إضاءة على كتاب
الأمثال في خماسيّة "مدن الملح"
للأديب والكاتب "محمد موسى العويسات"
بقلم الروائي - محمد فتحي المقداد
المقدمة:
خماسيّة "مُدُن الملح" الروائيّة للروائي "عبدالرحمن منيف"، وهي على التوالي: "التّيه". و"الأخدود". و"تقاسيم اللّيل والنّهار". و"المُنبَتّ". و"بادية الظّلمات". وفي الفصل الأوّل من الكتاب أورد الكاتب سيرة الروائيّ عبدالرحمن منيف، وسلط الضوء على ولادته ونشأته، بتاريخ موجز اشتمل لنشاطاته السياسيّة، وتكوينه الأدبيّ، ووفاته، وعرّج على آثاره العلميّة والأدبيّة، وهو أمرٌ لا بُدّ منه، لأنّ آثاره الروائيّة المُندرجة تحت المُسمّى الأشهر "مدن الملح" هي المقصودة بالدّراسة، حيث أنّ هذا المُسمّى غطّى على عناوين الأجزاء الخمسة، التي ورد ذكرها آنفًا، رغم أنّ كلّ رواية منها تختلف بكثير أو قليل عن الأخرى، ولكنّ الخيط النّاظم لسلستها، هو مُسمّى مدن الملح، التي تُعتبر هي وثيقة مُهمّة تتحدّث، وتُؤرّخ للحياة البدويّة وظواهرها وخفاياه، التي بقيت قرونًا مُنزوية في مجاهل الصّحراء. ومع هبوب رياح الحضارة التي جاءت مع استخراج البترول في المنطقة الشرقيّة في المملكة العربيّة السّعودية، وما استتبعها من تغيّراتٍ جذريّة، وعميقة قلبت المُجتمع البدويّ المُتتبّع للماء والكلأ على أطراف الصّحراء، وفي أعماقها، ترافَقَ ذلك مع الانقلاب الاجتماعيَ والاقتصاديَ والسياسيّ؛ الأمر الذي غيّر بُنية الحياة وأنماط التفكير، لدى عموم أهل الجزيرة العربيّة.
وكان ذلك بمثابة ثورة اجتماعيّة قلبت الكيان القبلي والعشائري، المُستقرّ منذ مئات السّنين رأسًا على عقب، وخلقت علائق عميقة؛ بتحديد هُويّة اجتماعيّة مُغايرة تمامًا، ورسمت صورة نمطيّة للعربيّ بثوبه وعباءته، وغطاء رأسه، وعقاله، وخاصّة ما حاول تسويقها الإعلام الغربيّ المُعادي للعرب والمُسلمين، لترسيخ مفاهيم لا تتزحزح من أذهان جماهير العالم من غير العرب.
فكان من الضروريّ لإيراد سيرة عبد الرحمن منيف. الذي ترسّم كلّ ذلك بالتّفصيل الدّقيق، بالإشارات والتّرميز والتّوضيح، وترك مساحات هائلة من المساحات والمشاهد الخفيّة، التي تجعل القارئ شريكًا معه في النصّ، وخلق حالات كثيرة من التّساؤلات عنده.
وفي استهلاله قبل المُقدّمة أورد الأستاذ العويسات، مقولة الجاحظ، لتبرير اختياره لموضوع دراسة الأمثال في خماسيّة مدن الملح: (كان الرّجل من العرب، يقفُ فيُرسِلُ عدّة أمثال سائرة، ولم يكن النّاسُ جميعًا، ليتمثّلوا بها إلّا لما فيها من المِرفقِ والانتفاع).
دلالة عنوان الخماسيّة "مدن الملح":
وفي فلسفة عنوان خُماسيّة "مدن الملح"، أرى أنّ البيوت والمُدُن تُقام على أساسات صخريّة، وإسمنتيّة مُسلحّة؛ لمُقاومة آثار وعوامل الزّمن، وما وصف المدن بأنها مُدن ملح، إلّا إشارة الملح لافتة إلى هشاشة الملح ذو المنشأ الصخريّ والبحريّ، ولا يستطيع مُقاومة الماء؛ فيذوب ويسوخ انحلالًا، مُتّحدًا بلونه مع الماء الذي يُشكّل نسبة 75بالمئة من الكرة الأرضيّة مُقابل اليابسة.
رغم أهميّة ماء البحار المالحة في حفظ الحياة البحريّة على الأخصّ، والملح كمادّة خلقها الله فهي مُرادفة لحكمة حفظ الكون من التفسّخ والتعفّن، ومُحارية كثير من الفيروسات الفاتكة لأسباب استمراريّة الحياة على الكُرة الأرضيّة، وبالنسبة للإنسان؛ فإنّ الملحً أساسيٌّ وضروريٌّ لبناء جسم الإنسان وتماسكه وتوازنه، رغم أهميّته العُظمى وهو أحد تشكيلات البيئة الحياتيّة بمختلف أنواعها، إلّا أنّه غير صالحٍ قطعًا لاتّخاذه أساسًا لأيّ معمار ماديّ ذي حجم وجُرْم.
ممّا تقدّم فإن "عبد الرّحمن مُنيف" بنى رؤيته الروائيّة، على هذا المنحى الذي اتّخذه مسلكًا سرديًّا، لإيصال رسائله السياسيّة على اعتبار أنّه يُعتبر من أشهر المُنشقّين المُعارضين السّعوديّين تاريخيًّا. والرّسالة الأخرى ببُعدها الاجتماعيّ على اعتبار أنّه من أصل سعوديّ، حيث عاش حياته منفيًّا وممنوعًا من دخول المملكة، وفي رسالته الاقتصاديّة؛ فإنّه يرى أنّ سيأتي الوقت لنضوب النّفط؛ لتتوقّف الحياة ومن ثمّ لا بد من تراجعها ارتدادًا للوراء.
كتاب الأمثال في خماسيّة "مدن الملح":
أ- برأيي يُعتبَر كتاب "الأمثال في خماسيّة "مُدُن الملح"، للأستاذ الأديب "محمد موسى العويسات"، موضوعًا بٍكْرًا لم يُطرَق سابقًا، واشتعل عليه باهتمام، وتتبّع لموضوع الأمثال التي وردت في مجموعة روايات عبد الرحمن منيف، الموسومة بــ"مدن الملح".
وهذا البحث تأسيس لجانبٍ مُهمٍّ طرقته الخُماسية، حيث شكّل ظاهرة تستحقّ المُلاحقة والتدوين بالملاحظة والمقارنة، وذلك لما تُمثّله الأمثال الشعبيّة في حياة الشّعوب عامّة، ولأنّها خُلاصة تجربةٍ حياتيّةٍ، وعصارة كلام، تُقال باختصار اعتبارًا من كلمة واحدة، حتى عبارة أو اثنتيْن، ولما تُشير إليه من دلالات ذات أبعاد، تنطبق على حالة حاضرة، وهو نوع من الأدب المُقارن بجانب منه.
والشّيء بالشّيء يُذكر، فإنّ محمد موسى العويسات، قد أضاف للمكتبة العربيّة كتابه هذا، ليصطفّ إلى جانب "مجمع الأمثال للميّدانيّ", وكتاب "الأمثال للظُبّي" والكتب الكثيرة التي وثّقت الأمثال الشعبيّة في مختلف البيئات الاجتماعيّة.
كما أنّ الأمثال ظاهرة قرآنيّة كُتب عنها الكثير من الدّراسات والأبحاث. استهدفت هذه الأمثال الأقوام البائدة والهالكة؛ لأخذ العبر والدّروس والعِظَات ممّا أصابهم، ولكي لا تقع البشريّة بنفس المطبّات التي وقع فيها من قَبْلَهم.
ب- وفي منحًى آخر، قبل البدء بالدّراسة أورد الأستاذ العويسات موجزًا مُقتَصَدًا عن كلّ رواية، مُشيرًا إلى طُرُق وشِعاب موضوعها الذي سلكته، وتمحورت عليه مُعظم أحداث العمل الروائيّ.
ج- في الفص الثاني أورد العويسات الكثير من الأقوال والدّراسات التي قيلت وكُتبت عن مدن الملح، وبرؤى متوافقة ومختلفة بأبعادها التحليلية، المُستندة على دلالاتها السرديّة.
د- وفي فصل لاحق، بيّن أهميّة الأمثال في الحياة منذ بدء الخليقة، وأورد التعاريف العديدة عن العلماء الأقدمين وما كتبوا في هذا المجال بين القديم والحديث.
الخاتمة:
كتاب الأستاذ العويسات حقيقة هو وثيقة أدبيّة يُعتدّ بها، وقد اتّضح الجهد الذي بذله، في تتبّع الأمثال في الخماسيّة، كما أنّه وثيقة اجتماعيّة وثّقت حياة الصّحراء والبدو، ومُستلزمات الحياة بتبعاتها، وجاءت على المقارنات مع الأمثال المشهورة منها في أماكن أخرى، ومع تطابقها مع الأمثال العربيّة القديمة والشّهيرة. جُهدٌ طيّبٌ مُبارك؛ أضاف إلى معارف قارئه ثقافة جديدة، بلمسة خبيرة عارفة، وعلى دراية كافيّة بالجذور اللّغويّة، وارتباطاتها باللغة العربيَّة الأمّ، وهو أحد أساتذتها ومُعلّميها في القدس الشّريف.
عمّان – الأردن
ـــــــــا 23\ 4\ 2021