بأدب عن أهل الأدب ..
-------------------------------
لم نسمع يوما ان الأدب متعه .. ولم نعرف ان التاريخ قراءة سهلة .. ولم يوجد مثقفا لا يقرأ ولا يكتب .. ولم يكن الشاعر عواطف ملتهبة فقط .. ولكننا نعي تماما بأن الصحافة والصحفي هم دوما الذين يبحثون في هذه الامور ويسلطون عليها الأضواء كما يسلطون الأضواء على السياسة والسياسيين وعلى الفن والفنانين .
الا اذا كان المسئول الثقافي في مستوى يؤهله للتحكيم الأدبي فالأدب في الاساس موهبة .. انه عملية خلق .. والتي اتفق الجميع على تسميتها ابداع .. فليس كل من يعلن استعداده ان يكون اديبا يصبح اديبا يكتب القصة والخاطرة والرواية والمسرحية ويعبرعن المواقف الاجتماعية بصورة اصلاحية متعالية ترفع اذواق الناس وتدعوهم الى المزيد من الحق والخير والحب والجمال .. ابدا فان هذه القدرة لا يصل اليها الا من امتلك الموهبة ..
والموهبة فطرة الهية , لم يتفق احد على تحديد هويتها اللغوية او اللفظية .. الا ان الكلمة موهوب توضح لنا ان الله عزوجل وهب هذا الانسان أو ذاك قدرة انسانية أعلى من قدرات الأخرين في التفكير بمشاكل العصر والحياة وهذه الهبة الالهية لبعض الناس من البشر تجعلنا نقول عن الموهوبين في مرحلة متقدمة بأنهم من المبشرين أى الموجهين للبشر نحو الحق والخير والجمال ..
والوصول الى الدرجة التبشيرية ليس سهلا او بسيطا ولا تكفي الموهبة وحدها للوصول الى الدرجه التبشيرية .. انما الموهبة بالممارسة والمزيد من المعرفة التاريخية والحضارية في كل العلوم والاداب هي الطريق الذي يصل بالانسان الموهوب الى درجة التبشير .. وبقدر ما يقرأوبقدر ما يكتب الانسان الموهوب بقدر ما يكون حجمه التبشيري
والعقلاني – وبهذا القدر وعمقه تختلف انماط الادباء والكتاب والمفكرين والشعراء – فمنهم من ذهب الى العالم الاخر وبقيت كلماته مربطا لأمته – ومنهم من عاش ومات ولم يبق منه سوى قصيدة حب او قصة حب ومنهم من كتب كل شئ ولا يذكر له الناس شيئا ..
ومن هذه النقطة نشأت العلاقة الحميمة بين الأدب والتاريخ – فلكي تكون اديبا يجب ان تكون مؤرخا .
وعندما تملك بين يديك الأدب والتاريخ فأنت قد وصلت الى درجة المبشرين والحمد لله رب العالمين .
فالبداية في الموهبة , وهي فطرة الهية , ولا نهاية لهذه البداية الا بالفناء .. وما بعد البداية القراءة والكتابة وبشكل مستمر ومتوازن ..
ان تقرأ وتكتب بحيث تحقق الفائدة المرجوة لعملية الخلق والابداع التي يتم تجهيزها عقلانيا مع استمرارية التفاعل الفكرى المطلوب للوصول الى الدرجة الادبية التبشيرية ثم ان الاديب الحقيقي وهو يدافع عن الحق والخير والجمال بطبيعته مثاليا والخوف الوحيد في حياته ذو شقين جبروت السلطة وجبروت النساء .. وقد كان – لسقراط – ابو الفلاسفة المثاليين تجربته المريرة مع الاثنتين ومن خلال هذا كله نقول بأن الأدب او الوصول الى درجة أديب لبست بتلك السهولة التي يعتقدها البعض منا لمجرد كتابة قصة او خاطرة او قصيدة ..
ولنتعرف مع انفسنا ومع غيرنا ان الادب بمعناه الحقيقي ومنذ الرولد الأوائل في عالمنا العربيالذين كتبوا العبقريات الاسلامية وروايات التاريخ الاسلامي بموهبة أدبية وثقافية تاريخية لم يرق اليها احد من الكتاب والادباء العرب الذين نشأوا أدبيا وفكريا في العشرين عاما الاخيرة وللاسف الشديد .
فهل هذا يعني اسقاط الجيل الادبي المعاصر من درجة الأدب التبشيري والتاريخي ..؟ اننا لسنا في موقف الحكم الأدبي على هذه النقطة الادبية الرئيسية .. لكن هناك تفاوت ملحوظ وواضح بين اديب واخر في درجة الموهبة الفطرية المسنودة بالثقافة التاريخية ( وتجاوزا يمكن القول بأن اكثر الادباء تأثيرا على الرأى العام العربي من بين الذين نشأوا فى العشرين عاما الاخيرة هم شعراء الارض المحتلة وعلى رأسهم محمود درويش البالغ من العمر الرابعة والاربعين على الاكثر سنه 1980) وهذا لايعني نسيان الدور الادبى الجماهيري الذي لعبه محمد الماغوط في الشارع العربي منذ سنه 1967
الا ان نشأة نزار قباني كانت في الاربعينات وكان لابد لمثل هذا الشاعر الاديب وبعد اربعين عاما من العمل الادبي ان ينتج للرأى العام العربي شيئا تاريخيا خالدا اكثر صدقا ورسوخا مما انتجه لنا في ادبياته النسائية قبل سنة 1967 وحتى في ادبياته الوطنية والقومية بعد سنه 1967 فكان انتاجه الادبي في عشرين عاما يتساوى مع انتاجه الادبي في اربعين عام ..
وعموما فان النسبة بين العمر الادبي الحقيقي وبين الانتاج الادبي الحقيقي تعطي التقييم السليم لكل كاتب او اديب ومدى ما يملكه من موهبة ادبية وثقافية ..
اقول هذا الكلام وقد التقت بأنماط عدة من البشر الموهوبين وقد اتفقنا على ان ما تملكه مثل هذه الانماط من قدرات عقلانية هو اكبر مما تملكه الانماط البشرية العادية .
ومثل هذه اللقاءات جعلتني على ثقة كاملة بوجود الموهبة الفطرية والتي قد تتجمد بدون الاستمرارية الثقافية والقراءة التاريخية – وفي هذا الشأن فان احد الأصدقاء من اصحاب الموهبة الأدبية العالية والذي يمكن القول بأنه من اوائل الذين ملأو الصفحات الأدبية المحلية بأجمل الكلمات واقواها في المقالة والخاطرة الأدبية او في القصة القصيرة – بدا يشعر بالجمود ويحاول البحث عن فكرة أدبية جديدة ينطلق من خلالها انطلاقة جديدة – وكان يردد دائما بأنه يبحث عن حقيقة ملموسة وواقع جديد للانسان فى كل مكان وفي اى مكان – ويسأل عن الكيفية الحقيقية في الوصول الى المثالية الانسانية – اين , ومتى , وكيف ,...؟؟؟
ولم يكن هناك أفضل من القراءة والقراءة , والقراءة , للوصول الى مزيد من المعرفة ثم الكتابة والتي ستصل به الى مايريده انسانيا من خلال الموهبة القوية التي يملكها وصديقي يملك موهبة من الدرجة الأولى ولكنه مع هذا يحتاج للكثير والكثير من القراءة .
فالموهبة الادبية لا تغنى عن الزاد الثقافية وتظل الموهبة الادبية بحاجة الى القراءة الكثيرة فاذا تساوت الموهبة مع ما امتلكته من ثقافة انسانية وحضارية ويصبح المثقف الموهوب اديبا بالمعنى الحقيقي وهذا فرق بين المثقف العادي والمثقف الموهوب في ان المثقف العادي يبقى حارسا على الأدب والتاريخ مادام لا يملك الموهبة اللازمة ليكون في صفوف الأدباء او المؤرخين بينما يتحول صاحب الموهبة الفطرية مع تزايد ثقافته الى اديب تقع اعماله تحت منظار الحراسة الثقافية – نقد وتعليق المثقفين – والمثقف لا يكون صاحب قلم بالضرورة – فهو قد يكون مهندسا او مدرسا او محاسبا او طبيبا .. الخ
وانما بالضرورة لكل مثقف يهمه التفاعل الحضارى والانساني ان يشارك برأيه بالنقد والتعليق في المواضيع الادبية والتاريخية من خلال الصحف والمجلات وغني عن القول بأن الثقافه شرط ضرورى لكل كاتب صحفي لان الصحفيين هم المدافعين الحقيقيين عن الانسان بشكل عام والذين يقفون على خط المواجهة لحراسة الادب والتاريخ بأمانة كاملة واخلاص وتفاني .
ان الوصول الى متعة الكتابة عن الاخرين والى الاخرين ليست سهلة الا على من استسهلوا الحياة بشكل عام – فالكتابة والحياة وجهان لعملة واحدة
- والكاتب الحقيقي يظل مدافعا عن الحياة حتى يلفظ اخر انفاسه – ولم نعرف ان الحياة سهلة ابدا – فهل يمكن ان تكون الكتابة عنها اقل سهولة منها ..؟؟ لا نعتقد .. الكتابة محاولة دائمة ومستمرة نحو حياة أفضل وارقى دائما .
------
الواقعيه في الادب
---------------
الفنــــــــان .. والواقــــــــع
السؤال الحائر دوما , الدائر ابدا لماذا الفن في حياتنا .. ؟؟ لا يجب ان يكون شغلنا الشاغل عن عملية الابداع الفني ذاتها .. والا اصبحنا ندور في شطحات حوارية , تدور حول نفسها , دون نتيجة , وبلا أي
معنى ..!!
لكننا اذا اردنا الغوص في هذه البديهيات الملازمة للعملية الفنية , فان الاجابة على السؤال لن تبدو كذلك , وان كانت بكل بساطة ووضوح تتجه نحو المجتمع ذاته الذي يعيش فيه المبدع او الفنان .. أي ان الفن في حياتنا هو مرآة لتطلعاتنا الاجتماعية , وهفواتنا الانسانية , واخطاءنا الاخلاقية , ومزايانا التعبيرية , كمجموعة من البشر , نفعل ونتفاعل , وننفعل , ومن حقنا ان يكون لنا فن خاص بنا يعبر عن فعلنا وتفاعلاتنا وانفعالاتنا ..!
بهذه البساطة , يصبح الفن في حياة البشر تعبيرا عن احوالهم , والانطلاق بها في اجواء انتقادية وجمالية , للكشف عن الذات البشرية , بمجهر المبدعين من اهل الفن والادب , لكن هذه البساطة في الاجابة على السؤال الحائر : لماذا الفن في حياة البشر ...؟! ليست بهذه السهولة عند التعامل معها ابداعيا .. والا اصبح الفن عملية يقدر عليها , ويتمكن منها كل من امسك ورقة وقلما , وبدأ بخط بهما سطورا في الكتابة بكل انواعها .. او اصبحت عملية الابداع الفني شيئا في مقدور أي ثري ان يشتري مستلزمات الانتاج الابداعي وتطويقها لترويج اسقاطاته المتوارثة !!
هناك فرق بين تسطيح الاجابة على جدوى الفن في المجتمع .. وبين الكيفية التي يمكن من خلالها اتمام العملية الفنية لصالح المجتمع
لماذا انت فنان ..؟! امر شخصي بحت .. وسهل على كل شخص ..! وكيف تكون فنانا .. ؟!!.. امر غير شخصي .. وصعب الا على المبدعين !!
فمن السهل ان يجيب أي متعامل مع العمليات الفنية بكافة اشكالها قائلا : بانه فنان لأنه كذلك , او لأنه يحب الفن ذاته .. او لأن الفن شهرة وثروة .. او لأن الفن هروب من الواقع , او لأن الفن تفريج عن الالم الداخلي النفسي .. او لأن الفن تعبير عن حالة الفرح بالنصر , والمشاركة في التنمية والتطوير .. اجابات عديدة ومختلفة .. لكن كيف تعبر عن ذلك كله بامتياز ..؟؟! هنا الصعوبة ..
وعندما بدأت قصص احسان عبد القدوس واشعار نزار قباني , تغزو عالم الفن العربي , بدا وكان موضوع الفن صار سهلا ومثيرا وجذابا .. واستسهلة الكثير من الكتاب والصحفيين , الذين تحولوا الى قصاصين ورواة , وطبعوا اعمالهم في كتب انيقة وفاخرة , وظنوا ان العملية ذات مقاييس محددة .. واتجاهات ضيقة , مداها الشفة , ونهايتها الساق , واطارها الاضواء الحمراء .. وجوهرها الكأس .. وهواؤها التبغ ..!!!
فخرجت اعمال هؤلاء الهواة , فجة سطحية , لاتمت للعملية الفنية بصلة ولم تكن اكثر من حواديت صحفية , او مجرد احلام يقظة تخيلوها وهم ينقلون رغباتهم مكتوبة ومطبوعة ..
ليس الفن في يوم من الايام نقلا للواقع كما تعيشه وكما تراه , بقدر ما هو لوحة تنطق بما لا يراه غيرنا , في ذاته .. او كلمة تغوص في اعماق النفس البشرية تكشف عوراتها المختزنة داخلها , والتي لا يسهل على صاحب النفس الخاضعة لنفس التجربة استنباطها او استكشافها , دون هذه الرؤية الفنية .. ان الفنان , طبيعي يتميز بشمولية الرؤية لواقع انساني معين , يخضعه للفحص والتحليل , ويجري له عمليات جراحية متعددة في المخ والاعصاب والقلب , حتى ينجح في النهاية وهو يجري تلك الجراحة الفنية بكل تفاصيلها , الدقيقة ..!!
وكلما تمكن الفنان من عمليته الجراحية , كلما شعرنا بامتيازه وتفوقه , فالقدرة على التعبير عن الحالات الانسانية المستعصية بكل معطياتها وتعقيداتها هي التي تميز الفنان عن المتعامل مع الفن , وكلما تمكن الفنان من ادواته في التعبير عن الحالات الانسانية , بسهولة والتحام ادبي او فني اجتماعي , كلما زاد امتيازه وتفوقه .. لذا يغلب دائما على الاعمال الفنية مرورها بالتجارب الذاتية , التي يضيف اليها الفن , اجواء جمالية وانتقادية غير مرئية ضمن واقع الاحداث المرئية .. والوقائع غير المرئية هي المعينة بالغوص في اعماق النفس البشرية المعايشة لوقائع الاحداث المرئية .. وهي قدرة لا يملكها الا فنان مبدع وحقيقي بالتاكيد ..!!
لقد كان امتياز محمود درويش في الفن الشعر انه استطاع الغوص في اعماق النفس الفلسطينية , وقدرته الفائقة في التعبير عن حالة العشق بين هذا الانسان وبين الارض المحتلة .. وامتياز السياب والبياني في ابداعهما , وهما يغوصان في اعماق النفس البشرية من خلال التفاعل مع الحالات الانسانية المختلفة .. وبابلو تردوا شاعر شيلي , والانسانية المعذبة , العظيم , كان تالقه في ذلك التزاوج بين ابداعه وبين الانسان ذاته .. وامتياز نجيب محفوظ في الثلاثية كان , ذلك الوضوح , وتلك الدقة في بحث التفاصيل الانسانية لشخصية السيد عبد الجواد , التي انعكست على المسار الانساني في حياة ابنائه وبناته , فكشف من خلال التزاوج الفني والاجتماعي الكثير من خفايا النفس البشرية , لانسان المجتمع العربي المصري ما قبل الثورة وبعدها بقليل , وذلك التالق الذي شد عبدالناصر لرواية الحكيم " عودة الروح " كان سره , في قدرة الحكيم , على تصوير النفس البشرية ضمن حالة الخنوع والكسل , وضمن حالة الجد والاجتهاد بعد عودة الروح للئام .. ويوسف ادريس المتميز بالقصة ذات الابعاد الانسانية ... والطيب الصالح الذي تميز بنفس الابعاد في عرس الزين , او موسم الهجرة الى الشمال وغيرها من الاعمال الفنية التي كشفت للمتلقي عن الطبيعة الانسانية لابناء الشعب العربي السوداني ..!!
لقد كان الانسان هو سر الامتياز عند الفنان دائما .. والانسان هو حجر الاساس في أي مجتمع ..
والقدرة الفنية على متابعة همومه , وافراحه , واحزانه , وآماله وآلامه في كل الاحوال , هي ابداع يتفاوت في درجته الفنانون , وهذا التفاوت في النهاية يحدد درجة الفنان , والفرق بين عمل وآخر ..
فالالتصاق الفني بالواقع , امر ضروري لعملية الابداع الفني وجدواها لكن القدرة على هذا الالتصاق , تتحدد بقدرة الفنان على معايشة الانسان الفعل لهذا الواقع او ذاك , وكلما زادت قدرة الفنان على تصوير الحالات الانسانية في مختلف المواقف , كلما وصل الى حالة الامتياز الفني المنشودة لخدمة الانسان المعذب , المقاوم , صاحب الارادة , المقهور, المظلوم , وحتى الانسان الظالم .. والانسان التافه .. تختلف قدرات الفنانين في تصويره , ووضعه ضمن الاطار الذي يستحقه .. وهذا الاختلاف هو المحك وهو القضية الفنية الاهم .. وليست القضية هي جدوى ارتباط الفن بالواقع .. لأن تلك قضية مفروغ منها .. مثل اهمية الماء والهواء والحرية للانسان .. الانسان سر امتياز الفنان .
-------------------