومعارفه المقربين. وعلى قلة فرص اجتماعي به، نظرا لتباعد المسافات والاهتمامات بيننا، فقد كانت لنا لقاءات أشركتني بفصول شيقة من ذلك الجانب الفكاهي المرح، كنت في بعض الفصول مجرد مشاهد أو مستمع، وكنت في بعضها الآخر طرفا معنيا. وفي مايلي أروي بعضا من حكايات تلك الفصول التي شهدتها أو سمعتها منه.
لم تكن تفوتني حفلة من حفلات فيروز والرحابنة على مسرح معرض دمشق الدولي أيام مواسمها القديمة في الصيف. كان من عادتي قبل بدء الحفلة أن أدخل الكواليس في المسرح لأحيي الفنانة الكبيرة وعاصي ومنصور، وأحيي العديدين الذين أعرفهم من الممثلين.. وفي إحدى المرات جئت من بلدتي، ثم إلى صالة العرض، متأخرا، فاتجهت مباشرة إلى مقعدي في المدرج دون أن ألتقى قبل ارتفاع الستارة بأحد من أعضاء الفرقة، ومن بينهم فيلمون، كعادتي.
كان دور فيلمون في مسرحية الرحابنة الغنائية في ذلك الموسم دور غنام بدوي يأتي بقطعانه من الكويت مارا بالعراق ثم بسورية في طريقه إلى لبنان. دخل إلى المسرح وهو يروي لرفاقه من الممثلين ما مر به من مراحل سفره الطويل هذا. وحين أدار نظره إلى جمهور الحضور في المدرج المزدحم وقعت عينه علي. لعله فوجئ بذلك. إلا أنه استمر في رواية حكاية رحلته بأغنامه فقال: ومن الموصل في العراق دخلنا سورية. وصلنا إلى مدينة الرقة على الفرات.. وهناك نزلنا ضيوفا لمدة ثلاثة أيام على الرجل الطيب الذي هو عبدالسلام العجيلي ..
كان إقحاماً مرتجلا لاسمي، مفاجئا لي، كما كان كذلك لجمهور المشاهدين. علا التصفيق في أنحاء المدرج ممن يعرفني وممن لا يعرف، كما استدارت الأعناق ليثبت أصحابها مكاني بين المتفرجين، ولأتلقى إشارات التحية من أيدي الكثيرين منهم. وظللت كل أيام إقامتي في دمشق في تلك الفترة يخبرني أصحابي بأنهم عرفوا بوجودي في العاصمة من تلك التحية المسرحية العلنية والجميلة من فيلمون.
ومع الرحابنة أيضا. دعوتي لحضور واحدة من حفلاتهم، ولكن في بعلبك هذه المرة. كنت يومها متقلدا أحد مناصبي الوزارية، إلا أني جئت بعلبك وحدي، وفي سيارتي الخاصة، صديقا ومتفرجا عاديا بغير أية صفة رسمية. ذلك أمر لم يتعوده الناس في لبنان من الرسميين، والوزراء في أولهم. فالرسميون يكونون في العادة محاطين بعدد قليل أو كثير من الأتباع والمرافقين.
استرحت بعد وصولي إلى بعلبك في فندق بالميرا مع بعض الأصدقاء، ومنهم فيلمون، في انتظار بدء الحفلة. فلما حان الموعد قصدت ساحة المسرح مع أولئك الأصدقاء، ومشيا على الأقدام، لقرب المكان. أقبل علينا أحد المعارف، وسمعته يصيح: ماهذا يا فيلمون؟ ما هذه المشية؟ التفتّ فرأيت فيلمون ورائي منتصب القامة، يمشي بخطى شبه عسكرية، وقد وضع يده على مقبض مسدس مغروس في خصره ظاهر للعيان. وسمعته يقول، وهو يعنيني بكلماته:
معالي البك جاي من دون زلامه (يعني أتباعه ومرافقيه كما هي العادة لكل وزير)... أنا زلمته؟
ضحكت أنا يومها وتأبطت ذراعه مترافقين إلى ساحة المسرح.
وهذه حكاية ثالثة لفيلمون لم أشهدها، وإنما هو رواها لي. قال:
كنت في الكويت أشارك في حفلة في مناسبة أحد الأعياد. وقفت على المسرح وأنهيت دوري في الحفلة بقصيدة ألقيتها على الجمهور الحافل من الحضور، المتميزين في طبقاتهم المختلفة.
أبيات القصيدة كانت هذه:
جئت الكويت مهنئا بالعيد
وحملت من لبنان لحن نشيدي
وحملت من بلد العروبة والمنى
بلد العلى والمجد والتغريد
قد جئت في طيارة وحدي أنا
خايفْ وحاطط قلبي على إيدي
ياميت هلا يا مرحبا بشيخ العرب
وبسالم وموفق وسعيد
لبنان أهلي والكويت أحبتي
ولأجل حبهما نظمت قصيدي
ما أجمل الساعات في بلد الرؤى
يا حبذا كم ساعة في إيدي!
قال فيلمون: ما أنهيت إنشاد البيت الأخير حتى راحت الساعات تتطاير في جو القاعة لترتمي على أرضية المسرح أمامي.. ساعات يد متعددة الأشكال والألوان والأثمان، قذفها حضور الحفلة، كانت من الكثرة بحيث كونت أمام قدميّ كومة صغيرة..




العجيلي أديباً وإنساناً في حياة مدفوعة الثمن

بقلم:علي العائد *
...................

العجيلي يتحدث كما يكتب. هنا تأخذ مقولة (الأسلوب هو الرجل) لبوسها في الحالتين؛ إذ الكلمتان المكتوبة والمنطوقة تصدران بذات النكهة، ولن يجد مَن تسنَّى له سماع حديث العجيلي في أيِّ موضوع كان فارقاً يُذكر بين حديثه وما يكتبه، بل سيقرأ كلمات العجيلي بصوت عميق، متتابع الكلمات، فتكاد الكلمات الواضحة النطق، الموقعة بين تلاحق أنفاسه، أن تتشابك متحدة لاهثة في محاولة مجاراة سرعة الأفكار التي يطلقها العجيلي.
تجد هذه الفكرة ترجمتها في شيئين اثنين، الكاريزما التي يتمتع بها العجيلي، ثم البيئة التي طبعت ذاكرته. فللعجيلي شخصية مهضومة وفق التعبير الدارج، ووجوده في مجلس، قبل حديثه، يشدُّ الانتباه إليه، وتتلمذه شاباً في مجلس آل العجيلي (الأوضة) في حي العجيلي في الرقة على كبار السن من أقاربه وجيرانه أكسبه مرانَ نسجِ القصص والحكايات المعاشة والمتخيلة، فهذه المجالس هي للهو والسمر قبل كل شيء، إضافة إلى دورها في حل المشاكل، وللاجتماع في حالات الفرح أو المآتم، وفيها تدور أحاديث طريفة عُرفت عن آل العجيلي، ليس فيها صفة المحرم الاجتماعي كحديث، بل وصلت في أيام ماضية إلى مجالس طرب، من أغاني الموليَّة المرتجلة على إيقاع الدفوف التي يُطلق فيها المتحاورون على بعضهم سهام التجريح وألوان التعيير في صفات جسمانية أو أخلاقية، حتى يمكن أن نطلق على هذه المجالس تسمية إذاعة أو إعلام ينشر وينتقد ويعمم تفاصيل آخر حدث اجتماعي حصل في حي العجيلي، وربما الرقة في عمومها، عبر تناقل الألسن لأبيات الموليَّة.
في هذا الجو اكتسب العجيلي شغفه بالمقامات الناقدة. وبدافع ذلك الخيال تفتح وعيه على القص، ثم كان حظه من التعليم والمطالعة رافداً لهذا التوجه، واستمر ذلك مع انتقاله إلى حلب كطالب، وانغماسه في الحياة السياسية في أواخر الثلاثينيات، ومن ثَمَّ إلى دمشق كدارس للطب.
وما كان لهذا التوجه أن يستمر ويتم لولا الموهبة الكبيرة والذكاء اللمَّاح، ولولا تلك الطفولة وأول الشباب في تلك البيئة الحميمة والمنفتحة.
ومن هنا أيضاً جاء حبُّه للسفر، فذلك الخيال كان بحاجة إلى تغذية دائمة، ولم تكن القراءة والمطالعة بكافيتين لتلبية تطلُّع العجيلي، فجال أنحاء أوروبا مستكشفاً بعقله وعينه وقلبه، فأضاف إلى مواهبه أدب الرحلات، وكانت جغرافيا ومجتمعات تلك البلدان موضوعات في رواياته وقصصه. وبين هجره للسياسة كنائب عن الرقة في نهاية الأربعينيات، وهجره للوزارات في أوائل الستينيات، كانت عيادته المستنسخة عن (أوضة العجيلي) مصدراً جديداً للواقع والخيال وللمضحك المبكي في بيئة صحراوية ما زال نصيب أهلها الجهل والعلاقات الاجتماعية العشائرية الحائرة في انتمائها بين الريف والمدينة، فالمدينة نفسها هناك، في الرقة، لا تمتلك من المدينة سوى شكل البيوت، نسبياً، واللباس.
هذا في الوقت الحالي، فالرقة حتى أواخر الستينيات كانت مؤلَّفة من بيوت متناثرة أو أحياء متباعدة. ولا أبالغ إن قلتُ: إن الرقة، المدينة/ القرية، كبرت بالعجيلي، فلا تُذكر الرقة إلا ويُذكر العجيلي، ولا تُذكر القصة القصيرة العربية إلا ويُذكر العجيلي.
ومن هنا كان اهتمام الشباب المثقَّف، في الرقة خاصة، بالقصة القصيرة؛ اقتداءً بموهبة العجيلي، فكانوا عدداً كثيرين، بل وظهر فيهم عدد من المبدعين من عدة أجيال، ابتداءً من عقد السبعينيات.
وأقول: لو تابع العجيلي مسيرته السياسية التي ابتدأها نائباً عن قضاء الرقة في مجلس النواب عام 1947م قبل موجة الانقلابات في سوريا لكان بإمكانه وضع الرقة في موقع اقتصادي وسياسي واجتماعي وثقافي أفضل مما تيسر لها، ولتقدمت بخطوات أسرع، ولربَّما كان العجيلي قد دفع ثمن ممارسته العملية لتوجُّهه العروبي، خاصة أنه لم ينتمِ إلى حزبٍ حتى في عزِّ انغماسه في دسم السياسة وثريدها، لكنه فَضَّل عدم وضع نفسه في مرمى عظام المنسف السياسي.
وفعل خيراً، فكسبته الرقة طبيباً في زمن لم تكن في الرقة مدرسة ثانوية واحدة، وكسبناه في الرقة وسوريا والعالم العربي علَماً في القصة القصيرة والرواية، وأستاذاً في طلاوة الحديث، لا يمتلك ذو إصغاء إلا توفير كل كلامه حتى يستزيد من معين العجيلي دُرراً من الذكريات، والشعر، والمُلح، ونقائض الأدباء، ومقاماتهم. وأجزم أن العجيلي، الشاعر في بداية حياته الأدبية، هو من أكسب قصة العجيلي تلك الروح الحكواتية التي تزخرف عناصر القص لديه بصور تعزُّ على الشعراء، حتى يمكن أن يتماهى السرد لديه مع ما يمكن أن نسميه القصة الحديثة أسوةً بتسميته الشعر الحديث.
ــــــــــــــــــــ
*المجلة الثقافية، العدد (106)، في 16/5/2005م.