داخل الصندوق....
داخل الصندوق....
لم أكن أتوقع أن يمتد الخلاف بيني وبين والدي , بهذا الشكل البائس و الشديد الأثر! ولم أكن أريد أن أجادله أصلا..فله أسبابه ولي أسبابي وفارق الزمن والمرحلة العمرية تكفي سببا...,فأنا لم أرب على يديه...كنت نسيج جدتي المقدامة المغامرة الساعية إلى هدفها بقوة وإرادة نتاج طموحها وإرادتها الحديدية , ..مكوثي عندها كثيرا جعلني أشرب وأتشرب خصالها وطباعها الشجاعة بقوة ورغبة وكأنني أمام وجبة فكرية شهية لا أريدها أن تنتهي أبدا, قد استجابت للهيب اندفاعي لأكون امرأة متميزة يوما ما,وكان هذا برأيي المتواضع نتاج ورد فعل للقمع والمحدودية التي يعانيها من اعتكف صومعته واعتزل عراك الحياة! نتاج المجتمع الذكوري بامتياز.
كان والدي مهندس طيران حوصر في مركزة كنائب مدير مدة ثلاثين عاما , نعم يا لحظه العاثر,فتحجر فكره رغما , وبات المتاح هو خياره الوحيد الآن ,لم يعد يهم فعلا الآن وبعد فوات وقت طويل على تلك الحكاية , ماذا يوجد خارج الصندوق! .
يجب أن أجد خطا مشتركا بيننا ويجب أن يقنع بان تصرفاتي نابعة من المحبة الحقيقية لا لمحاولة الظهور بمظهر البطولة المفروضة ,ولا للترفع وإثبات الذات دون سبب هام! حتى لا أغنم غضبه المكلس والمعلب!
حقيقة كنت أبكي كل ليلة لأنه بات ضحية الإهمال في بيته وخارج بيته! ولأنه من الشريحة المعتدلة الاجتماعية التي جدفت كثيرا دون طائل ,إما لحظها العاثر أو لأنها فئة لم تجد مخرجا فبقيت في مكانها تنظر من بعيد... وأنا لا أحب النظر من بعيد إلا لأقدم أخيرا..
كنت أبكيه بحرقة ولا يبكيني ولا يبكي نفسه !أتراني لم المح دموعه يوما؟
حرارتي ورغبتي في كسر الجليد المتزايد بيننا كان دافعا قويا كي أهدم هذا السور الصعب, منذ زمن طويل كنت أجدف فعلا في بحر من الجليد الصلب...
-بابا أخي رسب في مادة العربي ظلما وعدوانا دعني أرمم ما بقي من نفسه المحطمة عن سبق إصرار وتدبير مدرسي خاطئ , سوف أنقله لمدرسة مهنية توافق ميوله تماما ليس مهما أن ندخل في المألوف بل الأهم أن نفعل ما ليس بمألوفٍ. لكي يصبح كذلك يوما ما بجدارة وقناعة,وثق أنني سأنجح.
-لا عليك ليذهب لمهنة ما ولكن ليس بطريقتك أنت.
- أناواثقة من أنه سيخرج للنور فلديه ذكاء لم يكتشفه أحد حتى الآن,والذكاء أنواع وأشكال!, صدقني وثق بي ولو لمرة واحدة فقط.المدرسة المهنية ملاذه وتوقه الوحيد أعرفه تماما مثل نفسي.
-لقد اشتريت ِ بيتا من نتف أموالك وذهبك وما جمعته من زوجك, فلنر ماذا ستفعلين بعد ذلك..
-العقارات في ارتفاع يا والدي سوف أكوّن ثروة حلالا بعرق جبيني, ومهما حصل فلن أخسر شيئا إنها خزين السنين, وتجارة العقارات في ارتفاع مستمر.لنتحرك مادمنا سنعمل في نطاق المعقول الواضح, والمدروس بعناية.
-مغامرة بائسة لكن لا تقتربي من ابني أرجوك ِ.
-انه أخي
-وماذا يعني أنك متزوجة؟هذا لا يعطيك الحق بالعبث في حياتنا.
-سوف ترى يا أبي , سوف ترى...لم لا أكون عونا لزوجي بشكل ما مادام موافقا على تصرفي هذا؟؟لم يكن يوما ما متطفلا على مالي وأنا أنفق منه بخياري وحدي ..
************
مازلت أتذكر تلك اللحظات الحارقة في حياتي..ومازلت عند قولي وهمتي فقد كسبت الكثير ومازالوا ضد فكري وعقلي حتى هذه اللحظة !!! ومازلت أحبهم بقوة وإخلاص!!لم كتب علينا أن نلبس عمامة الآباء قسرا؟لم لا نكن أفضل بطريقة ما؟ونضع نظارات مكبرة جديدة؟فالمشهد الحياتي يتغير باستمرار وسرعة غريبة, لم لا نحاول خوض تجربة لا تضرنا ولا تضرهم؟
-دوما تلعبين بالنار سوف تحرقك يوما ما..
والآن ..وأنا اجلس أمام جدتي في النزع الأخير أجد كم كانت روحي معلقة بها..وكأن الموت سينال مني أنا فقط! وستبقى خسارتي الفادحة..
هل سأعيش على تشجيعها على الصمود في وجه المرض ,كما كانت تفعل معي سابقا في اللحظات المحرجة؟, وهي الآن تعاني من المرض الخبيث القاتل ,وهل أقدر؟.
قد جبت العالم على يديها ورأيت ما لم يره احد؟ومازالوا كما كانوا!.
عندما لفظت نفسها الأخير وجدتني أغلسّها أولا..وأقبل وجنتيها وأضمها بحرقة وأصرخ رغما:
-لا تتركينني وحدي...
ومازلت رغم سعادتي بما زرعته في قلبي وعقلي , أبكي وحدي كما كنت منذ زمن...
ريمه الخاني 23-3-2011