نبذة تاريخيّة موجزة عن حيّ الميدان بدمشق:
حي الميدان واحد من الأحياء القديمة والعريقة بدمشق، واكب في تاريخه الطويل جميع العصور التاريخية التي مرت بها مدينة دمشق، وتركت به تلك العصور كمّاً هائلاً من معالم الحضارة وتراث الأجداد ورونق الماضي. لذلك كلهن صار اسم الميدان اليوم مقترناً بالعراقة المستندة إلى تاريخ حافل، وباشتهار أهله بالجود والنّخوة والكرم والشجاعة، والمحافظة على شعائر الدين ومكارم الأخلاق.
والميدان أكبر ضواحي دمشق على الإطلاق، في جهتها الجنوبية. أقدم ذكر له كان في العهد الفاطمي، كما ورد لدى المؤرخ الدمشقي أبي يعلى القلانسي فلي كتابه «ذيل تاريخ دمشق» في حوادث سنة 363هـ. والجدير بالذكر أن به إلى اليوم مسجد قديم يعود إلى العهد الفاطمي، يٌعرف بمسجد «فلوس».
ثم في القرن السادس الهجري، يذكره ابن عساكر في «تاريخ مدينة دمشق» بقوله: «حارة الميدان المعروفة بالمنية». ولكن ثمّة رأي للباحث عيسى اسكندر المعلوف أن الميدان يعود إلى أقدم من ذلك، إلى العهد الأموي تحديداً، فيقول: «وعقد الوليد بن عبد الملك ميداناً لسباق الخيل، ولا يزال ذلك المضمار إلى يومنا يُعرف بالـ «ميدان»، وهو من أحياء المدينة المشهورة في غربها الجنوبي».
والواقع أن المنطقة سميّت بذلك لأنها كانت ميداناً رحباً واسعاً، تُقام فيه سباقات الخيل وجميع ضروب الفروسية من مبارزة ورماية ومصارعة. على أن الميدان لم يكن مقتصراً على هذه السباقات كما يرى الباحث الفرنسي جان سوقاجيه، بل كان ينزل به ويخيّم كلّ من تضيق المدينة عن إيوائه من الناس، كمواكب الأمراء والوفود والجيوش والقوافل.
هذا ولقد كان اسم الميدان قديماً لدى مؤرخي القرون الوسطى يقترن بتسمية: «ميدان الحصى»، وكانت هذه التسمية مختصّة، بالمحلّة المحاذية لجامع باب المصلّى، التي كانت لقربها من المدينة أول ما سُكن من أراضي الميدان، وعُرفت أيضاً بالـ «الميدان التحتاني». ثم شاع اسم «ميدان الحصى» ليشمل الضاحية برمّتها. وسبب تسميته بذلك كما هو واضح عائد إلى تربته اللحقيّة المفروشة بالحصى، بسبب وقوعه على مفاض سيل فرعي بردى القنوات والدّاراني، فكان في سنوات المطر الغزير تنساح أرضه بالحصى المترسّب في مهد السّيل.
هذا ولم تشهد ضاحية الميدان العمران الفعلي حتى عهد الدولة المملوكيّ (648-923هـ)، فقبل هذا العهد كانت المدينة تقوم ضمن السّور، ولم يكن خارجها ضواح كثيفة العمران بالمعنى الحقيقي (ما خلا العقيبة والصّالحية)، بل مجرّد قرى وتجمّعات سكنية منفردة لا تشكل كثافة سكانية. ويعود ذلك لقلة عدد سكان المدينة من جهة، ولانعدام الأمن والاستقرار خارج الأسوار من جهة أخرى بسبب الحروب الصليبية، وكثرة القلاقل بين فئات العسكر.
وقبل العهد المملوكي، كانت حماية حي الميدان موكلة إلى جماعة من شبّان الحي عُرفوا بلقب «الأحداث»، أي الفتيان، وكانوا النواة الحقيقية للمقاومة الشعبية ضد الغزاة الصليبيين والتتار، اتصفوا بالجرأة والصلابة وسرعة الحركة والمناورة، وكانت لهم تنظيمات شبه صوفية تقوم على مبدأ «الفتوة» بما تحمله من معاني النجدة والفداء والاستماتة في الدفاع عن الوطن والعرض وصدق الكلمة والوفاء بالوعد. وهؤلاء الأحداث كانوا في الواقع الأصل القديم لفئة «القبضايات والزكرتيّة» المعروفين لاحقا، مع ملاحظة أن هذه التسميات شاعت في العهد العثماني.
لذلك ينبغي لنا ملاحظة أن منبع هذا التنظيم الشعبي بمدينة دمشق إنما كان حيّ الميدان تحديداً، ولذلك فلا عجب أن نرى حيّ الميدان يضحي تحديداً بمثابة قلب الثورة السورية ضد الاحتلال الفرنسي (1925) كما سنرى.
في العهد المملوكي بدأت الضواحي السكنية بالظهور خارج الأسوار، فمنها السويقات خارج أبواب المدينة كالسويقة المحروقة وسيوقة صاروجا، عدا التوسعات التي طرأت على الصالحية والعقيبة. ومنها أيضاً ضاحية الميدان التي بُدئ بعمارتها، فظهرت فيها المساجد وبعض المدارس، واشتهرت بزواياها على الخصوص.
وما زال عدد كبير من هذه الآثار مائلاً إلى أيامنا، ومنها: جامع منجك، المدرسة القُنشليّة، الزاوية السّعديّة، تربة أراق السِّلَحدار، تربة النائب تنم (التّينبيّة)، تربة الشيخ حسن ابن المزلّق، وعدد من الترب المملوكيّة الأخرى. ولا نجد في الميدان اليوم أي بناء يعود إلى العهد الأيوبي، بل كانت آخر حدود أبنية هذا العهد عند محلّة باب المصلّى وشماليّها السويقة.
وبالطبع استمرّت النهضة العمرانيّة والمعماريّ في الحي بالعهد العثماني، وكانت أرض الميدان قبل ذلك مجموعات منفصلة وقريّات، مثل «القُبيبات» التي كانت نواة حي الميدان الفوقاني (القسم الجنوبي من الميدان). فأخذت هذه الأحياء بالاتساع، حتى ارتبطت ببعضها وصارت ضاحية كاملة كبيرة متطاولة الشكل جنوبي دمشق، تربوا عليها بالحجم! ويذكر كثير من الرّحّالين الأوروبيين الذين زاروا دمشق في العهد المملوكي أن مساحة الضواحي تبلغ أضعاف مساحة المدينة الأصليّة المسوّرة. وأن الأسواق العامة (البازارات) كانت تُقام في الضواحي، وأما المتاجر والأسواق المغطاة والبَزستانات (أسواق الثياب والأقمشة) وأسواق البضائع الثمينة (الذهب والمصنوعات والتوابل) فضمن نطاق السّور.
ومن آثار العهد العثماني في الميدان: جامع مراد باشا من أواخر القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي)، حمام فتحي من القرن الثاني عشر الهجري (الثامن معشر الميلادي). كما تعود أكثر دور الميدان الفخمة إلى هذا العهد، ولكن للأسف تم هدم عدد كبير من هذه الدور الجميلة أواخر السبعينات عند شق الطريق المحلّق الجنوبي، كان من أجملها دار الموصلي ودار البيطار.
يتبع