- 2-
العتبات الانثوية :
دأبت السرديات المعاصرة على الاحتفاء باستراتيجيات حداثوية تسهل مهمة بناء علاقة حوارية بينها وبين المتلقي مثل الاهتمام بالبياضات والعتبات السردية واللغة الشعرية والمونولوج, وتداخل الأساليب و تعدد النصوص في النص الواحد والتقطيع المشهدي وتعدد الرؤى والتداخل الزمني ,وغيرها بحيث تتداخل الاستراتيجيات السردية والسيمائية والتداولية واللغوية في منظومة معقدة من الآليات التي تحقق للبنية السردية هويتها الأجناسية وجماليات واسهامها في تقديم رؤية ايدولوجية ترتكز الى أسطورة المبدع الشخصية .
وتعد العتبات واحدة من أهم الاستراتيجيات ذات الاهمية العميقة في بنية النص الادبي ولاسيما السردي منه وأكثرها تعقيداً في الخطاب النقدي المعاصر فلم تعد عبارة عن مجازات يلج من خلالها المتلقي للنص وتحدد جنسه ونوعه فحسب ,إنما أصبحت نصوصا محايثة للنص الأصلي تنمو وتعشب على تخومه وتحايث بناه الفنية والدلالية لتضيف له آفاق جمالية ودلالية جديدة وتشكل مفاتيحا هامة للمتلقي في فهم دلالة النص والقبض على خطاب المبدع ورؤيته للكون فهي اذا علامات سيمائية مكتفية بذاتها 10 تنهض بوظيفة إحتواء المدلول النصي على نحو عام لأنها تشكل بعده السيميائي وتسهم في بناء أفقه الجمالي.
فلم تعد ترتبط العتبات ارتباطاً سطحيا بالنص بل أصبحت نصوصا محايثة للنص تتجاور معه وتسهم في تشكيل بنية النص ومنظومته السردية التي ترتكز الى مجمل رؤية الكاتب ووعيه وأيدولوجيته ,بل حتى مكونات لا وعيه نراها تشظى هنا وهناك في النص وعتباته من خلال أسطورة الكاتب الشخصية ,فقد أصبحت العتبات في علاقة متشابكة مع النص بل أحيانا تضيف مدلولات جديدة غير تلك المدلولات القارة في المعجم والمتمكنة 11 في الذاكرة الجمعية من خلال الإيحاء والترميز فهي مظاهر دلالية وجمالية لا يمكن الاستغناء عنها ,بل يجب توظيفها على الوجه الأكمل في النصوص . إبتدءاً من العنوان الرئيس الى العنوانات الثانوية والاهداء والمقدمة باختلاف أنواعها فهي أرض بكر يمكن للمبدع استثمارها بحسب وعيه ,واهتماماته واسلوبه رؤاه الايديولوجية ,فهي استراتيجيات هامة يستثمرها المبدع في محاولة تأسيس حوار مع القارئ بوساطة النص وعتباته ,وذلك لأنها حالة نصية لها امتداداتها البنيوية داخل مبنى النص أو هي أمشاج ضوء تنتشر في النص كي تضئ دلالته وتكشف المخبوء تحت بنى النص ولغته .
لقد أصبحت العتبات السردية مفاتيحاً نقديةً يستطيع القارئ / الناقد استثمارها في دأبه لسبر أغوار النص واستكناه بناه العميقة ومسالة دلالاته المركزية واستنطاقها وتأويلها , إنطلاقا من جملة الوظائف التي تهض العتبات بها فهي تعين النص الادبي وبتين جنسه ونوعه وتوصفه وهي المركز الذي يحدد هويته النص وبنيته الاجرائية وكذلك هي عامل إيحاء رمزي من خلال بنية العنوان وأيضا هي عامل إغراء للمتلقي لقراءة النص 12والتحاور معه والبحث عن رؤى النص وآفاقه الجمالية والدلالية.
ولما كان الأدب الأنثوي يحاول استثمار الامكانات الادبية والاستراتيجيات النصية كلها من أجل إثبات ,وجوده وتحقيق غايته من أجل نشر أيدولوجيته فلابد له من أن ينتج منظومته الادبية والنقدية والاصطلاحية الخاصة به ومنها العتبات النصية.
فقد حاولت الكاتبة استثمار هذه الأستراتيجيات من أجل رسالتها الانثوية لذلك ينبغي اختيار عتبات مناسبة لرؤيتها ووجهة نظرها الأنثوية ولعل هذا ما سنحاول تقديمه في قراءتنا هذه .
- 3-
ترتكز مجموعة (إمرأة بزي جسد ) الى عنوان مركزي يتكون نحويا من جملة إسمية إبتدائية تبدأ بامرأة /إسم علم مبتدأ يشير دلالياً الى مطلق المرأة لكنه يتعرف بالمسند اليه وهي شبه الجملة الخبرية (بزي جسد) لتكمل الدائرة الدلالية الثابتة بثبوت الجملة الاسمية لتقدم إرهاصاً رؤيويا ينهض على رفض التصور الذكوري للمرأة بانها جسد محض بل هي إنسان لها عقل وموقف وعواطف وعقل ورؤية وترفض ان ينظر لها بانها جسد للمتعة واختصار إنسانيتها بجسدها فحسب , مما يحولها الى موضوع رغبة فحسب ولعل ما يفسر ذلك لفظة (بزي جسد) فقد حولت الجسد الى زي ,وشكل خارجي فحسب لذلك هي ترفض هذا الجسد والنظرة اليه على أنه مقدس مرة ومدنس أخرى بحسب النظرة البطريركية للمرأة وهكذا تشير الكاتبة الى انها تعمل من اجل المرأة الذات التي تعمل وتفكر ولها رؤيتها الانسانية وموقفها المستقل من الخطاب البطريركي وتحاول أن تنتج خطابها الخاص الذي يتضح اكثر في العتبة الثانية (الإهداء) التي تشير الى رؤية إنسانية وموقف أيديولوجي من الحياة بقولها (بين الولائم ثمة روح تحتضر، أو تنتظر التفاتة ضمير لذا...لا أطمحُ إلا لمعاتبةِ قمح الإنسانية على كفرهِ.)13 من الواضح أن هذا الاستهلال إنما هو موقف انساني من الفروقات الطبقية الإجتماعية وسلطة المال التي ما تزايدت ونمت إلا على آلام الفقراء وصرخات الجياع من خلال الترميز بالولائم التي تشير الى الفروقات الاجتماعية الحادة فبين الولائم نجد أرواحا تحتضر جوعاً وقهراً وأخرى تنتظر التفاتة إنسانية التي قد لا تحصل إبداً ولعل معاتبة القمح هي معاتبة للدنيا وخيراتها التي تضل طريقها وتذهب الى فئة قليلة ربما هم سلطة أو لصوص أو بطون اتخمت من جوع الاخرين .
وعلى هذا النحو نرى الترابط بين العنوان الإهداء في رؤية الأنثى الأيديولوجية التي تخلصت من جسدها بوصفه زيا نسائيا عرفت به المرأة واختصرت إنسانيها به الى صرخة إنسانية تنحاز للفقراء بحب وكأنها تذكرنا بعصر الامومة الذي ما انفكت فيه المرأة من رعاية ابنائها وحمايتهم وتنظيم المجتمع على نحو عادل بلا أي تميز بعكس النظام الذكوري البطريركي الذي جلب معه الحروب والتميز والفروقات الاجتماعية 14.
ولعل هذأ أهم ما يميز الأدب الأنثوي لوفاء -عبد الرزاق -عن غيرها من الاديبات في الوقت الذي تثور فيه بقية المبدعات على جزيئة من النظام البطريركي_ وهي النظرة القامعة والقاصرة للمرأة , نرى وفاء عبد الرزاق تثور على بنية النظام البطريركي كله في نظرته للمرأة او للمجتمع ككل حيث الاستغلال والاضطهاد والفروقات بين بني البشر وانعدام التوزيع العادل للثروة والحروب والقتل والدمار ولعل هذا ما يفسر صرخة الكاتبة بوجه قمح الانسانية / خيراتها ووصفها بالكفر لأنها حرمت الكثرة وأتخمت القلة ,وهنا يتعاضد كل من العنوان والاهداء في إنتاج الدلالة وتقديم هذه الرؤية/ الصرخة الانثوية التي تشتغل على إنتاج ثنائية المرأة/ الانسان بدلا من المرأة / الجسد التي يحولها الى زينة وزي لا قيمة إنسانية عليا .
وهكذا تتبدى العتبات المركزية في هذه المجموعة بوصفها صورة أيقونة تحاول جمع أشتات15 السرد المتشظي في المتن وتجمع شتات ما تشظى وتضفي الدينامية على بنية السرد في هذا المبنى السردي وأيضا تحاول الجمع بين الذاتي والجمعي ومشكلاتهما كما سنرى في العتبات الداخلية لهذه المجموعة .
تبدأ المجموع بقصة بعنوان (لي لها لا أعرف)16ينطوي هذا العنوان على تساؤل يحمل صوت الأنثى التي تبحث عن نفسها في ذاتها, و أعماقها بحثا عن شخصيتها ورحها وأحلامها وأفكارها, فتشخص ذاتا اخرى وتحاول مراقبة هذه المرأة التي تعيش معها وتستخدم اشياءها حتى عطرها المفضل , و يشي هذا العنوان بانشطار الذات الانثوية لذلك نرى ترادف الضميرين (أنا /وهي ) مضاف لهما لام التملك فهذه الروح وهذا الجسد ملك من الانا ام الهي ومن ثم تأتي الصرخة الأنثوية اللائبة لا أعرف ....فهي إذاً رحلة البحث عن الذات التي تشعر بالوحدة والاغتراب عن العالم الذي لم تجد فيه أحداً يرافقها إلا ذاتها .
أما عنوان قصة ( أربعة أقدام وسطح) 17 فيتشكل من ثناية القدم/ والسطح ليحيل رمزيا الى ثنائية الأعلى والأدنى تحاول فيها الأقدام الوصول الى السطح وهي قصة حلمية رمزية تحاول أن تقدم صراعاً بين طبقتين العليا في السطح والدنيا التي تحمل الجسد وتتنقل به من مكان لا آخر وبدونها يصبح الانسان عاجزاً عن الفعل والحركة ومع ذلك تبقى دوما في الأسفل ومهما حاولت الوصول للسطح بلا جدوى فهي رمز للطبقة الاجتماعية الدنيا التي تسير المجتمع وتخدمه بل هي روح المجتمع وصانعة الحضارة ولكنها تبقى في الاسفل ولعلها ايضا المرأة التي تحمل هم المجتمع وترعى أبنائه وتخدمهم وبدونها يصبح المجتمع كسيحا لا قيمة له بل آيلاً للانهيار والاندثار لكنها ايضاً تبقى في السُلمة الاخيرة من المجتمع و تعيش في صراع مع المجتمع القامع لها ونظامه الذكوري الذي يخاطبها قائلالا يخجلني ما أخفيه عنكِ كي أنظر إليك إشفاقاً، فأنا في الدرجة الثلاثين وأنت مجرد قدم يراودها حلمها الملتهب لرؤية قمر السطح، ستبقى هذه الرغبة تنهش أحشاءك.
لا، لن أسمح أيتها العفنة أن تعكري صفو بهجتي، إن رغبتِ مرافقتي كوني صامتة، لا تنسي، ها.. كوني صامتة، أقدس ما عندكِ الجري، واللهاث)18يشير هذا النص بوضوح الى الصراع الاجتماعي بشقيه الطبقي , والإنساني في نظرته المتعالية القامعة للمرأة من خلال لغة تقرر بوضوح الاستهانة والاستصغار بكل ما هو مؤنث وتصويرها بكلبة ومطالبتها بالموت صمتاً والانزواء لأنها تزعج من يرافقها او ربما صوتها عورة.
تحيل عتبة العنوان في قصة(مقلوب سائق) 19 الى رؤية دلالية تحاول قلب الحقائق اليومية المعاشة من خلال رمزية تحول السائق الى مساق /القائد الى مقاد فسائق السيارة يتحول الى سيارة وواسطة نقل للسيارة نفسها تتنقل به الى حيث شاءت هي السائق وهو يحملها على ظهره يسير فيها بالشوارع والمدن ويحملها الى حيث تريد ومن خلال هذه الرؤية الرمزية تحاول المبدعة تحقيق أمرين الأول والواضح جداً من خلال سير الأحداث وتعدد أنواع السيارات التي يحملها السائق على ظهره هو فضح الفروقات الاجتماعية و فضح السلطة أيضا ًو التركيز على تفككها الاجتماعي من خلال الخيانات الزوجية التي تشير اليها أحداث القصة أما الأمر الآخر والمهم والذي يختفي تحت ظل بنية العنوان اللغوية ,فمقلوب سائق. تحل الى تحول السائق / المذكر الى مساق تقوده سيارة / مؤنث وهذه البنية اللغوية تحيل الى محاولة الانثى التحكم بمقود السيارة موقد الحياة وهي تسير الحياة على النحو الذي يذكرنا في العصر الامومي _كما بينا سابقا_ وعلى الرغم من عدم وجود اشارة واضحة لذلك فان القراءة الصحيحة للبنية اللغوية المنبثقة من لاوعي الكاتبة تشير الى هذا التحليل على نحو جلي .
ويتميز عنوان قصة (تحت ظل البياض )20 بلغته الشعرية الجميلة التي تتميز بخلق صورة استعارية مميزة تحاول أن تجعل للبياض ظل وهذه الرؤية تنهض على رمزية البياض الذي يحيل الى نقاء الروح وصفائها فالراوي / الأنثى هنا تبدأ قصتها بحلمها الدائم ( أحلم دائماً كأنني كاهنة بينها وبين الله مسافة الروح) 21 بحثا عن المرأة ذات العمق الانساني والتي تتعامل بحنان ولطف ونقاء مع الكون, لاسيما وأن سياق السرد يشير الى تعاطف الراوي/ الأنثى مع شباب منغولي يلتصق بها ويحاول إزعاجها وبشبقية رجل لا يعرف من حياته شيء إلا تلك الغريزة الكامنة في داخله فما أن رأى المرأة حتى (مد عنقه صوب عنقي /ها/ تشم رائحة عطري/ها ,فرك منخاره الافطس كأنه شم حليبا وساح زبد فمه مما أضطره الى لمسه بكم قميصه المقلم .مد ذراعه خلف ظهري/ها تاركا راسه على كتفي/ها مثل طفل)22 . يكاد هذا المشهد القصصي يلخص رؤية الكاتبة ونظرتها الى الرجل بوصف انسان شبق لا ينظر للمرأة إلا بوصفها جسداً مثيراً للشهوة لا غير ومع ذلك فيهي تقابله بنظرة إنسانية تتعاطف مع غياب عقله فالمرأة هنا أم/ إنسانية والرجل فاقد كل شيء إلا شهوته فما هو إلا (طفل وجسد رجل منغولي شبق) 23نلاحظ هنا ثناية الطفل / الرجل بحسب الرؤية الانثوية للكاتبة ففي طفل تبدأ بالتعاطف الامومي معه أما عندما يكون بجسد الرجل فهو مجرد منغولي فاقد العقل لتحيل الى رؤية للرجل تتشكل من بنيتين: الاولى عندما كان طفلا تابعا للمرأة في النظام الامومي برئ وجميل وتتعاطف معه أما وهو رجل شبق لا يرى في المرأة إلا جسدا فحسب ,فقد عقله هنا وتحول الى شيء ما شبق كما ينظر للمرأة بانها شيء ما يثير الشهوة لنصل الى أن محاولة الرجل تشيئ المرأة إنما يعمل على تشيئ نفسه والمجتمع حكماً.
ولا تختلف بنية العنونة في قصة (مزمهيراء)24 عن غيرها من قصص المجموعة في رؤيتها الدلالية ,فقد قدمت رؤية للمرأة القدسية الصافية النقية الأم للعالم كله التي تدعو للخير والمحبة والسلام من خلال نحت اسم من اسمين لسيدتين قديستين نقيتين صافيتين هما (فاطمة الزهراء ومريم العذراء) لتسرد قصة رجل مسلم يتزوج من امرأة مسيحية ويتم عقد القران مرة في المسجد والاخرى في الكنيسة دلالة التعايش والامن والسلام بين بني البشر وهنا تتضاد المبدعة من الرؤية التي يقدمها الادب العربي للمرأة التي تتشكل من ثنائية الغياب / والحضور فقد غيبها انسانة مقابل حضورها لذة وجسدا وهدفا ورمزا وحبيبة 25لتقدم رؤية جديدة هي رؤية المرأة الإنسانة / الام التي تحمل خطاباً إجتماعياً يدعو للسلام والتعايش وعلى هذا النحو يكون الخطاب الأنثوي للمبدعة , هو خطاب يستحضر النظام الأمومي في بداية تشكل الإنسانية في صراعها مع الخطاب البطريركي المهيمن الذي قاد الإنسانية للتمزق والخراب والحروب لتشكل خطابا أنثوياً يدعو للحب والسلام .
وهذا هو أيضا خطاب عنوان قصة (طفل بصحن هريس )26 الذي يتشكل من جملة اسمية تنطوي على مبتدأ (طفل) والخبر شبه الجملة (بصحن هريس) لتحيل الى بنية الثبات والاستمرار لاسيما إذا عرفنا أن القصة تدور حول امرأة مدعوة لحفل فخم ولكنها مع كل طبق فخم ترى آثارا للدمار والقتل والحروب واضطهاد الإنسان لأخيه الإنسان حتى ترى صورة طفل مقتول في صحن هريس لتقدم رؤية إجتماعية إنسانية تؤكد أن عذابات الناس والطفولة بسببها السراق واللصوص وسلطة راس المال التي تتسبب بكل هذه المآسي من خلال إثارتها للحروب والدمار وفي الحد الأدنى فإن هذه السلطة لا تأبه بفواجع الناس وتعيش حياة مخملية وكأنها خارج الزمن ولعل هذا الخطاب هو خطاب إجتماعي تقدمه أم تتوجع لآلام أبنائها وهي التي رفضت ( الخالات والعمات ورفضت كل النساء المتشحات بالسواد المرتديات جوعهن والمتبرجات بزينتهن رفضت كل ما يدعو للأنوثة وصرخت: أريدكِ انتِ أمي الأرض)27 وهنا دعوة للتحرر المرأة من شكلها ومن زيها ومن جسدها الانثوي المثير لشهوة الرجال واغرائهم بل التحرر من سلبيتها وبكائها وحزنها الى أن تكون فاعلة و تتحول الى أم وهنا تكون الوطن تحمل الحب والدفيء الانساني ففي هذه القصة نرى حساسية الام / الانثى ورؤيتها لعالم تقتل فيه الطفولة وتؤد من أجل مكاسب مادية دنويه أو تخلف سياسي ,أو اطماع سياسية, او اقتصادية ,أو اجتماعية وغيرهــــــــــــــــــــــــــــا.
لذلك تدعو في قصة (إمرأة بزي جسد) 28الى تخلص المرأة من جسدها ولا تبقي منه الا الثديين وهما رمز الاموة والعطاء وكل ماله بالخصب والنماء لتبدو كأم وانثى كونية 29 تتصل بعشتار الأم وتكون متطابقة مع الطبيعة التي مثلتها الشجرة التي جلست عليها للتوحد مها في العطاء من دون حدود ولا مقابل فقد فهمت كما يشير العنوان أن الجسد ما هو إلا شكل وزي يبلى يوما وربما يستبدل ولكن اهمية المرأة في إنسانيتها وعطائها وأمومتها عندما تنقل جسدها من فضاء جنسي وقيمة جنسية الى فضاء ثقافي وقيمة ثقافية عليا لها خطاب انساني خاص بها يميزها عن خطاب الرجل 30.
و يرتكز عنوان قصة (نسيج آخر)31 الى توصيف للمسند اليه بأنه آخر مختلف عن غيره نسيج امرأة عاملة نشيطة تغمر كل من يصادفها بحنانها وألفتها حتى أنها تتعامل مع كل إنسان بلغته وكأنها إمرة كونية أم للبشرية تعرف لغات أبنائها وتتعامل معهم بود ومحبة فهي (تعرفهم كلهم ولم أرها يوما لا تخاطب أحداً منهم بل هم يعرفونها يدخلون معها في حوارات لا أفهم لغتها )32 والمهم هنا أن هذه الحالة تتضاد مع حالة رجل شرقي في بلاد الغربة فهي تعمل كي تعيش وهو يعيش عالة على الدولة كي يسكر ويعربد فقط هو وحده شريك هذيانه ونفور الناس عنه وهي مع الكل تتعامل بمودة وحب فهي اذاً تمثل النظام الامومي العادل وهو يمثل النظام البطريركي الذي يقتات على موائد غيره انها الام التي تعطي وهو الاب الذي لا يعرف سوى أن يأخذ فقط بلا عطاء هذه هي الصورة الرمزية للعنوان والقصة فكل منها له نسيجه الخاص يتضاد مع الآخر تماماً ولعل هذه هي رسالة المبدعة ورؤيتها الأنثوية .
ويحمل عنوان قصة ( ثواب أم عقاب؟)33 سؤالاً استنكارياً بدلالته البلاغية لأنها تتحدث عن مستوى الزيف الذي بثه الاعلام ولاسيما المرئي منه من خلال موقف حلمي ,و فنتازي عندما يخرج المذيع من التلفاز هاربا من سجن انفرادي يتعرض فيه لكل أنواع التعذيب لأنه قال الحقيقة فقط ولم يقبل أن يبع ضميره لشيطان الكذب والدجل لمجرد أنه يسير سياسة الإعلام مجرد (خرفان تسير خلف سيادة قطب واحد ,يعبدون الواحد لأنهم ضعفاء ويكذب عليهم يصدقونه ويكذبون على المتفرج قطيع بشري يكبر بعدد النصابين والمتنفذين والمستفيدين)34 وهكذا تفضح هذه القصة وعنوانها نظام القطب الواحد السائد الآن وهو احدى تجليات النظام البطريركي الذي ينهض على التفرد في كل شيء ولعل اكثر شيء يدلل على هذا هو اللغة التي تكتبت بها القصة فنلاحظ من النص السابق أن كل من هو منقاد للقطب الواحد كتب بصيغة المذكر. –خرفان – يعبدون- ضعفاء – نصابين- ومتنفذين وغيرها من الألفاظ الذكورية في مبنى السرد القصصي مما يشي بتجذر بنية مهاجمة النظام الذكور وتقويضه وزحزحته وصولا لعالم يتشكل من ثنائية انسانية رجل وامرأة على حد سواء خالي من نظام القطب الواحد سياسيا واجتماعيا.
يحمل عنوان قصة (غزو جراد) 35رؤية فنتازية للعالم الذي غزاه الجراد ولم يبقَ فيه شيء يذكر وحل الجراد محل الانسان ف(كل شيء لونه بلون الجراد ابواب نوافذ ممرات الشارع المخصصة لسير الافراد ,كل شيء حتى اكياس النفايات قرب البيوت اكتست بالجراد)36 ولعلها تشير على نحو رمزي الى غزو بلدها / العراق وتدميره من جراد الامريكان وعلوجهم لتقدم خطاباً ايدلوجياً ولكنه بلمسات أنثى بحيث يكون خطاباً رمزياً .
وعلى هذا النحو أيضاً كان عنوان قصة( حفلة في حاوية زبالة ) 37هذه الجملة الخبرية تشير الى خطاب اجتماعي ولكنه رمزي من خلال الحديث عن حفلة لمكونات حاوية زبالة لتي تحيل الى مستوى الفوارق الاجتماعية الطبقية بحيث يتخم القلة بينما تجوع الكثرة.
تنهي الكاتبة مجموعتها هذه بقصة رمزية ثالثة بدءاً من عنوانها ( الجثث تشرب العصير )38 الذي يتشكل من جملة ذات بعدين الاول يمكن تسميته بجملة إسمية كبرى متكونة من المبتدأ( الجثث) وخبره الجملة الفعلية ( تشرب العصير) لتشير الى تضاد الدلالة بين ركني الجملة النحوية أولها ( الجثث) يحيل للموت والفناء وثانيهما فعل يشرب وهو دلالة الحياة فالرؤية هنا صراعية بين الحياة والموت بين الخير والشر بين خلاط ابو الفرج الذي يصنع العصير ويروي العطشى للحياة وبين خلاط ( أكثر بن مجرب بن ناقص ) الذي يصنع العصير المغمس بالدم والموت والدمار يقدمه مجانا لكل من يؤمن بأيدولوجية الدمار والقتل . وبينما عصير ابو الفرج المشبع بحلاوة التمر فانه يمثل عالم الحياة التي يعيشها أبناء الأرض.
ينطوي هذا الصراع على أبعاد تاريخية وهو استمرار الصراع بين الخير والشر وأن الحياة دائما تنتج الخير كما تنتج الشر الذي يحملونه مجرمين من ذوي العين الواحدة ينشرون الخراب والموت في أرجاء المعمورة هم وأتباعهم سمهم ما تشاء ( هولاكو –دراكولا – بوش- شارون )
3
تنطوي مجموعة (نقط) على (12) قصة متنوعة الشخصيات والمشارب والرؤى غير أنها تشترك بتسليط الضوء على حياة المسحوقين والفقراء والمهملين والممحوين من النساء والرجال , وتبدو هذه القصص مستقلة عن بعضها غير أنها في حقيقة الأمر متن ومبنى سردي واحد مترابط وكأنه خطوط ضوئية تنطلق من حزمة واحد و ترتبط بمصدر الضوء ولعل مصدر الضوء هنا هو عتبة العنوان الذي يستقبل قراءه باسم جمع من كلمة واحدة (نقط) ولعها كلمة بحاجة إلى أختها التي جعلتها الكاتبة في عهدة النص وكأنها تسبق عنوان كل قصة من قصص المجموعة كذاك تترك فرصة للقراءة كي تتبين ما هذه الكلمة ؟فهل هي (نقط ضوء) تسلط على أحداث في أماكن مظلمة إنسانيا ومجتمعيا ولعلها إشارة إلى بنى السرد فهي بعمومها حزم ضوء تسلط على أحداث تنهض بها شخصيات وفي هذه المجموعة كما نرى أن الأحداث تستخرج من أماكن مظلمة سواء في المجتمع او في النفس البشرية ولا وعيها.
فقد دأبت الكاتبة على الغوص في أعماق المجتمع من أجل تصوير أحداث مؤلمة وموجعة وتفضح الظلم الذي يقع على الفقراء والمهمشين والممحوين والنساء فالضوء هنا يسلط على المرأة المفجوعة والمستلبة والعامل المسحوق واليتم والطفل المهمل والمعاق والمتسول وغيرها ,ولا يختلف هذا لتحليل مع إمكانات دلالية أخرى للنقط فهي أيضا النقط التي أضاءت إعجام الحروف وتحديد الفرق الصوتي والمعنوي بين حرف وآخر وهذا ما استثمرته الكاتبة في عزفها على أوتار الحروف عندما تغير معنى كلمة بأخرى مضادة او مختلفة بتغير نقطة أو أكثر.
والنقطة في مجتمعنا هي كناية عن الغيرة والعز والكرامة فالمثل يقول (نقطة لو جرة) وقد إستثمرت القاصة هذه الإمكانية الدلالية في عدد من قصصها لاسيما قصة (حر طاوع حرَّه). وغيرها من القصص في مكان أو آخر.. ولعل هناك الكثير من الإمكانيات الدلالية لهذه العتبة وأكاد أجزم أن هذه القصص نتاج لسقوط هذه النقطة وإدانة لها في آن واحد .
ولا نكاد نخرج من عتبة العنوان حتى نلتقي بعتبة أخرى وهي عتبة التوطئة وكأننا أمام استهلال ملحمي كالذي نراه في الملاحم الكبرى مثل جلجامش والأوديسة وغيرها ويبدأ هذا الاستهلال ب( السم والرصاص يحملان الماضي والحاضر ،وحتى المستقبل ...................... _إلى _ ...النقط مجرد نقط نداري بها عجزنا وهواجس اللغة) 39ولعل هذا الاستهلال يعطي انطباعا تفسيرياً بأن النص هنا يضع الثقافة مقابل القتل والدمار والحب مقابل الكراهية , وإنْ كانت تشير إلى عجز اللغة غير أن السرد دائما كان يساوي الحياة والحضارة هي الحياة الخلود الم يكفْ جلجامش عن رحلة الحروب ورحلة المغامرات والبحث عن عشبة الخلود وينحو نحو البناء والحضارة والثقافة والعلم لأن الخلود إنما يكمن فيها ؟وشهرزاد ألمْ تنقذ بنات جلدها النساء من سيف شهريار؟ هكذا دائما كانت الثقافة وكان السرد يساوي الحياة وينتصر على الموت . لذلك فان الاستهلال يضع الثقافة والقص مقابل الموت والدمار وإن لم تستطيع الانتصار عليها فإنها تفضح القتل واستلاب الإنسانية ولعل هذه المجموعة قد أخذت على عاتقها فضح استلاب الإنسانية قتلا وظلما ودمارا وهذا خطاب أيديولوجي بلمسات انثوية تضعها الكتابة في طيات خطابها الأنثوي وهو جزء من التركيبة الانثوية النفسية التي تميل للدعة والسلام والأمان والعدالة والحب وكأنها تقدم ملامح الخطاب الانثوي في مقابل الخطاب البطريركي .
أما العتبة الثالثة فكانت الإهداء التي تعطي لنا الصورة الأخرى فهي عتبة و إهداء (أعرف كيف تنزوي حشودك بداخلي.......................لتبقين نفـْسي ونفـَسي النفيس)40 وهذا نص آخر يعطي صورة أخرى للمبنى السردي هذه المتنوع والمربك أحيانا وهذا الإهداء يتحدث عن امرأة وليست أية امرأة أنها النفس النفيس للكاتبة وتشير الكاتبة في قصد الإهداء إلى نفسها النفيس إلى أختها _رجاء_ وهذا هو قصد الكاتبة حقيقة وواقعا غير أن للنص رأيا آخراً فهذه الرجاء ليست امرأة عادية فهي تعاني من وجع الحياة والفراش والولادة لذلك كان هذا الإهداء نصا موازيا آخرا يسلط الضوء على الكثير من بنى السرد في هذه المجموعة هنا المرأة هي الأنثى التي تعاني من سحق أنوثتها ,وإلغاء شخصيتها حتى تتحول إلى وسادة مرة ومفرخة أخرى وعبدة تخدم سيدها الرجل مراراً ,كما نرى في المبنى السردي لاسيما الأولى منها(الراء والمسدس) لذلك فإن هذا الإهداء وإنْ كان إسما متعينا غير أنه يتحول إلى رمز للمرأة المسحوقة في مجتمع ذكوري البنية والتصرف والرؤى وتستند إلى ثقافة ذكورية تسلب المجتمع كله إنسانية ,وليس المرأة فقط ولعل هذا هو مجتمع هذه المجموعة السردية ,وكما كانت التوطئة تشتغل على ثنائية القتل والدمار مقابل ثقافة الأدب والحضارة والسمو والحب الذي تمثله اللغة فان الإهداء يفضح ثقافة الذكورة والفحولة القوية الباطشة المتسلطة / البطريركية مقابل ثقافة الأنوثة الرقيقة الجميلة والتي هي إكسير الحياة فهي ,أم وحبيبة وزوجة غير أنها مستلبة موجوعة مضطهدة وكما نرى في معظم قصص هذه المجموعة بل هي النوية السردية التي تنداح حولها بقية النوويات فاليتم والقتل والاضطهاد والذل والفقر نتاج لإستلاب المرأة وصورة من لذلك تعد هذه المجموعة واحدا من أهم ما كتب بالأدب الأنثوي في العراق وربما في الوطن العربي.
وبعد الإهداء نرى نجمة وبعدها عتبة رابعة قبل أن ندخل المبنى القصصي وهذه العتبة عبارة عن استهلال توضيحي لرؤية الراوي / الكاتب عندما تقول (إحياء يرتجفون بين الواقع والخيال ..................... لنستمع إلى التصاق الأنفاس مع بعضها.. كيفما شاءت هي نستمع..)41 وهذا لإستهلال يشتغل على ثنائية الحروف والكراسي فالحروف متحولة متغيرة غير مستقرة والكراسي تجلس على ثلاثة قوائم غير مستقرة أيضا 12 كرسي أعرج غير مستقر ليشير إلى أن الحياة عرجاء غير مستقرة ,وغير منصفة أيضا لأنها تنهض على نظام القطب الواحد كما أن الكرسي أعرج, وغير مستقر يجالسه والحروف غير مستقرة لمستخدمها والراء حرف متحول متغير ورمزي أيضا وهكذا تنهض الكاتبة / الراوي بتسليط الأضواء على كل كرسي على حدة ولكل كرسي قضية موجعة تصور ظلم الحياة واعوجاجها و الموضوع المحير و الجميل أيضا هنا هو أن الكاتبة وضعت مجموعتها على أربع أرجل وأربع عتبات مستقرة وهي (عنوان_ توطئة _ إهداء _ واستهلال توضيحي بل ربما ملحمي) هذه البنية الرباعية المركزية في المتن السردي ,وتشكيلها البصري تشي بالروية والاستقرار, فالكاتب هنا مستقر متبصر بالأمور والحياة ويجلس على كرسي مستقر من أربعة قوائم ليكتب عن موضوعات إشكالية بالحياة تعاني شخصياتها من إعوجاج الحياة معها وتجلس على كراسي حذفت الراء منها وكسرت إحدى قوائمها إذاً فهذه البنية الرباعية تقابلها بنية ثلاثية تتشكل من كرسي ثلاثي القوائم ,و أيضا عتبات القصص القصيرة الأخرى هي ثلاثية أيضا كأنها الكرسي أيضا فكل قصة عتباتها تتشكل من العنوان واستهلال مشطور شطرين كل شطر يشكل قائمة من قوائم الكرسي ومع العنوان يظهر لنا الكرسي ثلاثي القوائم الأعرج ليقص لنا قصة اعوجاج الحياة معه .
يشير عنوان القصة الأولى أو الكرسي الأول (الراء والمسدس) 42إلى ثنائية لغوية تتشكل من معطوف ومعطوف عليه بينهما حرف عطف غير أن حرف العطف لم يؤدِ مهمة الجمع بين المعطوفين ولا يعني العطف هنا التوافق إنما التضاد والاختلاف كما تشير بنية القصة الدلالية وآلية اشتغالها السردية فالراء هنا رمز للأنوثة والمسدس رمز للذكورة يطلق رصاصاته برحم المرأة ويولي ,حتى نرى أن الأنثى هنا قد مسخت وسحقت إمام الرجل مرة وإمام أطفالها مرة أخرى, فهي وحدها تعاني من ليل موحش ثقيل ومستمر ولا أحد يستيقظ أبدأ ولا أحد يشاركها الهم لا أحد سوى رجل أهبل وسخ وبخيل ولعلنا نتصور كيف تعيش إمرة مع هكذا رجل بخيل وسخ وأهبل ومتسلط أيضا فهو بديل عن سلطة الأب وسلطة المجتمع .
لقد فقدت هذه المرأة إنسانيتها أمام هذا الرجل و أنوثتها حتى تحولت إلى ثلج في لحظات الاشتعال، وتخلت أيضا عن مشاعرها وجسدها الملتهب أنوثةً غير أنه يتحول إلى ثلج وموت أمام هذا الرجل الخائن لزوجته أيضا, فهذا النص لا يعري فرد بل المجتمع والسلطة أيضا فقد يحتمل من الدلالة الرمزية التي تدين السلطة القاسية المرفهة والقامعة لشعب يعش بالظلم والضيم والفقر, فلم لا تكون المرأة رمزا للشعب المضطهد والرجل رمزا للسلطة التي حولت النماء والخير إلى خراب؟ ..انه تساؤل فحسب
أما قصة (حر طاوع حرَّه ) 43فيشير عنوانها إلى علاقة بين المبتدأ حر والجملة الفعلية الخبرية طاوع حرة ,وهو يشير إلى الولد الذي إفتدى أمه وتحول إلى محظية لزوجها كي لا ينهال عليها ضربا وإهانة ويتساوق هذا العنوان مع بنية العتبة الأولى ( كيف أرثي فقداناً بطفل ؟كيف أصير نفسه ومثله؟ المختبئ بثاني كرسي أعرج) 44نلاحظ هنا رثائية للطفل الذي فقد نفسه عندما فقد شرفة /النقطة وتحول إلى محظية لزوج أمه الذي كان يضرب أمه ,ويهينها ويمسخ إنسانيتها لامتناعها عنه فأشفق على أمه, و تحول بديلا عنها ليطفئ غضب هذا الرجل .
وهكذا يتبن إشتغال العتبة على البنية الدلالية لهذه القصة التي تشتغل على حركتين سرديتين الأولى ماضوية وهي الحياة بكنف الأب ورحمته حياة مستقرة تسودها الرحمة والمودة وحركة سردية حاضرة راهنة عندما يموت الأب وتتزوج ألام من آخر غير أنها تتمنع عليه فيشبعها ضربا إلى أن تحول الابن بديلا عنها فعفا عنها , وهذه القصة لا تشير إلى اغتصاب المرأة و انتهاك إنسانيتها فحسب إنما اغتصاب الطفولة واغتيال براءتها ووأد إنسانيتها وتصوير الشذوذ بأبشع صوره , فماذا بقي في المجتمع / الوطن عندما يموت الأب وسيتبدل بشاذ وسادي وتغصب إنسانية الأم وتغتصب الطفولة وتذبح . ماذا بقى؟ إنها حكاية بلد مغتصب أسير من خلال حكاية أسرة مغتصبة هذه قصة مرعبة جداً في مضمونها السطحي أو في دلالاتها العميقة ولعلها تشير الى استبدال بين بنيتين اجتماعيتين اولاهما بنية النظام الامومي الرحيم وثانيهما بنية النظام البطريركي القاسي والظالم .
كما نرى عتبة وصفية أخرى تجلس على الكرسي الثالث وهي (سماء صماء) 45فقد وصفت السماء بالصم وهي جملة استعارية لأن الصم إنما يصيب الأحياء لذلك يرون كل شيء أصم بما في ذلك السماء والأرض لذلك كانت هذه الجملة إشارة للصمم الذي يصيب الحياة . فعندما تتحول السماء الجميلة مصدر الحياة والضياء والجمال إلى صماء تغادر الحياة هذه الأرض إلى المجهول بل تصبح هي مجهولة ويصبح سؤال التعبة الثانية الاستهلالية (قد أبدو مجنونة لو حاولتُ البحث عن الكلمات.
لكني بحاجة سؤال:
- هل الموت بطل؟
كيف شكله؟ ما سر بطولته؟ ما سبب ديمومته؟ هل هو طفل أم شيخ؟
قد أبدو مجنونة فعلا لو أعدت السؤال لان السؤال بلا نقطة.
السطر المستقيم يبدأ من نقطة،، ثم يكبر.) 46 مشروعيأ في حياة لائبة صماء عندما تكون الحياة صماء بلا جدوى يكون الموت بطلا يكون الموت إلها مخلصا من عذاب دائم وموجع . هذا هو خطاب العتبة في هذه القصة ,لاسيما وإنها تتحدث عن امرأة صماء تعيش على هامش الحياة لا حبيب لا أنيس الكل يمارس سلطته عليها وقهره لها الأب سلطة وألأم سلطة والأخوة الذكور لهم كل شيء وهي تذوي بين حيطان جرداء وسماء صماء, وهكذا يستمر مسلسل استلاب إنسانية الإنسان لاسيما المرأة في هذه الحياة المتواصلة تفضح الاستلاب وتحول الشخصيات من الهامش إلى متن الحياة عندما تسلط عليهم ضوء السرد.
وعلى هذا النحو نرى إشتغال العتبة في القصة الرابعة الكرسي الرابع (طووووووووووووووط لك)47، ولعل هذا العنوان لا يشتغل على معنى محدد فهو ليس جملة تمعنى ولا كلمة ذات معنى انه صوت حروف ورؤية أديب ولعل أجمل ما في هذه العتبة /العنوان الاستثمار الدلالي لهذا لصوت القطار في سيره ووقوفه (طوطووووووووووووط لك ) صوت بالفراغ للفراغ ليشير إلى حياة بالفراغ فحياة فارغة كما هو الصوت ونحن ركاب في هذا القطار ولكل منا محطته إلا السائق فهو الوحيد الذي يبقى بالقطار ويكمل دورة القطار ذهابا وإيابا غير أنه في فراغ,و حياته من فراغ فعامر سائق القطار مسكين لا يملك من الدنيا إلا صوت القطار كما مبين بالاستهلال (عامر... أيها المسكين تملك كل هذا أل (طوووووووووووووط) وكرسيّ أعرج.رصاصكَ يصوّب باتجاه البحر.... بينما الأغلفة نسيت ثيابها على الشاطئ.)48 فالاستهلال هذا عتبة ندائية وربما استغاثة او توجع وهي واحدة من استخدامات النداء فهذا النداء ب (اي ) المنادى هنا خرج إلى التوجع والتفجع ولعل هذه هو المدخل الدلالي الصحيح للولوج إلى عالم عامر الذي يقود القطار او هو يقوده بدورة حياة ملؤها الفراغ واللاجدوى و بلا نقطة بداية ولا نقطة نهاية كصوت القطار صوت في الفراغ لذلك عامر يعش على هامش الحياة بلا أمل بلا امرأة بلا هدف بلا رعشة حب بلا أطفال , حتى أن رصاصاته تذهب إدراج البحر إدراج الفراغ والوهم.
وما أن نخرج من قصة فراغ كرسي فارغ إلا من صوت وألم ووجع إلا وندخل في فراغ آخر لاشي في لاشي آخر فقصة الكرسي الخامس (الممحو)49 بدأت من عتبتها للحديث عن الهامش عن الفراغ عن ذلك وتلك الذين عاشا بلا حياة فالممحو عبارة عن(أذرعٌ وأمنياتٌ ...أذرعٌ انتفضت على ذاتها .... ومشت باتجاه الشارع..) 50فقط اذرع وأمنيات بلا حياة انتفض على فراغها لتسير في فراغ لقد التقطت الكاتبة شخصيتين معتلتين على هامش الحياة فهو رجل / بل شيء (ينفيه العناق وأثوابه الوحيدة حين يحك جلده من وسخ الأيام. قريبون و بعيدون ينفوه... ولا يرون دموعه الممتلئة بابتسامة ودم.)51. نرى أنه رجل يعيش على الهامش والطرقات وهي فتاة تعاني عاهة مرضية ومهملة من العائلة فكل شيء لإخوتها ولها فضلات الطعام تعامل معاملة الكلب حتى هربت مع الكلب وعثر عليها الممحو فينقذها من الصبية ويسران معا في الفراغ ممحو مع ممحوة بحثا عن حياة ممحوة لعلها تكون أفضل . واقل قسوة فمن محته الحياة يحنو على شبيهته في النفي والمحو الاضطهاد والتشيؤ, وهنا يتجلى خطاب أنثوي اجتماعي يحاول أن يفضح بينة الخلل الاجتماعي الذي يضطهد الإنسان ويمحو إنسانيته من خلال بنية اجتماعية مخلخلة وغير مستقرة كالكرسي الذي يعاني من عدم الاستقرار.
ويشير عنوان الكرسي السادس إلى (لص في الدهس ) 52 الى بنية دلالية متضادة فالص هنا هو ليس لص انما هو من سُرقت حياته وانسانيته ,ويتهم بانه لص ومن ثم يحدثه الراوي باستهلال قائلا (في المكان السهل..
تتربَّصُكَ الرصاصات...
أيـُّها الـلـًصُ.....
انتبه!
المدرسة عجوز بلا عكـَّـاز وبوصلة الكتاب عصارة مُرّة).53
تتحدث القصة عن طفل من أسرة فقيرة فقد أباه بانفجار, مما اضطر أمه للعمل في بيت مدير الشرطة / السلطة التي تآمرت مع الإرهاب على حياة هذه العائلة فقد جعلها تعيش الفقر والعوز فالإرهاب قتل معيلها و مدير الشرطة هو السلطة التي تستخدم الشعب وتستغله وتسرق عرقه وقوته , أما طفل هذه العائلة فيصبح متشردا في الطرقات وأماكن القمامة وهنا يعثر على لعبة أراد أن يفرح أخته الطفلة بها غير أن السلطة / الشرطي يقمع هذه الفرحة ويتهمه بالسرقة بل بالاشتراك بخطف طفلة أخرى .. ولعل السؤال هنا يرجعنا لعتبة العنوان من اللص؟ الطفل / المشرد ام السلطة التي تسرق تعب إلام وتستغلها ومن جهة وتسرق فرحة الطفولة حتى بلعبة بائسة , هذا العنوان المطلق غير المقيد بكلمة رديفة يشير إلى السلطة مطلق السلطة من كل جنس ونوع فهي سارقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــ...
أما قصة الكرسي السابع فهي (دعاء)54 ودعاء أسم علم أنثوي ويحيل العنوان إلى أنها حكاية فتاة /امرأة المهم إنسان يحمل في ضلوعه أنثى تتفجر,و الدعاء في البلاغة العربية هو جزء من خروج الأمر إلى غير حقيقته اللغوية إلى صيغة بلاغية وطلب الشيء من أدني إلى أعلا وأصبح يستخدم بطلب الشيء من الله طلب مغفرة شفاء رزق وووو , المهم هنا أن هذا العنوان يحمل صيغة علائقية بين أدنى وأعلا بين المرأة والرجل ولعل هذا هو تفسير العتبة الأخرى الاستهلال (أحلامنا ضبابٌ والسحابة ليست أمّ
بين هوّة الجريمة وهوّة الانتماء،،، هوة أخرى ..
.
.
.
و
الصُلبان هي الصُلبان،، تتنزّه في دمنا فاردة ذراعيها كفزّاعة الحقول..
هي
الفزّاعة
و
أنا الحقل.)55فهذه العتبة تشير الى علاقة سلطة وتسلط باسم الحماية فالصلبان التي تشير إلى صلب نبي الحب عيسى (ع) هي الفزاعة ولكنها ليست للحماية إنما للصلب باسم الحماية ولعل قصة (دعاء) أو كرسيها/ بوحها يشير إلى ذلك صراحة فالأب الذي كان حنونا أصبح سلطة بطريركيه فقد شيد في داخلها فزاعة كبيرة فزاعة خوف الذي تحول إلى صلبان قتل, وهي فتاة في سن المراهقة في لحظة التوقد غير أنها لا تعرف نفسها هل أنثى أم طفلة أم لبوة فالأب باسم الحرص عليها يفرض عليها ما يشاء وينسى أنها إنسان ,ودعاء تعاني من ضعف بصر شديد ربما يصل للعمى تريد أن تتعالج وتخرج من ظلامها غير أن الأب الذي كان حنونا تحول إلى محض سلطة عندما أصبح برلمانيا مشغولا بسلطته ونفوذه كانه يريد أن يبقيها في الظلام . لذلك لا ترى (دعاء) في أبيها إلا سلطة لا تنشغل إلا بمكاسبها ونفوذها أما هي لم يلتفت لها بل لم يعد يشبهها ولا علاقة له بها إلا برابطة الدم ....فكرهته وكرهت كل البرلمانيين كل السلطة. دعاء واحدة من الشعب إنسانة عادية مثابرة , بل هي رمز للشعب الذي يعاني من الأمراض التي تفتك به والأمراض هنا ليست جسدية ولا العمى جسدي فيزياوي إنما هي رمزا للفقر والجهل والضيم ,أما الأب فقد تحول إلى السلطة التي حولته من إنسان إلى سلطان وهي أيضا تهمل الناس والشعب ولا تنشغل إلا بامتيازاتها المادية والسلطوية لقد اشتغلت هذه القصة برمزية عالية لإدانة السلطة التي تقمع الشعب وتهمله وتسرق قوته وتتحول من حامي حقيقي لمصالحة إلى فزاعة شكلية ثم إلى صليب تصلب عليه آمال الشعب وأحلامه وتطلعاته الم تصلب أنوثة؟ دعاء وإنسانيتها وطموحا ورؤاها بل وبصرها وبصيرتها باسم الخوف عليها ؟وألم تتحول العلاقة مع إلام من مودة ورحمة وحب إلى مجرد علاقة أكل وشرب ؟ وكم الجرائم ارتكبت باسم الخوف على؟ ..................
ويستهل الكرسي رقم (8) بوحه وحكايته باستهلال (يعزف وحيداً رغم استهزاء الآخرين،، يفتـِّش عمـّا يـُنسي الآخرين مـا يؤلم قلوبهم.. كما أن تتبَّسم عيناه كلما رمى له عابر طريق جود اليد.. قلبه لا يخفق لنقطة سؤال فات أوانها،، يخفق لأجوبة على شوارع الأزمان..)56 ليعرف بنفسه بأنه عازف كمان متجول يعزف بالطريق مهمته زرع الفرح بين الناس ,وجعل قلوبهم تتراقص قبل عيونهم’ وفي ذلك سعادته وزقه في آن ,ولعل ذلك يتسق مع عتبة العنوان المكون من جملتين مركزية وتفسيرية الأولى (رحل إلى وسطهم)57 أما الجملة الثانية التفسيرية (حول الحلم وصلا) 58 لتشير إلى حلم العودة إلى الحرية إلى اليتم إلى خلاص رجل أربعيني من الحياة ومتاعبها والعودة إلى حرية اليتم والعيش مع الأيتام بعد أن كان هو أيضا يتيما تربى هناك ,ولعل هذه القصة قصة عتبات بإمتياز فما أن ننهي عتبة حتى نصل إلى أخرى فبعد العنوان تقرأ نصا عن صوت في المرايا صوت مع الذات لأن المرايا صورة للنفس فهو مونولوج يتحدث وبرمزية عالية عن كل علاقة تنتج طفلا و ( الصوت الذي ينهض في المرايا فجاة أين يمضي ) 59.
وبعد هذا الاستهلال تبرز عتبة أخرى تتشكل من حروق لفظة أحرار- أيتام الألف لا يجد بطاقة سفر للقمة عيش والحاء يعيش وحيدا بلا أحد والراء بلا بيت بلا مكان وبلا حياة والألف الأخرى - يعش بوهم الحياة والألفة , ولعل لكل حروف القصة/ شخصياتها , ربما تكون مستقلة عن الأخرى غير أن دأب الكاتبة لتصوير حياة الناس المسحوقين والمهمشين جعلها تسلط نقط ضوء عليهم قبل أن تصل للحروف الأخير الراء وهو عبد الله الأعرج يتيم لقيط ,ومشوه فقدَ حتى الأسرة التي تبنته ومن ثمً وعاش في الملجأ حتى أصبح رجلا وتزوج وأنجب غير أن اليتم يلاحقه فقد هجرته زوجته ,وجعلت أولاده أيتاما وكأن اليتم يلاحقه وأولاده بل سار إلى اليتم هو وأولاده مرة أخرى حتى كأنه يعود يتيما على كبر, غير أنه هذه المرة يحب يتيمة ويعزف لها وللأيتام ولعل دورة اليتم تدور على الحياة كلها حتى لا نعرف من هو اليتيم الذي داخل الملجأ ام من هو خارجه الكل أيتام.
تتواصل نقاط الضوء تتساقط على الكراسي العرجاء ولعل نقطة الضوء المتسلطة على هذا الكرسي تتكاثف وتنتشر على الحياة كلها كي تصور مجموعة من الأشخاص على باب الله يسعون ويعملون ويبيعون ويقولون يا ألله (ولا حول الا) 60بالله واللهم لك الحول والقوة ،كما تشير عتبة العنوان فهي إشارة إلى حياة أناس لا يملكون من الدنيا الا كوب بقهوة مرة هي مرارة الحياة وتعبها من بين أكوام المرارة والتهميش تنهض شخصيات هذه القصة من السوق من الحياة أناس ينهضون صبحا ويسرحون بائعون شاي و طماطم وخضرة وخبز وغيرها وعبد الله يجلس بالقهوة يراقب الحياة كيف يكسبون لقمة عيشهم بالعمل مرة وبيع النفس مرة أخرى.
هكذا يشظى ضوء هذا الكرسي كي يسلط على المجتمع ,ويفضح الكامن فيه ويكشف المستور منه ,ولعل لإستخدام الأرقام بإشارة إلى الأسماء إشارة رمزية قوية الى الشخصيات وتهميشهم إلا عبد الله وهو ليس اسم هنا إنما إشارة إلى كلنا عبيد الله ومن لا اسم له ينادى بعبد الله أيضا.
أما لكرسي العاشر فأمره غريب فعلا فهو (يُنضِّم السَيـْرَ وينفلتُ سَيـْره.) 61بهاتين الصورتين المتضادين تستهل هذه القصة صورة رجل ينظم السير وأخرى إنفلات السير بلا النظام صورة رجل معتل الأول والآخر فهو رجل بسيط ينظم ويتعب ويرهق ليلاً ونهاراً ,غير أن حياته غير منظمة ولا يستطيع أن يعيشها بإنسانية فهو معتل كعلل الحروف على النحو الذي يشي به العنوان (علل المرور) 62وعلل من المرور فهي السلطة التي تمثلها سيارة الرئيس التي تسير حيث يحلو لها من دون مراقب أو رقيب ولعل العنوان ,والاستهلال يشي بثنائية السلطة / والمجتمع كل شيء للسلطة ولا شيء للمجتمع المعتل بعلل الحياة كلها فقد استعارة الكاتبة اعتلال الحرف للغة قناعا لاعتلال الحياة لان اللغة إنما هي الحياة ,واستعارت سيارة الرئيس للسلطة التي كل شيء فداء لها بل ,هي تستحوذ على كل شيء فخامة مال دولارات ونفوذ وتسلط والمسكين شرطي المرور معتلا الأول الوسط والأخر كل شيء في حياته معتل . هي صورتان واحدة للسلطة زاهية ,وأخرى للمجتمع مظلمة معتلة لذلك غادر المسيح الأرض واستقبل الصّلب مرتاحا كي يخلص من إختلال الدنيا وإعتلالها وهذا ما يشي به العنوان متساوقا تماما مع الاستهلال.
ويشير استهلال الكرسي الحادي عشر إلى العربدة والاستهتار وبيدا ب(خذ نصف زجاجة عرَق وقل: - هء هء هء،،تف.)63 العرق هنا ليس مشروبا للمتعة ,ولا للسكر العادي إنما لغياب العقل حتى العربدة لذلك نرى التحذير بدخول كافة الأبواب إلا روضة الأطفال وتتضح الدلالة أكثر من لفظة (خبز الأطفال) والتي لا دلالة لها سوى الموت البشع تفجيرا وقتلا وحرقا وهذا ما حدث للطفلة (سمر) في قصة ( سمر ) 64التي تحمل معنى الجمال واللطف والدعة كما يصفها الراوي بأنها لطيفة مهذبة وذكية كأنها الحياة بأجمل صورها سُرقت بلحظة عربد الموت ودخل روضة الأطفال ولم يبق لهم سوى رؤوس متناثرة مشوهة .
هذه القصة إدانة كبرى للثقافة الموت والقتل لاسيما عندما تكون بلا تميز لا تعرف العدو من الصديق الطفل من الكبير تصبح عربدة كبرى وقتل مجاني للحياة وكأننا بصراع بين ثقافة الموت وثقافة الحياة / سمر شهيدة هذه الثقافة وشاهدت عليها .
أما الكرسي الأخير فقد خصص لشخصية على الهامش وفي القاع أيضا فلا اسم لها ولا ملامح وبل لا صوت الا(خنَ) , فقد اختارت الكاتبة لها رقم هو عنوان هذه القصة وعتبتها أي رقم هو (13)65 الرقم المشئوم في ثقافة الشعوب منذ صلب السيد المسيح إلى الآن ومن الشؤم أيضا أن يتحدث الاستهلال عن الخيانة مرة (هل سيخونه ظلُّه؟) وعن الانتحار مرة أخرى (ضغطت حوريّة على الزناد وحرقت الورد.. انتحر الزهر وبقيت شجرة عارية على شكل حبيبة)66 يسلط الضوء على متن القصة التي تبدأ في ذات عيد يأتي ال 13 ويختلي بأخيه الذي يعطف عليه هذه المرة و ويسلبه ثيابا نظيفة غير انه يذهب معه الى مكان لا يعرف الراوي / الابن إلا بعد حين إذ عرف أنهما ذهبا للمقبرة ولكن هل لزيارة قبر حورية ام لدفنها؟ لا أحد يعلم ومن حورية؟ من يسال عنها يقال له اطلب لها الرحمة .لقد ماتت أو نُحرت أو انتحرت كما يقول الاستهلال لا يهم ما يهم هنا أن حياة ال 13 هي التي سلبت شخصيته ومسخته حتى وصوته انتهى إلا من خنة لا شيء سوى نهاية الحياة فحورية هي الحياة بجمالها وزهورها التي حرقت ولم بق إلا أغصان جرداء في الاستهلال ولعل سر الدلالة يكمن في النهاية عندما تنتهي حورية تحرق الزهور وحينما تنتهي الحرية / حورية تنتهي الحياة حينما ينتهي الصوت الكلام والرأي تنهي الحياة فنهاية صوت ال 13 وانتحار حورية / الحرية وحرق الإزهار يعني نهاية الحياة .
- 4-
تسعى الكتابة الأنثوية الى تحقيق نوع من التميز والإختلاف عن الكتابة الذكورية من خلال منظومة من الاستراتيجيات النصية والأيدولوجية تحقق بوساطتها التميز الدلالي والجمالي في خطاب أنثوي يتميز بطرح إشكالية الصراع بين النظام الأمومي والنظام البطريركي الذي يسعى الى قمعه وإقصائيه عبر منظومة ثقافية وأيديولوجية تجذرت منذ قرون من الزمن ,لذلك دأبت وفاء عبد الرزاق على استثمار جملة من المرجعيات الثقافية ,و التاريخية في خطابها الادبي الأنثوي, ولعل من بين أهم هذه المرجعيات هي مرجعية شهرزاد وصراعها الأزلي مع شهريار فقد وسمت مجموعتها الثالثة ب( بعض من لياليها) ,وتشير بنية هذا العنوان الى أنها جملة خبرية لمبتدأ محذوف تقديره (هذه) ولعل هذا الحذف لاسم الإشارة/ المؤنث لغويا يشير الى إقصاء الأنثى بحيث لا نراها إلا ضميراً ملحقاً بآخر جملة الخبر ,و بالليالي وكأنها تحاول أن تصنع من الليل لحظة حضورها الانساني , كما سنرى في المتن أما الجزء الآخر فإنه يعلن عن قلة من الليالي ولفظة الليالي تستدعى حكما ليالي شهرزاد في الف ليلة وليلة .
لقد كان وكدَ الكاتبة في هذه المجموعة تأطير النص التراثي بنص سردي حداثوي من أجل توظيف اللغة في سعيها لإعادة إنتاج العالم وللتأثير في المتلقي وزحزحة معتقداته التي تشكلت من قرون 67,لاسيما فيما يخص قمع صوت المرأة وإنسانيتها من خلال تحويل البنية السردية الى مجاز أنثوي يرتكز الى سلطة اللغة التي تحول الأنثى الى فاعلة بعملية تشكيل وعي المجتمع كما شكلت شهرزاد وعي شهريار من جدد بسلاح اللغة ,وإبداع سردي مؤثر ينطوي على رؤية أمومية حولت القاتل الى طفل رعته وروضته وأعادت تشكيل وعيه لا سميا إذا أخذنا بنظر الاعتبار رمزية رقم الف ليلة وليلة وهو (مدة الزمن الصعب مدة الحمل والرضاعة ) 68 حتى استطاعت شهرزاد تطويع شهريار وتحويله الى إنسان مسالم وفي هذه الاثناء استطاعت ان تواجه الموت معه وتدافع عن نفسها وبنات جنسها ,وقيمها الأنثوية الأخلاقية والإنسانية أيضاً 69 فقد أسرته بنص سردي مفتوح ينطوي على سحر السرد وجمال اللغة وتشويقها وقدرتها على التصوير ومداعبة المشاعر , كان سلاحها في معركة البقاء, لاسيما وأن والصراع الأيديولوجي بين النظام الأمومي و النظام البطريركي يضرب بجذوره بعيداً جداً الى عمق التاريخ حتى يصل الى نظام سلطة الأب ونظام سلطة الأم 70
وهكذا كان إنتصار شهرزاد الأم على شهريار السلطة الباطشة , فقد تصدت بفدائية عالية ,وحنكة منقطعة النظير لما يمثله شهريار من رمزية قمعية في هذا الصراع, وهذا هو بالضبط خطاب عنوان هذه المجموعة التي تحاول أن تحول الأنثى / من ضمير ملحق الى إنسان مبدع. وتحويل شهريار الى مجرد (مفتاحُ شهريار، شيخوخة تتنزّهُ سيوفاً معكوسة وتاجاً أضيِق من ثقب إبرة ) 71وهي (وأنا أكتب الأنثى وأتفتّت).72 وينطوي هذا الاستهلال على ثنائية أزلية الصراع وهي السيف والتاج /والكتابة والثقافة ويمثل شهريار السيف ,والتاج وبما يحملان من دلالات على البطش والقتل والتسلط والاضطهاد وهي سمات ميزت النظام الابوي وآلية اشتغاله بينما تحمل الثقافة دلالا ت الحب والعدالة والسلام وهي والتضحية كما نلاحظ في لفظة ( أتفتت ) فالكاتبة هنا تؤكد أنها تحمل سلاح الثقافة والحب والتضحية وهو كل ما تملكه المرأة / الام في صراعها مع النظام البطريركي وتضحي بنفسها من أجل إعلاء هذه القيم .
كما تنطوي هذه العتبة على قوة ذاتية ,وإنفعالية ودلالية في منظورها الرمزي الخاص الذي يتناسب مع إستدعائها لشخصية مستعارة من بنية سردية قديمة تقليدية الى بنية سردية حداثوية تحاول التعبير والقص من منظورها السردي الخاص الذي يتناسب مع رمزيتها , وهذا ما يجعها تسبح في فضاء الدلالة اللغوية والجمال السردي لتمارس على القارئ إغواءً وإغراءً بالقراءة المتعمقة الواعية , وتشحذ ذاكرته الثقافية لأنَّ عنوان المجموعة مستدعى من دائرة معرفية وثقافية وذاتية ولغوية قديمة الى دائرة معاصرة كل شيء فيها مختلف إلا النظام البطريركي الذي لم يتزحزح عن ثقافته رغم التطور الحضاري الهائل ورغم الفرق بين الزمنين ,إلا أن شهريار هو هو وشهرزاد تعاني وتفتِت روحها دفاعا عن بنات جنسها بل عن الانسانية جمعاء كما يشي متن النص ولعل هذا ما يفسر عتبة الإهداء الى ( شهرزاد الأخرى: ألمسيحُ لم يتحرر من امرأة في صلاته الدائمة , لذا دعوت الاخرى , ودخلتُ فاصلة الحياة .) 73الذي يشي بارتباط دلالي بين المسيح (ع) في الثقافة المسيحية بوصفه إلاها مخلصاً للبشرية من الظلم والعذاب بل حتى من الخطايا الدنيوية ,وضحى بنفسه من أجل خلاص الانسانية وغفرانا لذنوبها ,و بين شهرزاد مخلصة النساء والإنسانية من بطش شهريار ولكنها تشير بوضوح الى أنها تستدعي شهرزاد أخرى شهرزاد معاصرة تبحث هي الأخرى عن خلاص المرأة من القمع والاضطهاد والعذاب ومن خلال ذلك تبحث عن خلاص الإنسانية من كل أشكال السطلة القامعة لها ولكن برؤية انثوية تدعو لتحرر المجتمع كله رجالاً ونساءً من خلال -15- قصة تنطوي عليها هذه المجموعة كلها تبدأ ب( ليلة....) وهي عبارة عن حكاية إطارية كبرى هي حكاية شهرزاد مع شهريار وصرعهما معاً ممثلاً للصرع الازلي بن النظام الأمومي والنظام البطريركي , وتتوسع دائرة الصراع من خلال قصص أخرى متضمنة في هذه القصة الإطار تعبر بمجملها عن إيضاح منظومة وثقافة النظام الامومي/ الأنثوي والعمل على إشاعتها كإرادة سردية يتضمنها منظور الأنثى ووجهة نظرها.
تحمل القصة الأولى عنوان ( الليلة التي لم تجد متعة) وهي مناص عنواني تحمله جملة إخبارية تخبر عن هذه الليلة الخالية من المتعة ليلة ,لاحب فيها ولا حياة لأنها تتحدث عن من خرج من متحف الشمع وسار في الطرقات ليلا فلم يجد سوى الأسى والتعب والألم من شخصيات هامشية مهمشة من جياع وسكارى ومجانين ومتسولين وكأن الكاتبة تحاول إخراج شهريار من المتحف وتستعيد قصته و الحديث من خلالها عن شخصيات على هامش الحياة فكل شيء أصبح غريباَ حتى يصرخ (لم أر لساناً على شكل مـُدية، لم أسمع من قبل عن يد بشكل مسحاة، أو عن قدم مَطرقة، وضفيرة ثعبان، عن دهاء صامت، شوك أخرس، خُرس، عُمي والجسر واحد)74 هذه لغة جديدة وإستعارات لم يألفها شهريار الأصل ولا شهرزاد, إنها لغة جديدة تعبر عن معاناة أخرى جديدة وظلم جديد يستدعي (شهرزاد أخرى ) كي تقاوم (شهريار آخر أزلي ).
أما عنوان قصة ( ليلة مشوهة الملامح)75 فإنه يشير الى توصيف لغوي لهذه المشوهة الملامح ولعل هذا التشوه يأتي من إفراغ الليلة من محتواها فليل العشاق جميل وليل المتزوجين حميمي إلا ليلة شهرزاد رعب وترقب ومحاول لإيجاد أفضل القصص لترويض شهرزاد فهي ليلية مشوهة على غير طبيعة الليالي ولا ترى شهرزاد منها إلا اليل الدامس الطويل بانتظار فجر الخلاص كما تشير في بدايتها السردية (لن يخنقني الخوف وأنا أنط من حكاية لحكاية، هو ذاته يتبختر زهواً حين يستمع لي، ها هو يترنح الآن وتتمايل أعضاؤه كثور ينوي ممارسة ما، حدّق مفترساً أعضائي كلها، فتح شدقيّ كلب تمصّصَ لعابه) 76 هكذا هي ليلة شهزاد بهذا الوصف الدقيق هي تحكي وتروض وهو يتبختر ويتحول الى رجل لاهم له سوى جسد امرأة يفترسه ويغتالها. فالرجال كما ترى الكاتبة(تغزو المدن وتخترق الحصون والقلاع والنساء تغزو القلوب وتخترق الأرواح،هم يغنمون الذهب والفضة ونحن غنيمتنا إرادتهم، لهم أظافرهم وسيوفهم ولنا مكرنا ورقتنا وصبرنا) 77هذه هي معادلة ثنائية شهريار/ شهرزاد فسلاح الرجال الغزو والقتل والغنيمة والفضة والذهب, إنها صفات النظام البطريركي على حين سلاح شهرزاد مكر الأنثى ورقتها وجمالها وثقافتها وصبرها حتى تروض الرجل وهذه هي صفات النظام الأمومي ولعل متن القصة يؤكد هذا فهي تحكي عن صندوق فيه شيء ما ربما الخلاص يتناوب على حمله أربعة شباب من أجل الحصول على الكنز والمال على حين الأم تحاول أن تعطف عليهم وتشجعهم بل وتمسح عرق تعبهم بحنانها وصبرها ومع ذلك ينادي منادي بأن يكون مستقر الصندوق عند قدم الأم / المرأة لتحقق الانثى إنتصارها بحنانها وحبها وكأن سر الخلاص من عذاب العالم بالعودة للأم.
ويشير عنوان قصة ( زهرة برية )78 الى تلك الزهرة الجميلة التي إنْبَتَتْ في الصحراء في البرية بين الأحراش والأشواك والجذب ظهرت هذه الزهرة / الانثى لكي تعطي للحياة أملها وجمالها كما يشي متن النص بذلك , فالراوي / الانثى تقاوم حروف الجر وفعل الأمر وتثور على سلطة اللغة وسلطة البطريرك شهريار من خلال منظومتها السردية وإجتراحها للغة جديدة تنزاح عن اللغة القاموسية الى لغة الأدب والجمال وقدرها كل ليلة (ألبحث عن الكلمة كل صباح أفتح بابها المغلق وأنغلق على نفسي) 79, هذا قدرها فهي القاصة ,والمبدعة والمربية ولكنها كالزهرة البرية ظهرت بين الأحراش والأشواك في حضن شهريار المتصحر , فترمز الى جمال المرأة وروعتها وحبها للحياة بينما يتسم شهريار / السلطة بالتصحر والموت والفناء .
ولا يختلف عنوان قصة (ليلة الزائر المؤجل)80 عن القصص السابقة له واللاحقة من حيث أنه خبر لجملة مبتدؤها محذوف وهي أيضا ضمير المؤنث لتشي دلاليا بغياب أو تغيب الأنثى في مجمع ذكوري قار لاسيما وأن هذه الحكاية / الليلة تحكي عن انشطار شخصية الراوي الأنثى / واحدة ميتة حملها الزائر المؤجل / الموت للحساب والمساءلة واخرى تروي ما حصل لها وتصرخ في اذن العالم (أنا هو أنا الجسد المحروم المنغـّص المكبوت الكابت على غرائزه ورغباته، ديمومتي بقدر كبتي وكبح كياني الجامح .. هل أدين وحشية وقسوة أصحاب القرار؟
هم جعلوا انتمائي إلى الضلع... بمعنى الجزء ولست الكل ... ومن الضلع الناقص، جعلوا منـِّي كائن فرجة واستمتاع، لا أدين اليوم لا ألوم لكنه يخذلني يحاول الإفلات منـِّي ربما لم يعد صالحا للمتعة والفرجة ،أو وصل الثقب المنطقي لوهمه... لعله أمسك بخيط فوضاه، بحرية اعتماده على رغبته ورغب بالتخشب أو الشلل... أحيانا الرفض لا يعني الصرخة بل الموت والشلل خاصة عندما يأتي الرفض من جسد) 81 فالأنثى هنا ما هي إلا جسد مكبوت المشاعر بل ميت وما إن يخرج للناس حتى يبدأ معه الحساب والاضطهاد ووصفها بالضلع الاعوج ونقصان العقل والدين.
ويعد عنوان (ليلة مثقلة بالأسئلة )82واحداَ من العنوانات التي تنطوي على لغة شعرية تحمل صورة استعارية فإثقال الليلة بالأسئلة هو إنزياح باللغة من القاموسية الى الرمزية فهو عنوان رمزي يشر الى أن حكاية هذه الليلة مثقلة بالأسئلة المهمومة واللائبة لاسيما وأن متن الحكاية / الليلة تحكي قصة مدينة (مدينة يكثر فيها عدد الأرامل والشيوخ والحيوانات الهزيلة)83 شيع فيها سر خطير وهو أكل الناس للكلاب والحيوانات وأن رجل الدين هو من أفتى بهذه الفتوى لتدين النظام البطريركي بشقيه السياسي والديني . فالسلطة السياسية تجوع عباد الله والسلطة الدينية تفتي باسم الله بما يضر عباد الله ,لذلك تبقى هذه الليلة مثقلة بالأسئلة حتى تنفجر بوجه السطلة .
وفي (ليلة الكابوس) 84 يشتغل العنوان على بعدين أولهما حلمي فالحكاية هي حلم شهريار ولكنه ليس كالأحلام, إنه كابوس يحول شهريار / السلطة الى مسخ ويتحول من فاعل باطش و قاتل وحاكم الى مفعول به يحوله الأطباء والممرضات الى مسخ ف( الممرضات التحمن حتى كدت أشعرهن جسدي ذاته، غرسن سكيناً في رأسي، بل كانت قاسية جداً تلك الممرضة الحسناء ذات العينين الجميلتين حين جدعت أنفي وقلعت عيني ثم تلذذت بموسها وهي تقطع أذنيّ ببطء.)85 هكذا يرى شهريار نفسه وهو مقطع الاوصال بعد أن كان يقطع الاوصال .
لقد لجأت الراوي/ الانثى الى لغة الحلم في بنيتها السردية في محاولة لاستفزاز عقلها الباطن وإظهار المخبوء تحت طياته والإشارة الى الضجر من شهريار والرغبة الدفينة في الخلاص منه وإنتاج شخص آخر يكون نتاج الأمومة /شهرزاد في سعيها لترويض شهريار وتحويله الى إنسان آخر جديد فهي بقدر اشمئزازها منه تعطف عليه و (أبحث عن الجمال بين الألم وأنظر إلى شهريار البائس بعين عطف) 86 هكذا تعلن شهرزاد عن مشروعها الأمومي الذي يتعاطف مع حتى جلادها .
أما البعد الرمزي لهذا العنوان فهو تحول شهريار من مروٍ له يستقبل القص الى راوٍ وشهرزاد الى مروٍ له وهو تبادل في الأدوار يشي بتحول السلطة من النظام البطريركي / سلطة شهريار الى سلطة النظام الامومي بتحول مواقع السرد التاريخية وتحول مبادئ اللعبة وهذا ما يتساوق مع الحلم / الكابوس حلم شهرزاد بإنتزاع حقها الطبيعي في الحياة بوصفها أم وشريكة في الحياة وكابوس شهريار بتحوله الى شخص آخر وخسارته لموقعه في السرد وبالتالي خسارة موقع السلطة في الحياة .
وأما عنوان قصة (ليلة الفقدان) 87فانه يشتغل على رؤية كونية على النحو الذي تشير اليه لفظة ( الفقدان ) من إطلاق لهذه النوية السردية وهي الفقدان فهي تتحدث عن صبي فقد أمه ويعيش بكنف زوجة أب وهي وجه آخر للسلطة على الرغم من أنها أنثى لكنها تحاول مسخ شخصية هذا الصبي , الذي يحاول البحث عن ذاته فقد حاول أن يكتب الحروف أن يتعلم بالرغم من أن كل شيء ضده , حتى أبوه فبدلاً من أن يعطف عليه ويعلمه بدأ يقسو عليه . ولم يجد هذا الصبي نفسه إلا بعد أن وجد عملاً وتعلم الكتابة والحروف وهنا كانه وجد أمه / شهرزاد الأم التي تحمل قيم العطف والحب والجمال والثقافة ففقدان الام الفيزياوي ولد فقدانا للإنسانية وكرامتها والتعلم/ الثقافة - السرد بوصفه قيمة انسانية أعاد له إنسانيته وكرامته من خلال الثقافة والمعرفة .
وتشتغل ( ليلة بزة عسكرية )88 على رؤية معاصرة تتحدث عن أمرة تحلم بأن يكون إبنها ضابط في الجيش وتعمل على تنمية هذا الأمر وتشتري له بزرة عسكرية ونجمات حتى أنها تتصور بأنه يعمل الخطط من أجل انقاذ الوطن , وفي الوقت نفسه ترعى إبنها بل تعامله كضابط حقيقي على حين أنه يعمل بيع الخضروات . والرؤية هنا هي فضح عسكرة المجتمع وإدانة الحروب والقتل والدمار وإختصار الانسان بمظهره .
وينطوي عنوان ( ليلية التتويج) 89 على رؤية كرنفاليه ساخرة للتاج والتتويج عندما تنقل شهريار من فضاء النص القديم الى فضاء النص الحديث وسياقه السردي والدلالي وتجعله يركب الكادلاك و يستعمل الموبايل و تذهب معه للسينما يشاهدان فلماً يظهر تتويجا لأفعى في مشهد فنتازي ورمزي يدلل على أن السلطة هي محض بطش وقتل وما تحت التاج هو مجرد أفعى حتى لو لبس الف عمامة فلا( تحكم إلا الأفاعي)90كما تصرح شهرزاد لشهريار هكذا تحاول الراوي / الانثى شهرزاد أن تصور السلطة والنظام البطريركي الذي لا يهمش المرأة فقط بل يهمش الجميع بوصفه أفعى قاتلة.
اما عنوان قصة ( ليلية خاكية )91 فتكمن بؤرته الدالية في نسبة اللون الخاكي لليلة التي يفترض أن تكون ليلاء مقمرة رومانسية ليلة حب وووو ,غير أن هذه الليلة وحكايتها اصطبغت باللون الخاكي وكما هو معروف فإن الخاكي هو لون العسكر والسلطة وعندما يصبح كل شيء خاكي فان هذا يعني سيطرة بينة الحرب والدمار على كل البنى الاخرى كما نرى أن متن النص الذي يحكي عن فنان يحاول أن يرسم- لوحة غير ان كل شيء من حوله خاكي اللون (البصل خاكي، البرتقال، النعناع،الماء خاكي،خاكي، خاكي)92هكذا تحول كل شيء الى لون العسكر والدمار والحرب حتى قميص الفنان لونه أحمر وكأنه يشير الى لون الدماء الذي ينتج عن اللون الخاكي / رمز الحرب والدماء.
وتتشكل دلالة عنوان قصة ( ليلية الجدار) 32 من الدلالة الرمزية للجدار السد المانع و الحاجب لكل شيء وهنا الجدار يحجب الحياة عن أمرة هي شخصية هذه الحكاية ولكنها بلا ملامح بلا إسم وبلا شخصنة لتشير الى مطلق الأنثى فهي (إنسانة مطرودة من الحياة أتهشّم لأتفه عارض ترى ما الذي يكون خلف الجدار؟ الأصوات لا تترجم نفسها لا أعرف هل هي جنّة أم جنون؟ هل من أحد يفهم لغتي ويترجمني؟ كيف أخرج متخذةً شكلاً؟ لست أدري فيما إذا كانت الصبايا فزعة مثلي في الخارج؟) 94إذاً هي أنثى محبوسة داخل جدار اسطوري / إجتماعي يمنعها عن الحياة ولعل النظام البطريركي هو من حبس هذه المرأة داخل جدار جسدها ناسيا إنسانتيها ورأيها وثقافتها بل والأهم أمومتها.
وتنبثق النوية الدلالية لعنوان قصة ( ليلة زوجة وهمية )95 من العلاقة بين الزوجة والوهم لتشير الى البحث عن الزوجة السكن والاطفال حتى ولو بالوهم بل الدلالة الأساسية هنا هي أن الرجل عندما يجد زوجة / أنثى يمسخها ويحول شخصيتها وإنسانيتها الى ومحض وهم لا غير فهو رجل قد (اعتاد الصمت وإعتادته الوحدة، لكنه كل مرة يطرق الباب أملاً بردّ زوجهُ أو ابن زوجة وهمية أو طفل يركض مسرعاً إلى عتبة الباب متأملاً كيس الحلوى بين يديه)96 ولا من مجيب سوى الوهم.
ويشي عنوان قصة ( ليلة الثائر على نفسه) 97بالثورة على السلطة من خلال الثورة على كاتب رواية يصنع شخصيات من ورق كما يشاء ويحبسهم بين دفتي روايته ويمزقهم متى شاء لذلك قامت إحدى الشخصيات بالهروب من ورق هذه الرواية وتحول الى شخصيته آخرى تعيش كما تريد هي لاكما تريد سلطة الكاتب ,وهكذا تتبدى دلالة العنوان في الثورة على النفس ومن ثم الثورة على السلطة / سلطة الكاتب .
ويعد عنوان ( ليلة المفتاح) 98واحداً من أهم عنوانات هذه المجموعة وأكثرها دلالة على أيدولوجية الكاتبة ونظرتها للعالم فضلاً عن أنه مفتاح البنية الدلالية للمتن فالمفتاح هنا يساوي السيف الذي يميز للسلطة ,لاسيما وأن متن النص يشير الى أن شهرزاد تكشف عورة شهريار وضعفه وانه يضع مفتاحا بين فخذيه بدلا من عضوه الذكري فاصبح المفتاح هنا رمزا لكذب شهريار / وعجزه وعجز السطلة وجبنها لاسيما بعد أن ثار الشعب بقيادة شهرزاد عليه والسلطة وأصبحت تحكي وتقول: (أنا شهرزاد أتوسط الحشد أمارس ضحكتي بكل حرية، الأبواب مشرعة، ملابس النساء زاهية، الأطفال يمرحون بنظرة بكر، العجائز تتكئ على بعضها كسلّم برؤوس شامخة ، أما شهريار والحاجب والوزراء ، فقد وقفوا جميعا في قفص الاتهام) 99 وعلى الرغم من أن المتن هنا هو متن حلمي ,غير أن الحلم هنا تعبير عن حلم جمعي بثورة شعبية تطيح بالسلطة القامعة ,وكأن الكاتبة تقدم رؤية استباقية للثورات في بعض البلدان العربية وايضا فإن نزوع الانثى نحو الحلم في تحقيق أهدافها يكشف بوضوح الصراع القائم بينها بوصفها ذاتاً إنسانية لها كينونتها الإنسانية وبين المجتمع القامع لها والمستلب لإنسانيتها والحلم أيضاً هو هروب من عالم الواقع القاسي الى واقع آخر تحقق به ما تشاء وصنع الامل للقادم من الأيام وهكذا يتبدى المتن / الحلم وكأنه الشكل المقلوب للحياة المعاشة أو المطمح المؤجل و ربما الوعد المكتوب .
وتنتهي المجموعة ب قصة ( ليلية لي )100لتشير عنوانها الى وضوح شخصية الأنثى / شهرزاد ويغيب شهريار عن مبنى هذه القصة السردية ولكنه حاضر في سياقها الثقافي والاجتماعي بوصفه سلطة مهيمنة فهو موجود في( كل شبر من أرضكم هل)101 لتشير الى بقاء شهريار / النظام البطريركي مهيمنا على المرأة / الأنثى وحتى وهي لوحدها ومع نفسها تجده يطاردها يقمعها . بل حتى وهي عارية من كل شيء إلا من نفسها الأخرى التي تجردها في الحديث عن رؤاها تجد شهريار حاملا سيفه ويطاردها .
الخاتمة :
حاولت هذه الدراسة مساءلة بنية العتبات الأنثوية في قصص الكاتبة العربية –وفاء عبد الرزاق – إنطلاقة من أن الادب الانثوي إنما هو محاولة إختراق تابو النظام البطريركي على الصوت الانثوي وقمع شخصية الأنثى وتحويلها الى موضوع بل الى شيء بدلا من أن تكون ذاتاً فاعلة .
لذلك ثارت الأنثى في كل مكان دفاعاً عن شخصيتها وانسانيتها وحاولت تحطيم جدار الصمت واختراق المألوف الادبي والاجتماعي عندما أنتجت أدباً انثوياً حاولت فيه تسخير الامكانات الادبية كلها في معركتها ومنها العمل على تأسيس منظومة أدبية تمثل المرأة ورؤيتها إنطلاقا من وجودها المستقل و الخاص والذي يتميز بخصائصها وطبعها وتكوينها المختلف عن الرجل فلابد من أن يكون لها وجود مستقل في الأدب تنعكس فيه هذه الخصائص وتقدم رؤية أخرى جديدة للواقع غير تلك الرؤية التقليدية التي يقدمها الآخر ومتميزة عنه لغةً ودلالةً ,وتعكس حساسية أنثوية ننطوي على تفرد في الرؤية والتجربة ,ووجهة النظر وكل ما يشجع أو يسهل اللعب الحر بالمعاني ويمنع الانغلاق على عالم الأنثى .
وتعد بنية العتبات واحدةً من بنى النص الادبي الهامة على الرغم أنها تتشكل على تخوم النص غير أنها تنطوي على دلالة هامة في بنية النص لأنها نصوص موازية تحاول أن تعضد دلالة النص وتكون مفاتحاً لها في مساءلته وإنتاج دلالته في الوقت نفسه,
تأسيسا على ذلك عكفت هذه الدراسة على إستنطاق العتبات الانثوية في قصص - وفاء عبد الرزاق- في محاولة لإجلاء دلالتها ,و علاقتها بالنصوص التي تتعشب حولها وقد تميزت هذه النصوص باشتغالها على بنية الأدب الانثوي ومحاولة إستخدام كل المعلمات السردية واللغوية من أجل توصيل قضية أساسية تحكم هذه المجموعة وهي ، اختلال الكون نتيجة الاختلال العلاقة بين مكوناته المرأة / والرجل منذ أن سيطر الرجال على العالم بعد إنهيار النظام الأمومي الذي كان شائعا في الكون منذ الازل ولابد من تصحيح هذه الاعتلال بإعادة الاعتبار للمرأة / الانسانة الذات وليس الموضوع والهدف والجسد .
وقد أبدعت -وفاء عبد الرزاق -باختيارها العتابات الانثوية حتى نستطيع ان نسمي نصوصها بنصوص العتبات بامتياز لأختيارها الدقيق لها لعلها تسهم بإيصال رسالتها الايديولوجية بسهولة الى المتلقي وإقامة جسور من الحوار معه بغية تغير قناعاته وزحزحة ما ورثه من أفكار ورؤى عن المرأة في محاولة منها كي تكون شهرزاد عصرها .,تروض الرجل كما روضت شهرزاد شهريار والعمل على تحطيم ثنائية المرأة / الرجل الجندرية والجنسية التي ترتكز الى الفروقات البيولوجية الى ثنائية المرأة / الرجل الانسانية التي تنهض على المشاركة لا الإقصاء .
كما أبدعت الكاتبة في قدرتها على التنوع والتكثيف والتجديد فهي مبدعة تحمل هاجس التجديد والتجريب في إبداعها المتواصل حتى لا نرى مجموعة تشبه اخرى ولا نصا يشبه اخر فمع كل نص جديد نرى إبداعا جديداً من حيث الاسلوب واللغة والدلالة والقدرة على التخيل و الجمال والانزياح عن المألوف , كما تميزت بموقف وواضح من الحياة والكون فهي تلتزم مشكلات الفقراء والمهمشين والقضايا والاجتماعية والسياسية .
الاحالات والهوامش:
1- النظرية الادبية: جونثاكلر, ت رشاد عبد القادر,دمشق,ط1, 2004
2- ينظر: كريس ويدون ,الممارسة النسوية والنظريات مابعد
البنوية ,ت باقر جاسم محمد ,مجلة الثقاثة الاجنبية ع1 ,السنة 19, 1998ص19-96
3- ينظر وعي الذكورة والمراة,حسين المناصرة ,مجلة فصول ,القاهرة ,ع 67 .س 2005,ص 183
4- ينظر: لغز عشتار –الالوهة المؤنثة واصل الدين والاسطورة
,فراس السواح,دمشق,ط8, 2002,ص 32
5- خطاب الرواية النسوية العربية المعاصرة ,د.رفقة محمد دودين ,عمان,ط1, 2007, ص448
6- ينظر:أ-المصطلحات الادبية الحديثة, دراسة ومعجم انكليزي عربي, القاهرة,ط3, 2003 , ص 180-193
ب- ينظر:حاتم الصكر ,انفجار الصمت-الكتابة النسوية اليمنية
دراسات ومختارات –صنعاء ط1 ,2003
7- النظرية النسوية الحديثة –في نقض بنية الفكر الابوي –,صبري حافظ ,مجلة الكاتبة , القاهرة , ع1,ك1 1993, ص36
8- ينظر ,سادنات القمر –سرانية النص الشعري الانثوي- ,محمد العباس,دمشق ط1, ص 21
9- ينظر القصة القصيرة السورية من التقليد الى الحداثة , دمشق ط1, 2005, ص199
10- ينظر: أ- ثريا النص –مدخل لدراسة العنوان- محمد عبدالوهاب، بغداد, الموسوعة الصغيرة ع 396, 1995،ص 31
ب- تشكيل المكان وظلال العتبات وظلال العتبات , معجب العدواني ,جدة, ط1 2009, ص7
11- ينظر: اللغة الشعرية وتجلياتها في الرواية العربية المعاصرة (1970-2000),ناصر يعقوب ,بيروت ط2004,ص156
12- ينظر :أ-عتبات جيراد جينيت -من النص المناص -, عبد الحق بلعابد ,الجزائر, ط 1 ,2008 ,ص 86-88
ب- دينامية النص , محمد مفتاح , ط ,1المركز الثقافي العربي /بيروت- الدار البيضاء, 1987, ص 161
13- امرأة بزي جسد - مجموعة قصصية-,وفاء عبد الرزاق ,درا الكلمة نغم,ط1, 2008. ص 3
14- ينظر:لغز عشتار -الالوهة المؤنثة واصل الدين والاسطورة- دمشق ,ط8 2002, ص34
15- ينظر :سيمائية السرد-بحث في الوجود السميائي المتجانس,د. محمد الداهي ,القاهرة ,ط1, 2009,ص230
16- امراة بزي جسد:ص5
17- نفسه :ص11
18- نفسه :ص13
19- نفسه :ص17
20- نفسه:ص24
21- نفسه:ص24
22- نفسه:ص 25
23- نفس:ص27
24- نفسه ص 28
25- ينظر: وعي الذكورة والمراة, ص199
26- امراة بزي جسد:ص33
27- نفسه34
28- نفسه:ص40
29- ينظر لغز عشتار : ص ,42
30- ينظر :المراة واللغة ,د. محمد عبدالله الغذامي, المركز الثقافي العربي- بيروت / الدار البيضاء- ط3, ظ2006 , ص99-100
31- أمرة بزي جسد :ص 45
32- نفسه :ص 45
33- نفسه: ص 35
34- نفسة: ص 57
35- نفسه :ص 65
36- نفسه: ص 66-67
37- نفسه : ص 70
38- نفسه: ص 75
39- نقط: وفاء عبد الرزاق-مجموعة قصصية-, القاهرة ط1 ,2010,ص3
40- نفسه: ص 4
41- نفسه : ص 6
42- نفسه: ص 9
43- نفسه :ص 17
44- نفسه: ص 18
45- نفسه :ص 25
46- نفسه :ص 26
47- نفسه: ص 37
48- نفسه: ص 38
49- نفسه: ص 47
50- نفسه :ص 46
51- نفسه: ص 48
52- نفسه: ص 53
53- نفسه :ص 54
54- نفسه: ص 63ِ
55- نفسه: ص 62 َِ
56- نفسه: ص 71
57- نفسه: ص 73
58- نفسه: ص 74
59- نفسه: ص 74
60- نفسه: ص 81
61- نفسه: ص 86
62- نفسه: ص91
63- نفسه: ص 95
64- نفسه: ص 97
65- نفسه: ص 103
66- نفسه:105
67- ينظر: سادنات القمر –سرانية النص الشعري الانثوي-,ص 228
68- الغذامي:200
69- نفسه: 75
70- ينظر اللغة المنسية ,ارك فروم ,ت حسن قبيسي , بيروت / الدار البيضاء ,ط1 1992. ص96
71- بعض من لياليها –مجموعة قصصية-, وفاء عبد الرزاق,ط1, القاهرة , 2010 ,ص2
72- نفسه: ص 2
73- نفسه: ص4
74- نفسه: ص11
75- نفسه:ص14
76- نفسه: ص 15
77- نفسه: ص15
78- نفسه: ص 24
79- نفسه: ص 29
80- نفسة: ص 31
81- نفسه : ص 13
82- نفسه: ص 40
83- نفسه : ص 41
84- نفسه: ص 47
85- نفسه: ص 50
86- نفسه : ص 48
87- نفسه : ص 53
88- نفسه: ص 60
89- نفسه: ص 68
90- نفسه : ص 71
91- نفسه : ص77
92- نفسه : ص 80
93- نفسه : ص 84
94- نفسه: ص 85
95- نفسه: ص 91
96- نفسه: ص 95
97- نفسه: ص 98
98- نفسه:103
99- نفسه:ص 113
100- نفسه: ص 118
101- نفسه : 123